قراءة في الانتخابات النيابية اللبنانية

    يعتبر قانون الانتخاب البرلماني أهم القوانين الدستورية، إذ بواسطته تُشكّل السلطات المكلفة تطبيق الدستور، على اعتبار أن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب، لكن في لبنان يبقى للمحاصصات الطائفية والزعامات السياسية رأي آخر، وعليه طالت الأزمة الدستورية في البلد بعد أن مدد مجلس النواب لنفسه ثلاث مرات، ولم تُجرى الانتخابات النيابية منذ 2009.  كما لم يكن لهذا التمديد أي مسوغ شرعي سوى انه وقع لضرورات أمنيّة. فمع اندلاع الثورة السورية التي كان وما يزال حزب الله اللبناني طرفا رئيسيا في قمعها، أقحم لبنان في الأزمة السورية بعد أن اعتمدت حكومة ميقاتي في وقتها سياسة النأي بالنفس عن ما يجري في سوريا، وهذا ما نجم عنه تباعا عمليات امنية داخل الاراضي اللبنانية.

   كذلك كان من أسباب التمديد، مطالبات لقوى سياسية بتعديل قانون 1960 المعمول به خاصة من قبل المسيحيين، وعليه طُرح اول مرة سنة 2012 "قانون النسبية" في ظل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، الى أن تم اقرار "قانون انتخاب اعضاء مجلس النواب" في 16 حزيران 2016، وعليه لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية ستجري الانتخابات النيابية في 6 أيار/مايو 2018 وفقا لــ "قانون النسبية" الذي يوصف بالمعقد، بدلا من القانون السابق وهو "قانون الاكثرية".

    وقد رافق قانون النسبية الجديد لأول مرة، اتاحة الفرصة لإقتراع المغتربين، مع الاشارة الى أن أعداد اللبنانيين الذين يحق لهم الاقتراع في الخارج 900 ألف لن يشارك منهم الا 10% وفق بيانات التسجيل. كذلك جرى اعتماد مبدأ "الصوت التفضيلي" على أساس القضاء لا على أساس الدائرة الانتخابية التي يصوت فيها المقترع وذلك محاكاة للمحاصصة الطائفية والسياسية.

   مع الاشارة هنا، إلى ان لبنان لم يشهد منذ استقلاله عام 1943 انتظاما في قوانينه الانتخابية وفي تطبيق الدستور الذي خضع لتعديلات وإصلاحات، أبرزها ما جاء في اتفاق الطائف بعد حرب أهلية امتدت 15 سنة تداخلت فيها نزاعات الداخل مع الخارج.  ولهذا الاقتراع على اساس النسبية مع هذه المسائل كالصوت التفضيلي وغيرها، سلبيات عدة، مثلا يفرض التعاون والائتلاف بين الفرقاء الفائزين في الانتخابات، فـي حال لا يمتلك الفريق الرابح أكثرية تخوّله تشكيل الحكومة والحكم. فنظام التمثيل النسبي قلّما استطاع تحقيق أغلبية ثابتة داخل المجلس النيابي، وبالتالي تفقد الحكومة فعاليتها وقدرتها وثباتها.

   كذلك يوصل إلى أزمة حكم، في حال رفض الفائزون فـي الانتخابات، الذين لا يملكون أكثرية تخوّلهم الحكم التعاون مع بعضهم البعض، وصعوبة تطبيق النسبية في ظلّ التقسيمات المذهبية. بالاضافة لصعوبة فرز أصوات الناخبين اللبنانيين، وفقاً للفرز النسبي والتمثيل الطائفي.   ففي حين يرى رافضي هذا القانون سابقا خاصة "المسلمون السُنة" أنه لا يخلو من عيوب متعددة، منها غياب وحدة المعايير بين الدوائر الانتخابية المختلفة، وعدم التناسب في القانون بين عدد المنتخبين والمقاعد النيابي، كما ان القانون لم يخفض سن الاقتراع الى الــــ 18.

يرى المسيحيون انه الاكثر تمثيلا لهم فلا تملى عليهم أسماء وشخصيات من قبل الأطراف الأقوى في مواقع تواجدهم كالسابق  . فعلى الرغم من  أن القانون النسبي هو الذي يؤمن التمثيل لكل كتلة انتخابية سواء أكانت طائفية أو سياسية بحسب حجمها الانتخابي كما يروج له انصاره. فمثلا اذا نالت اي قائمة 20% من الأصوات فانها تحظى بـــ 20% من مقاعد الدائرة الانتخابية، على خلاف النظام الأكثري، لا يمكن ان يكون للمسلمين الذين يشلكون اكثر من ثلثيه ثلث المجلس النيابي، بل هذا الحديث من التابوهات والمحرمات التي لا يحكى فيها، وقد كان لاتفاق الطائف الحكم والفيصل فيها.

   واقعا لم يُبدد القانون هذه المخاوف فجاءت التحالفات الانتخابية لامنطقية وعجيبة، فقد أصبح عدو الأمس حليفا لكسب المقاعد البرلمانية، وحليف الامس تهديدا فاستبعد. لا بل أكثر من ذلك جاء التحالف مع طرف في دائرة انتخابية ما، والتنافس معه في دائرة أخرى بالوقت عينه، في عدد من الدوائر الـ 15.

فنرى مثلا في دائرة عكار شمال لبنان، يتحالف تيار المستقبل (سعد الحريري) مع القوات اللبنانية (سمير جعجع)، ضد التيار الوطني الحرّ (حزب رئيس الجمهورية ميشال عون) والجماعة الإسلامية (الفرع اللبناني للإخوان المسلمين). في حين يتحالف في الدائرة الأولى لبيروت تيار المستقبل مع التيار الوطني الحرّ وحزب الطاشناق (الأرمن)، في مواجهة لائحة للقوات اللبنانية والكتائب، ولائحة أخرى للمجتمع المدني. ثم يعود تيار المستقبل ثانية، في الدائرة الثانية في بيروت، ذات الغالبية السنية، ليتواجه ضد لائحة لتحالف التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل ومجموعات صغيرة محسوبة على النظام السوري كـ الأحباش.

   وهذه التحالفات السياسية المتناقضة ليست حكرا على تيار المستقبل الذي يعتبر ممثلا للسنة في لبنان لكنه الأكثر تشرذما بين هذه الدوائر. يبدو أن الأزمة السياسية اللبنانية لا تقف على قانون الانتخاب يوصف بالمشوه لكثرة تعديلاته، أو عجائبية تحالفاته، بل على غياب المشروع والبرنامج الانتخابي للمرشحين، اذ هي مجرد وعود كلامية لا يشك اللبناني أنها لن تنفذ فضلا عن تهميش دور مرشحي المجتمع المدني.

   بالاضافة لما ذكر تفاقمت الأزمة السياسية اللبنانية بعد خروج الجيش السوري من لبنان، فقد  حلّ سلاح "حزب الله" محلّ الجيش السوري، وهَيمن على مفاصل الدولة ومنعها من بسط سلطتها على كامل أراضيها، فكثُرت المربعات المذهبية والأمنية، وانتشر السلاح في كلّ مكان حتى أصبح لكلّ عشيرة جيشها و"جناحها العسكري" تهدّد بهما الدولة والناس والطرقات والاقتصاد وحتى الدول المجاورة.

   واليوم جاء مشروع قانون الانتخابات النيابية والتقسيم المُقترَح للدوائر الانتخابية، على قياس "حزب الله" والمتحالفين معه، ليكرّس هيمنة الحزب على كل المفاصل الانتخابية والسياسية. لا بل أن خطاب الحزب الانتخابي الجماهيري اليوم، يؤكد على "أن كسبه للمعركة الانتخابية سيكون استكمالا لانتصاره على تنظيم داعش"، فعن أي داعش في الداخل اللبناني يتحدث؟    فضلا عما ورد، يرى المراقبون انه من الممكن حصول مفاجآت في الانتخابات المقبلة، ولو بحدود بين 20 او 25 بالمئة، من حيث عدم قدرة كثير من القوى السياسية على تكرار ما حصل في انتخابات العام 2009 وبالتالي حصولها على  كتلة نيابية كبيرة تزيد كثيرا عن ما تمثله على الصعيد الشعبي وبخاصة تيار المستقبل الذي رأينا شكل تحالفاته كيف جاءت.

   لقد جاءت التموضعات الانتخابية التي ربطها الحريري بقانون الانتخاب لرفع الحاصل الانتخابي  في كل دائرة، مشيرة الى رغبة الحريري بالحفاظ على حلفه مع التيار "الوطني الحر"،  ثم تجديد علاقته مع "القوات اللبنانية" بشكل محدود، فهذا يُرضي عواصم عربية واجنبية ترغب بإعادة العلاقة بينه وبين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. من جانب آخر يحافظ على علاقته مع حليفه المتين "التقدمي الاشتراكي" الممثل الأول للدروز في لبنان.

   لكن ماذا عن تموضعه من الاسلاميين في لبنان، ابناء طائفة الحريري نفسه أين هي تحالفاته؟ ماذا عن تحالفه مع القوى الاسلامية كالجماعة الاسلامية (الاخوان المسلمون)، كذلك ماذا عن دوره بملف المعتقليين الاسلاميين (السنة) حيث ترى طائفته ثقل هذا الملف عليهم من قبل حزب الله وهيمنته على المحكمة العسكرية المناط بها هذه القضايا.

   لقد كانت ورقة العفو العام للسجناء بمن فيهم المعتقلين الاسلاميين أهمية لدى الحريري في فترة ما، وكذلك وعد بها كثير من القوى السياسية الاسلامية كالجماعة الاسلامية ذوي المعتقلين الا انه تم ابهام الملف، بعد أن بات العفو العام لا يطال من تلطخت ايديهم بدماء الجيش اللبناني في حين من المحتمل العفو عن كبار تجار المخدرات واصحاب الجنايات من طوائف أخرى.

 وهنا يبرز الى الواجهة "ملف عبرا" وقضايا اخرى مرتبطة بمعتقليين اسلاميين من الشمال والبقاع وصيدا المراكز السنية الكبرى في لبنان، ثبت ضلوع حزب الله وعدد من حلفاءه فيه افتعالها وفبركتها، كالوزير السابق ميشال سماحة واللواء جميل السيد المرشح في هذه الانتخابات. مرحليا يبدو أن هذا الملف غير مهم مقارنة بالهدف الأكبر لسعد الحريري بعد أن يحصل ما بوسعه تحصيله وبأقل الخسائر وفق هذا القانون، وهو عودته لرئاسة الحكومة.