الجدل حول دور حفتر في ليبيا

فيما أثار اتساع الجدل حول ارتباك الحالة الصحية لـ"خليفة حفتر" ، فإن عودته تثير أيضاً الكثير من التساؤلات حول مستقبل السياسة في ليبيا، حيث يمكن النظر إليه كمتغير جوهري، وذلك باعتبار أنه شكل كتلة سياسية وعسكرية يصعب تجاهلها، وبالتالي، فإنه من الأهمية مناقشة الخلفيات الداخلية والخارجية وراء تكوين تحالفات حفتر وتأثيرها على المفاضلة ما بين الحلول السياسة والتطلعات العسكرية.

تصورات حفتر للجيش

دارت تصورات خليفة حفتر، حول محورية دور الجيش في السياسة الليبية، فقد تركزت تحركاته على وضع الجيش في قمة العملية السياسية واعتباره شأناً خاصاً به ولايخضع للسلطة المدنية، وكانت هذه الجزئية محور الخلاف حول المادة (8) من المحلق الإضافي للاتفاق السياسي، فحسب وجهة نظر حفتر، لم يكن رفضه لاتفاق الصخيرات مرتبطاً ببقائه في المنصب، ولكنه كان أكثر اهتماماً بصلاحيات القائد العام ودوره السياسي، ولذلك كان أكثر وضوحاً في اجتماعه مع "السراج" (رئيس مجلس رئاسة حكومة الوفاق) بفرنسا في يوليو 2017، وذلك عندما رفض فتح النقاش حول الجيش .

وبشكل عام، تذهب تصورات حفتر عن تركيبة السلطة إلى أن الدولة تعمل تحت تبعية البرلمان بجهازين مستقلين؛ العسكري (الجيش) والسياسي (المجلس الرئاسي). وفيما يعتبر إدارة الشؤون العسكرية خاصة به، فإنه يسعى للدخول للمسار السياسي، وبالتالي، يطرح نفسه كسلطة عليا لا تتناسب مع وضعه كقائد للجيش،  وبالتالي، يمكن تعريف وضع حفتر في السياسة الليبية بأنه أقرب للنفوذ بما يتجاوز للصلاحيات الدستورية والقانونية.

لعل المسألة الأكثر تحدياً لوضع الجيش، تتمثل في أنه ظل كياناً منقسما، ويعكس ملتقى ضباط الجيش في "زوارة" ( 14 مايو2017) واحداً من مظاهر الانقسام، وذلك عندما صنف رئاسة الأركان العامة "الكرامة" كمجموعة مسلحة خارجة على القانون، وخلال هذا الفترة لم تشهد مفاوضات توحيده في القاهرة تقدماً ملموساً وظلت عند مستوى المشاورات التمهيدية.

لم تتمكن عملية الكرامة من تطوير الجيش، فعلى مستوى "الجيش الوطني"، لم يترتب على سياسات الكرامة حدوث تغيرات جوهرية، فمنذ 2014، ظلت تعتمد بشكل أساسي على الاستعانة بعناصر مدنية من خارج الجيش، وكان أهمها انخراط السلفية المدخلية في كتائب نوعية بالجيش بشكل يتنافى مع فكرة استبعاد الانتماءات الأيديولوجية أو المؤسسية.

ويمكن النظر لتشكيل الكتائب السلفية وانخراطها في الصراع المسلح كتعبير عن ظاهرة التدخل الإقليمي في الشئون الليبية، وليست تعبيراً عن خصائص السلفية المدخلية القائمة على الوعظ والارشاد، فبالنظر للعقيدة السياسية للمكونات المدخلية، يمكن القول، أن استمرارها في الصراع المسلح يرتبط بموقف العربية السعودية تجاه بناء السلطة في ليبيا.

تحديات الانتشار والسيطرة

على الرغم من إعلان "حفتر" عن تحرير بنغازي، فإنه لم يتمكن من بسط سيطرته التامة على المنطقة الشرقية، فقد ظهرت انقسامات عسكرية واجتماعية قللت من قدرته على تطوير مشروعه العسكري، سواء تجاه الجنوب أو الغرب، فقد ترافق استمرار تحركاته العسكرية مع تنامي الانقسامات اجتماعية، وقد ظهرت هذه التباينات في اختلاف مواقف قبيلة "العواجير" تجاه مستبقل الحرب التي يشنها حفتر، وقد بدت نتيجة الانقسام في إعلان فرج قعيم" الانضمام لحكومة الوفاق الوطني كوكيل لوزارة الداخلية، لكنه انتهى به المآل لدخول سجون "حفتر" بعد تخلي القبيلة عنه.

واقعياً، لايمكن ملاحظة تواجد حاسم أو ملمومس لخليفة حفتر أو مؤيديه في المنطقتين الجنوبية والغربية، وقد فشلت كل محاولاته منذ 2014 في الولوج خارج المنطقة الشرقية، منذ تكسر قواته الأساسية في محاولة دخول طرابلس في يوليو 2014 أو السيطرة على القواعد العسكرية في "سبها" و "وادي الشاطئ". هذه النتائج تبدو مهمة في فهم طبيعة وخصائص المناطق البعيدة عن سيطرة حفتر وحلفائه الإقليميين والدوليين، وذلك باعتبار أنها على احتمالات التقدم في المسار العسكري، بعد توقعات باكتسابه زخماً في سياق عودة "حفتر" للمنطقة الشرقية.

فبجانب أن عملية الكرامة لم تتمكن من إرساء سلطتها في المنطقة الشرقية، فإنها تواجه تحديات تحول دون بسط سيطرتها على بقية مناطق ليبيا، حيث ظلت، تلك المناطق، تشكل مصدراً رئيسياً لقوام الدينامكيات السياسية والعسكرية، كما استطاعت تمديد مظلتها الأمنية للمنطقة الجنوبية لفترات طويلة، فعلى مدى الفترة الانتقالية، شهدت هذه المناطق ظهور العديد من الكيانات الاجتماعية والمسلحة التي تمكنت من تسيير الشئون السياسية المحلية، وذلك بداية من المجالس البلدية والعسكرية أو الحكومات الانتقالية.

فلم تسمح التكوينات الاجتماعية في غرب ليبيا باندلاع صراع مفتوح بين المدن أو القبائل، وكان من الملاحظ أن غالبية الاشتباكات المسلحة لم تؤد لتدمير المدن، كما حدث في بنغازي، ولكنها انتهت إلى مصالحات اجتماعية، بدأت بالمصالحة بين "ورشفانة" ومصراتة في نهاية 2014، وكان أخرها المصالحة بين مدينتي؛ مصراتة والزنتان في بداية 2018، وهذا النمط من السلوك يحمل في طياته نمنطاً تطورياً،سواء على مستوى السلطة السياسية أو السلطة الاجتماعية، حيث تظهر كوابح التمادي في صراع أهلي يمكن أن تكون نتائجه مدمرة.

السياق الإقليمي والدولي

شهد العام الماضي ثلاثة لقاءات بين حفتر والسراج بدأت في أبريل بالقاهرة وانتهت في فرنسا في يوليو 2017، مع المرور بمحطة الإمارات. كانت الملاحظة الأساسية، هي أن تلك اللقاءات كانت تعمل على تطوير الوضع السياسي لحفتر ليكون الشخصية الرئيسية في الدولة ، وأنه بإمكانه الوصول لمناصب سياسية مع احتفاظه بوضعه في الجيش. هذه الصيغة لم تتمكن الدول الثلاثة من تطويرها لتكون مقبولة لدى الليبيين حيث تدور المناقشات حولها بمعزل عن تعريف الجيش وتجنب استيعاب ودمج حاملي السلاح، وبهذا المعنى، بدت اللقاءات كمحاولة لتجاوز الاتفاق السياسي وتكوين إطار سياسي جديد عبر الدخول في انتخابات رئاسية وتشريعية قبل الاستفتاء على الدستور .

وفي مايو 2014، ظهرحفتر ضمن حالة إقليمية اعتبرته قاطرة للنفوذ الخارجي في ليبيا ، وفي هذا السياق تم تهميش وإضعاف البدائل المحتملة، كـ" محمود جبريل" و "عقيلة صالح" و"أبو بكر بعيرة" وذوي التطلعات الفيدرالية والسياسيين من جماعة الزنتان، فضلا عن ظهور محاولات لتهميش "فايز السراج"، مما شكل تحدياً لقدرة عملية الكرامة على تطوير مشروعها على مستوى ليبيا، حيث أن عمليات الاقصاء والاستبعاد أدت لظهور كتلة سياسية كبيرة تتصاعد احتمالات عودتها للبحث عن النفوذ في المشهد السياسي مع الحديث عن الانتخابات.

ورغم توافق دول جوار ليبيا على أولوية المسار السياسي، فإنها اختلفت على تعريف الوضع السياسي لحفتر، سواء كقائد للجيش أو كرئيس للدولة ، وكانت المناقشات دائما ما تقف حائرة أمام تعريف وضع الجيش وعلاقته بالسلطة المدنية، حيث كان الاتجاه الغالب يميل لاحتفاظ حفتر بمواقعة القيادية بعيدا عن الرقابة السياسية.

كان من اللافت، أنه مع نشر أخبار عن الحالة الصحية لحفتر، ظهرتنافس دولي ما بين فرنسا وإيطاليا على احتواء التداعيات السياسية في ليبيا، فبينما حافظت فرنسا على التحكم في نشر الأخبار المتعلقة بوجود حفتر في باريس، كانت السياسة الإيطالية والأمريكية تذهب نحو تأكيد الانتخابات وتجاوز الفراغ السياسي، لكنه رغم تباين المواقف الدولية، لم يتضح أن أياً منها يتمتع بالقدرة على حسم الخيارات السياسية، ولذلك، يمكن النظر لاحتمال  تراجع تاثير حفتركمشكلة لداعميه أكثر منه مشكلة داخلية أو وطنية،

فدلالة الارتباك الدولي حول الحالة الصحية لخليفة حفتر تكمن في مدى قلق الأطراف الخارجية على المرحلة التالية لخروجه من المسار السياسي والعسكري، مما يطيح بالاستثمارات الاجتماعية والسياسية في الترويج له ودعمه للوصول للسلطة، فعلى الرغم من عودته، فإن الحديث الكثيف عن تدهور حالته الصحية، على مدى أسبوعين، يساهم في رسم صورة ذهنية تعكس تراجع قدراته السياسية والعسكرية.

وبشكل عام ، يمكن القول، أن اضطلاع المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب بسياسات مشتركة لوقف تفكيك ما تبقى من السلطة، بمثابة الفرصة الأخيرة لقطع الطريق على تفاقم الصراع المسلح ومنع ظهور أنماط جديدة من الديناميات المسلحة التي يمكن أن تتولد عن انقسام العسكريين في بنغازي، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى انحسار القيود المفروضة على عمل مجلس النواب وخصوصاً مع احتمالات تراجع نفوذ الكتل الموالية لحفتر.

وبالتالي، فإن التحدي الأساسي يكمن في ابتكار سياسات جديدة لتطوير المبادرات الليبية والدولية لتقرير تبعية الجيش للسلطة المدنية، لكنها محاولة تواجه تحدي تناقضات النخبة السياسة وعدم قدرتها على تكوين صيغة مشتركة لبناء الدولة بسبب اعتمادها على الفواعل الخارجية، غير أن ثمة اعتقاد بأن تراجع نفوذ "حفتر" في التركيبة السياسية، سوف يساهم في تطوير المشاورات السياسية حول التخفيف من حدة الصراع على الجيش وتطوير المسار السياسي.