قرار أوبك+ بخفض الانتاج وتداعياته على مستقبل العلاقات السعودية-الأمريكية

لم تزل المواقف بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية يشوبها التوتر، بعد ردات الفعل والتصريحات المتشنجة، التي صدرت عن العديد من الجهات الأمريكية، وعلى رأسها البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، تجاه قرار دول تحالف أوبك بلس مطلع الشهر الجاري، القاضي بخفض في الإنتاج النفطي لدول المنظمة المُصدرة للنفط بمقدار مليوني برميل يومياً، اعتبارا من شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم.

انهالت الانتقادات الأمريكية على السعودية على إثر قرار أوبك بلس دوناً عن الدول الأعضاء الآخرين في المنظمة النفطية، أعتبر الأمريكان قرار خفض إنتاج النفط "عملا ًعدائياً ضد الولايات المتحدة ومنحازاً إلى روسيا من خلال ملء خزائنها بالبترودولار أثناء شنها حرباً على أوكرانيا"، وأعلن نواب ديمقراطيون في الكونغرس وشخصيات في دوائر صنع القرار في واشنطن، عن إمكانية مراجعة صفقات التسلح ما بين السعودية والولايات المتحدة، رداً على قرار تخفيض الإنتاج النفطي، وكذلك لوّحت بقانون نوبك والذي يمنح -في حاله تشريعه- المحاكم الأمريكية صلاحية النظر في الدعاوى المرفوعة ضد دول أوبك، بتهمة الاحتكار والتحكم بالأسعار، وهو ما فجّر أزمة غير مسبوقة في طبيعة العلاقات السعودية-الأمريكية التي كانت توصف بالحيوية والاستراتيجية.

اقتُرحَ مشروع قانون نوبك عام 2007 لمناقشته داخل أروقة الكونغرس، وهو اختصار لعبارة No Oil Producing and Exporting Cartels، ومنذ ذلك الوقت والجدل يتجددُ حوله بين الحين والآخر، حيث يهدفُ مشروع هذا القانون إلى إزالة الحصانة عن الدول المُصدّرة للنفط أوبك بالإضافة إلى باقي شركات النفط الوطنية لتلك الدول، وحتى يصبح المشروع قانوناً، فيجب أن يمر في مجلسي الشيوخ والنواب ويصادق عليه الرئيس بايدن، وفي حال إقراره سيسمح برفع دعوى قضائية على دول أوبك. وبطبيعة الحال فشل الكونغرس في سنُّ القانون بسبب الخلافات بين المُشرعين الأمريكان أنفسهم، الديمقراطيين والجمهوريين، وبسبب خلافات جماعات الضغط في قطاع الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.

إن اعتماد الاقتصاد السعودي على عائدات النفط يجعل الرياض تخشى من تقلبات الأسعار التي تجعلها ضحية لدورات من الازدهار والكساد، وهو ما قد يفسر قرار منظمة أوبك بلس تخفيض الإنتاج بشكل كبير، كما إن قرار خفض الإنتاج يمنح المجموعة مزيدا من الطاقة الاحتياطية التي يمكن استخدامها لاحقًا لإعادة التوازن إلى الأسواق حال نشوب الأزمة وتفاقمها، كما إن خفض الانتاج أو رفعه هي مسألة سيادية تخضع لتقييم المصالح الوطنية والقومية العليا، فلذلك يمكن وصف العدائية الأمريكية تجاه السعودية على أنها غير مبررة.

رفضت الخارجية السعودية الموقف التصعيدي الأمريكي واعتبرت قرار المنظمة فني بحت، وأكدت في بيان (أن قرار أوبك بلس اتُّخذ بالإجماع من منظور اقتصادي يراعي توازن العرض والطلب في الأسواق ويحد من التقلبات)، وأعربت الوزارة عن (رفضها التام للتصريحات التي تحدثت عن انحيازها في صراعات دولية، وأن المملكة ترفض اعتبار قرار أوبك بلس مبنياً على دوافع سياسية ضد أمريكا)، كما أوضحت أن (مخرجات اجتماعات أوبك بلس يجري تبنِّيها من خلال التوافق الجماعي من الدول الأعضاء ولا تنفرد فيه دولة دون باقي الدول الأعضاء.

كما أبدت دول أوبك بلس ولاسيما العربية في بيانات متفرقة دعمها وتضامنها للمملكة العربية السعودية في قرار خفض الإنتاج النفطي، فعلى سبيل المثال أكد بيان الخارجية العراقية، (أن قرار أوبك يعبر عن رؤية فنية مرتبطة باستقرار أسواق النفط ومتطلباته وتنظيم عملية العرض والطلب وحماية مصالح المنتجين والمستهلكين)، مع (رفض أي سياسة هادفة إلى التهديد أو الضغط وندعم موقف أوبك ولاسيما موقف السعودية الشقيقة).

لابد من التذكير أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أدانت في الجمعية العامة للأمم المتحدة روسيا وإجراءاتها غير القانونية لضم الأقاليم الأربعة الأوكرانية إلى الأراضي الروسية، وقالت البعثة السعودية في الأمم المتحدة أنها دعمت قرار إدانة روسيا لالتزامنا بالقانون الدولي ونؤيد الحلول السلمية للأزمة الأوكرانية - الروسية بالحوار، وهو ما ينفي تهمة الانحياز السعودي إلى روسيا في قرار أوبك بلس التي وردت في الموقف الأمريكي الرافض لقرار خفض أوبك لإنتاجها النفطي.

يعود السبب الرئيسي وراء حملة تصعيد واشنطن حدة خطابها السياسي والإعلامي تجاه الرياض، إلى دواعٍ انتخابية مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في الثامن من نوفمبر المقبل، فالولايات المتحدة ترى أن قرار أوبك بلس بخفض الإنتاج النفطي، سيؤثر على الاقتصاد العالمي ويربك أسعار النفط، وسيكون لذلك أثر مباشر على الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني التضخم ومؤشرات ركود محتملة، مع إمكانية حدوث ارتفاع أسعار الوقود ومقومات المعيشة اليومية للمواطن، مما يؤثر بشكل فعلي على سلوك الناخبين الأمريكيين في خياراتهم الانتخابية المقبلة.

تقول صحيفة الواشنطن في مقال منشور على صفحاتها بتاريخ 8 أكتوبر الجاري، أن الأثر الحقيقي لتخفيض أوبك بلس إنتاجها النفطي قد يكون أقل مما يعلنه الإعلام الأمريكي ويحاول تضخيمه لأغراض "تصدير الأزمة" تجاه المملكة العربية السعودية، لأن التخفيض بمستوى مليوني برميل في اليوم تمثل نسبة 2% من الإمدادات العالمية. وبالتالي يمكن القول أن غرض التصعيد السياسي والإعلامي ضد أوبك بلس والرياض يأتي لغرض سياسي ولا علاقة له باستقرار أسعار الطاقة ومخاوف زيادة أسعار الوقود والسلع اليومية في الولايات المتحدة.

تحاول الولايات المتحدة تصوير الأزمة للرأي العام الداخلي وقبيل انتخابات الكونغرس على أنها "عدوان خارجي" تشنه الدول النفطية على المصالح الأمريكية والمواطن على حد سواء، في محاولة لإيجاد "عدو" تُصدّر باتجاهه الأزمة الداخلية الاقتصادية، فسابقا كانت إيران هي العدو الخارجي ولكنها تراجعت لأسباب ذات صلة بالاتفاق النووي الإيراني، واليوم فيُراد صناعة "عدو" آخر ضمن أدوات السياسة الأمريكية لصناعة البروباغاندا الإعلامية للرأي العام تجاه قضية وهمية تكون هي السبب الرئيسي للأزمة الداخلية ولابد من مواجهتها بالوسائل التشريعية والتنفيذية.

لابد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وفي حال حدوث أزمة اقتصادية متوقعة في ظل تنامي الصراع الروسي-الأوكراني، فهي تمتلك عديد الحلول للتعامل مع مخاوف تدهور اقتصادي، فأمريكا أكبر منتجةٍ للنفط في العالم بواقع 15,043,000 برميل/يوميا، أما فيما يتعلق بالمخزون النفطي، فالولايات المتحدة تعتبر أكبر إمدادات الطوارئ في العالم ولديها خزانات تحت الأرض بطاقة استيعابية تقدر بـ400 مليون برميل، وهذه الأرقام تعني أن الولايات المتحدة لديها من الإنتاج والتخزين النفطيين ما يعينها على تجاوز أي أزمة طاقة داخلية تصاحب أزمة عالمية محتملة، وتمكنها من توفير الطاقة الداخلية للفرد الأمريكي دون نقصان وتأخير، الأمر الذي حفّز إدارة الرئيس بايدن أن توعز بإطلاق 15 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي بعد تخفيضات أوبك بلس، ومن الممكن أن يطلق المزيد في الشتاء المقبل.

ردًا على قرار أوبك بلس بخفض الإنتاج تدرس واشنطن من مجموعة قرارات ضد الرياض، ومنها تخفيض علاقاتها الدبلوماسية والعسكرية مع السعودية حتى موعد اجتماع أوبك المقبل في الرابع من ديسمبر القادم، كما تبحث إدارة بايدن حث الشركات الأميركية على عدم توسيع علاقاتها التجارية بالسعودية، حيث يرى خبراء أميركيون أن خطوة سحب الاستثمار التجاري الأميركي من السعودية يمكن أن تؤثر على المملكة دون أن يؤثر على الولايات المتحدة.

يمكننا وصف ما يجري في الولايات المتحدة بأنه تهجماً رسمياً غير مسبوق تجاه المملكة العربية السعودية، الحليف الاقتصادي والاستراتيجي الأهم لواشنطن في المنطقة، وهو ما يوسع فجوة الثقة ما بين واشنطن وحلفائها الذين بدأوا يتعاملون عملياً مع فكرة "أن الشرق الأوسط لم يعد أولوية للبيت الأبيض"، وهذا لم يحدث فقط في عهد الرئيس بايدن الذي لم ترد مفردة الشرق الأوسط في استراتيجية للأمن القومي سوى ما يتعلق بإيران والاتفاق النووي، كان الرئيس الأسبق أوباما أول من منح آسيا الأولوية على المنطقة، ولم يكن للرئيس السابق ترمب ردة فعل عسكرية تتناسب مع استهداف حدث قصف المنشآت النفطية السعودية الطائرات الحوثية المسيرة، ومن ثم جاء قرار بايدن بإخلاء المنظومات الأمنية المضادة للصواريخ والطائرات المسيرة من السعودية والكويت وختمها بالانسحاب من أفغانستان.

ليس من مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية تفعيل قانون نوبك ومعاداة منظومة دول مجلس التعاون الخليجي والسعودية بشكل خاص بعقوبات اقتصادية صريحة، فيمكن لدول أوبك أو أوبك بلس حينها الرد بمواقف تصعيدية مماثلة كاستبدال الدولار بعملات نقدية أخرى في التعاملات النفطية، أو تخفيض أكثر من الإنتاج اليومي للنفط، وما هو يعني أزمة اقتصادية فعلية في الداخل الأمريكي تجعل حياة المواطنين سيئة وتعيدهم إلى فترة الكساد العظيم الذي ضرب الولايات المتحدة خلال ثلاثينيات القرن الماضي.

ستتضرر الولايات الأمريكية نفسها وقطاع الطاقة فيها، اذا ما قررت تفعيل قانون نوبك، لأن القانون سيؤدي إلى رفع الحصانة السيادية عن الشركات المملوكة للدولة المستهدفة بالعقوبات، وهذا قد يؤدي إلى الاستحواذ على أصولها، فشركة أرامكو السعودية تملك أكبر المصافي في الولايات المتحدة في ولاية تكساس النفطية، وهناك كثير من شركات الطاقة العاملة في الولايات المتحدة مملوكة للسعودية، ملكية تامة أو بالشراكة مع شركات طاقة أمريكية أخرى، وهذا يعني حدوث هزة كبيرة في قطاع الطاقة في الولايات المتحدة إذا ما تم تفعيل قاون نوبك.

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية الطرف الموثوق به بسبب سلوكياتها السياسة والاستراتيجية الفوقية التي تتبعها مع دول المنطقة، وعلى صانع القرار في واشنطن أن يعلم أن "لغة الإملاءات" قد انتهت والعالم تغير، وأن المصالح المشتركة ضمن سياق النظراء وليس الاتباع قد تنامت، وأن منظومة الحلفاء قابلة للتغير لما فيه مصلحة النظم والشعوب، وأن التطورات الأمنية الأخيرة ولاسيما على الجبهة الروسية-الأوكرانية تفرض على جميع الفواعل الإقليميين والدوليين أن يعيدوا حسابات سياساتهم الخارجية لتكون أكثر انسجاما مع مبدأ (أن المتغيرات الاقتصادية هي التي بدأت تدير دفة العلاقات الدولية) الأمر الذي سينعكس على ميزان القوى الإقليمية ومنظومة التعددية القطبية في النظام الدولي، وأن الشرق الأوسط ستستمر منطقة حيوية نابضة لا يمكن تجاهلها جيو سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا. صرح وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو في تعليق له على المواقف الأمريكية تجاه السعودية بخصوص هذه القضية في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وقال " نرى بأن هنالك دولة تهدد السعودية، وهذا التنمر ليس أمراً صائباً".