الانتخابات في فلسطين : بين الضرورات الوطنية والرؤية الدولية

:توطئة وخلفيات 
لطالما كانت الانتخابات أداة قياس ثقة الجمهور بقواه السياسية و الحزبية، و المدخل الوحيد لاكتساب الشرعية السياسية و الدستورية، وعلى هذا الأساس تحمّس الفلسطينيون بكافة مكوناتهم لخوض تجربة الانتخابات لبناء نظامهم السياسي على أسس ديمقراطية، و بما يضمن تمثيلاً عادلاً للفاعلين الأساسيين في المشهد الفلسطيني، بدأ الفلسطينيون  أولى تجاربهم في خوض انتخابات عامة تشريعية و رئاسية في العام 1996 ، حيث شهدت هذه الانتخابات درجة من الشفافية و الالتزام بمعايير العملية الانتخابية في الدول المتقدمة في هذا المجال، وفقاً لتقييم مؤسسات من المجتمع المدني، و بشهادة مراقبين من الأمم المتحدة و الاتحاد الأوربي ، على الرغم من أن هذه الانتخابات جرت في ظروف استثنائية على المستوى الفلسطيني،  حيث رفض قطاع واسع من الفلسطينيين هذه الانتخابات، باعتبارها أتت كوسيلة لاضفاء الشرعية على اتفاق أوسلو الموقع في 13 سبتمبر 1993 ، بين منظمة التحرير الفلسطينية و "اسرائيل"، وكانت هذه الاتفاقية قد قوبلت برفض واسع من غالبية القوى والفصائل الفلسطينية، وعلى رأس تلك الفصائل حركة حماس، و في ضوء هذا الموقف نظرت حركة حماس الى الانتخابات باعتبارها مدخل لتكريس شرعية سلطة انبثقت عن اتفاق مجحف بالحقوق الفلسطينية التاريخية.
 
:فوز حماس وحقبة جديدة
انطلاقاً من هذه الخلفية التاريخية ، و في ضوء فهم الخلفيات و الدوافع المختلفة للأطراف الفلسطينية من هذه التجربة، قد نستطيع قراءة الموقف و تقديم تفسير للأحداث التي تلت تلك المرحلة، و تمثل انتخابات 2006 التي شاركت به أغلب القوى الفلسطينية النقطة الأبرز في مسار التفاعلات الفلسطينية، بل يمكن النظر اليها باعتبارها أسست للنقاش الفلسطيني الدائر اليوم بعد عقد ونيف على  تلك الانتخابات، التي حققت فيها حركة حماس فوزاً مستحقاً على حركة فتح، بفارق كبير في عدد المقاعد في المجلس التشريعي، إذ حصدت كتلة التغيير والاصلاح التي شكّلتها حركة حماس لخوض الانتخابات التشريعية 73% من مقاعد المجلس التشريعي، ومذاك دخلت السياسة في فلسطين منعطفاً جديداً على صعيد التنافس على الشرعية والأوزان المستحقة لهذه الأطراف في المؤسسات و الأطر القيادية للشعب الفلسطيني، وعلى رأس هذه المؤسسات منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وعليه بدأ الفلسطينيون مرحلة جديدة من التدافع الذي تطور الى صراع على من يملك الشرعية، مرة بالسياسة وتارة بالعنف ، كما جرى فيما عرف "الحسم/الانقلاب" في غزة حيث استطاعت حركة حماس السيطرة على قطاع غزة، مما أدى إلى خروج قادة السلطة وأبرز كوادرها الى الضفة الغربية، ليبدأ فصل جديد من تاريخ الشعب الفلسطيني سمته الرئيسية الانقسام السياسي و الجغرافي على الأراضي التي كان يجب أن تقام عليها الدولة الفلسطينيية.
بمعزل عن الدور المركزي الذي لعبه الإحتلال في تغذية التناقضات الداخلية الفلسطينية،  وصولاً لمنع الفلسطينيين من العودة الى الوضع السابق للانقسام، عن طريق التهديد و عن طريق الإجراءات و التدابير التي تتخذها للحيلولة دون التئام شمل الفلسطينيين، وانضوائهم جميعاً تحت سقف شرعية ونظام سياسي واحد، يوحد جهودهم و كفاحهم السياسي و النضالي ضد الاحتلال، فإننا كفلسطينين يجب نتحلى بالشجاعة كي نعترف بالمسؤولية السياسية والوطنية لما آل إليه واقع الفلسطينيين اليوم.
فإذا أردنا تلخيص ما جرى مع الفلسطينيين بشأن الانتخابات فإننا نستطيع القول أن الانتخابات العامة الأولى، جرت كمحاولة لإضفاء الشرعية على المؤسسات التي انبثقت عن اتفاق أوسلو، و منحت أولئك الذين وقعوا اتفاق أوسلو الغطاء الشعبي لقيادة تحول في المشروع الوطني الفلسطيني  الىمشروع سلطة وظيفية، على أمل الوصول الى دولة منقوصة السيادة في الشكل و الجوهر، أما الانتخابات الثانية التي فازت فيها حركة حماس ، فقد أفضت الى نتائج لا تزال آثارها وتبعاتها السلبية والمدمرة على المشروع الوطني ماثلة الى الآن، بحيث قيدت فعل المقاومة وقدرتها على المناورة من جهة،  و أسست لانقسام سياسي و جغرافي لازال متواصلاً و بالمحصلة وضعت الشرعيات الفلسطينية جميعها موضع شك و الريبة داخلياً و خارجياُ.
  
:انتخابات على بنى الانقسام
:انتخابات على ركام الانقسام

اليوم تتداول الأوساط الفلسطينية امكانية اجراء انتخابات في غضون الأشهر الستة القادمة ، بناءاً على قرار صادر عن المحكمة الدستورية التي أقدمت على قرار حل المجلس التشريعي- المعطّل منذ العام 2007 بمرسوم من الرئيس أبو مازن بما يتجاوز صلاحيته التي نص عليها القانون الاساس للسلطة الفلسطينية- ، ودعت لاجراء انتخابات تشريعية في غضون ستة أشهر، الأمر الذي قاد الى إعلان الرئيس أبو مازن التزامه بقرار المحكمة الدستورية، في حين رفضت حركة حماس قرار أبومازن و دعت الى اجراء انتخابات شاملة ومتزامنة رئاسية و تشريعية و مجلس وطني على أساس الاتفاقات الموقعة في العام 2011 و 2017 بين كافة الفرقاء الفلسطينيين، تتفاوت التقييمات بشأن هذه الانتخابات و الدوافع التي أفضت الى قرار الدعوة لانتخابات تشريعية حصراً، فيما تم استبعاد الانتخابات الرئاسية و المجلس الوطني بما يخالف كل التوقعات، في حين تتباين التوقعات بشأن القدرة على اجراء هذه الانتخابات من الاساس في ظل رفض حركة حماس لهذه الصيغة، التي تعتبرها تخدم أجندة أبومازن على حسابها، ففي الوقت الذي  يرى البعض أن هذه الانتخابات ربما تشكّل فرصة للخروج من المأزق الحالي للفلسطينيين، المتمثل بالانقسام و انسداد الافق السياسي لمشروعي المقاومة و التسوية، عن طريق طرح كل من حركة حماس و فتح نفسيهما للثقة أمام الشعب الفلسطيني ، بحيث يستطيع الطرف الذي نال الثقة ان ينفذ برنامجه و اطروحاته التي حظي بثقة الجمهور الفلسطيني على أساسها، وينظر البعض الى هذه الانتخابات كفخ جديد وامتداد للانتخابات السابقة، بما اعقبها من تحول في المشروع الوطني الفلسطيني نحو الانكماش و التراجع، ويرى هذا الفريق انه لا يمكن اجراء انتخابات في ظل الاحتلال و الانقسام ، وإنه لا ضمانات من المجتمع الدولي و الاقليمي للقبول بهذه بنتائج هذه الانتخابات ، و كذلك لا ضمانات واضحة حول الكيفية التي ستجري فيها الانتخابات في المناطق التي تخضع للاحتلال خصوصاً في القدس، و الاهم ايضاً ان هذه الانتخابات استثنت موقع الرئاسة من الانتخابات، بما يوحي بأن هذه الانتخابات محاولة تقويض ما تبقى من شرعية تتمتع بها حركة حماس، في ضوء قرار حل المجلس التشريعي و غياب الضمانات المتعلقة بنزاهة الانتخابات في المناطق التي تخضع لها السلطة أي في الضفة الغربية.
 يميل تيار عريض من الفلسطينيين في غزة، خصوصاً اولئك المحسوبين على حركة حماس، الى رأي تعطيل هذه العملية طالما لا تلبي الشروط و المتطلبات التي تضمن نزاهة و نتائج هذه الانتخابات، واذا ما مالت الكفة لمثل هذه الاراء فإننا سنكون على اعتاب مرحلة جديدة على صعيد شكل الكيانية الفلسطينية، بحيث يتحقق كما يقال مشروع فصل قطاع غزة عن الضفة بشكل نهائي، ولكن توجد قراءة ثالثة لهذه الانتخابات تحديداَ، حيث يعتقد بعض الخبراء بأن هذه الانتخابات تمثل مدخلاً لاعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس جديدة، بعدما تعرضت كافة القوى السياسة الفلسطينية الى الانهاك والاستنزاف وبالتالي الاضعاف ، في حين تلوح في الافق بعض المجموعات و الشخصيات التي تتطلع الى لعب اداور على صعيد الساحة الفلسطيني ، و بعض تلك الشخصيات تربطها علاقات وطيدة ببلدان غربية و تحديداً بالولايات المتحدة الامريكية. 
 
..نحو نظام سياسي جديد
المقصود هنا هو اعادة ترتيب العلاقات داخل البيت الفلسطيني و الأوزان و التحالفات، بما يضمن بناء نظام سياسي يرتكز على منع أي كتلة سياسية من الهيمنة على النظام، و كذلك حاجة هذه الكتل الى التحالف مع كتل أخرى و شخصيات ، من أجل ضمان أن لا تتعرض الحكومة الفلسطينية للحصار مجدداً من قبل ما سمّي المجتمع الدولة " الرباعية الدولية"، في ضوء التجارب السابقة ابان الحكومة العاشرة و الحادية عشر التي شكلتها حركة حماس بعد فوزها بالانتخابات، وإذا سلمنا بالفرضية القائلة بأن السلطة بقدر كونها سلطة للفلسطينين إلا إنها في المقابل كيان دولي أنشأ بقرار دولي، بما لا يتعارض مع مصالح الجانب الاسرائيلية وعبر خلق وظيفة و ادوار أمنية لهذه السلطة، لضمان بقاءها واستمرار الدعم المقدم لها من قبل الجهات المانحة، ومما يعطي لهذا السيناريو درجة عالية من الاحتمالية ، هو ان لهذا السيناريو قدرة على  تجاوز أزمة الفراغ الدستوري لما بعد أبو مازن، في ضوء أنها ستكون هناك حكومة قوية ورئيس مجلس تشريعي جديد، بحيث يتم تفادي وصول رئيس التشريعي الحالي من المحسوب على حركة حماس الدكتور عزيز دويك إلى موقع الرئاسة، ولاحقاً لربما يتم تحول النظام السياسي الى برلماني بشكل كامل والتخلي عن موقع الرئاسة كما تنبأت و بشرت في ذلك دراسة أمريكية في العام 2017 ، بأن أبو مازن هو آخر رئيس للفلسطينيين، كما أن هذا السيناريو يخلق امكانية عالية للتعامل مع واقع غزة و الازمات الانسانية و المعيشية التي يعيشها السكان، وحيث من المأمول أن يغدو قطاع غزة بالنسبة لاي حكومة فلسطينية قادمة على رأس الأولويات، وربما تصبح غزة مركز عمل هذه الحكومة ومؤسساتها، وهو ما يتماشى مع الرغبة الدولية و حتى الاسرائيلية، بحيث تتحول الى البديل المقبول عن سيطرة حماس الحالية على القطاع، و الخشية المرتبطة بالفراغ الناشئ عن تقويض سلطة حماس على القطاع، ارتباطاً بانهيار الاوضاع المعيشية اذا ما استمرات سياسة الحصار و الخنق الاسرائيلية.
المؤشرات السابقة ربما تشجع على الاعتقاد أن هذه الانتخابات هي رغبة دولية مفروضة على الكل الفلسطيني بما فيها الرئيس أو مازن و حركة فتح،  إذا ما اضفنا معطيات اضافية فإننا سنلمس جدية هذا التوجه،  فالزيارة التي قام بها رئيس لجنة الانتخابات المركزية حنا الناصر الى قطاع غزة للحصول على موافقة من قبل حركة حماس ببدء عمل لجنة الانتخابات المركزية في قطاع غزة، و كذلك الدعوة التي أطلقها التجمع الوطني الديمقراطي وهو تجمع يضم خمس فصائل فلسطينيية تنتمي الى اليسار لاجراء انتخابات على أن تكون شاملة ولا تقتصر على المجلس التشريعي، وما اعقبه من ترحيب من قبل القيادي في حركة حماس حسام بدران المكلف بملف العلاقات الوطنية في الحركة، جميع هذه المعطيات تجعل من خيار الانتخابات خياراً ممكنا فلسطينياً و مطلوباً دولياً وأمريكياً وأوربياً على وجه التحديد، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي كان قد دعى الى هذه الانتخابات عبر بيان خاص بهذا الاطار، بل مارس ضغوطاُ قوية على السلطة كي تقبل خيار الانتخابات، و بالمحصلة يبدو خيار الانتخابات هو مطلب دولي و ممر اجباري ايضاً للفلسطينيين للخروج من المأزق الحالي، وكذلك ستشكل هذه الانتخابات نقطة ارتكاز لتحفيز التحولات الضرورية في خارطة التحالفات و الأوزان على الصعيد الفلسطيني وهو ايضا مطلب دولي وربما اسرائيلي ايضاً

:خاتمة
يعاني الفلسطينيين اليوم من أزمة عميقة على صعيد هيكل اتخاذ القرار السياسي ، بسبب انقساماتهم و تعدد مراكز القوى و تآكل شرعياتهم، الأمر الذي يسهل عمليات التأثير والضغط على قراراتهم السياسية، الأمر الذي يجعل قرارتهم وتوجهاتهم السياسية يتحكم بها العامل الخارجي الذي يؤدي دوراً حاسماً في بعض الاحيان، ولا سبيل لتخلص من تأثير هذا العامل الخارجي الا ببناء استراتيجية وطنية قادرة على تأطير طاقات الشعب الفلسطيني، في مشروع يستوعب التغييرات في البيئة الاقليمية و الدولية، عبر الاستجابة لها ببرامج مرحلية اذا تتطلب الامر، لكن يجب ان لا تتخلى هذه الاستراتيجية عن هدفها بعيد المدى، المنسجم مع مبادئ الحركة الوطنية و ثوابت الشعب الفلسطيني غير قابلة للمساس أو التنازل.