إقصاء وتهميش التركمان لا يخدم الاستقرار والوحدة الوطنية في العراق

إن عدم تمثيل التركمان في الحكومة العراقية الجديدة وهم الذين لديهم 10 نواب في البرلمان العراقي الجديد، بلا شك سيلقي بظلاله على الوحدة الوطنية، فهذه الخطوة تعني بأن التركمان يتعرضون إلى التجاهل. بتاريخ 21 تشرين الثاني 2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي هزيمة داعش عسكريا وبدء حقبة جديدة في العراق. إن فترة الحرب مع داعش التي امتدت نحو ثلاث سنوات ونصف أدت إلى ظهور معطيات جديدة ومختلفة في العراق، ويمكن القول بأن هذه المعطيات ستستمر لفترة طويلة. لقد برهنت التطورات والنقاشات السياسية التي حدثت قبل وبعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 12 أيار 2018 على ظهور هذه المعطيات الجديدة. وكما هو الحال في مجمل الأحداث والتحولات في العراق فقد نال التركمان أيضا نصيبهم مجددا من التطورات الحاصلة من خلال التجربة المؤلمة.

ونظرا لكون الانتخابات المذكورة هي الانتخابات الأولى التي أجريت في مرحلة ما بعد داعش، فهي تشكل حجر الزاوية المهم بالنسبة إلى العراق. بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 30 نيسان 2014 أدت سيطرة داعش على جزء من الأراضي العراقية في حزيران 2014 إلى تشكيل الحكومة في ظروف استثنائية. وبالرغم من إنهاء سيطرة داعش في العراق مع نهاية عام 2017 فإن الآثار التي تركها التنظيم تمخضت عن تأثيرات كبرى على الأوضاع السياسية في العراق. خلال فترة سيطرة داعش في العراق تزامن وجود فراغ السلطة في المجال الأمني والسياسي مع ظهور أطراف فاعلة جديدة ذات تأثير في المجال السياسي والأمني كالحشد الشعبي. من جهة أخرى، وعلاوة على التطورات التي حدثت بعد استفتاء حكومة إقليم كردستان الذي أجري في 25 ايلول 2017، كانت استعادة الحكومة المركزية العراقية السيطرة على كركوك والمناطق المتنازع عليها خلال العملية التي نفذتها بتاريخ 16 تشرين الأول 2017 قد غيرت المعطيات بدرجة كبيرة وأعادت تشكيل خارطة سياسية جديدة في العراق.

إن التحالفات والائتلافات التي سبق وأن تشكلت قبل الانتخابات العراقية التي أجريت تحت هذه الظروف برهنت على حجم التباين السياسي في العراق. فقد شارك في الانتخابات 204 حزب و 27 تحالفاً، وللمرة الأولى في العراق دخلت قوى سياسية تمثل طوائف وقوميات مختلفة في قوائم موحدة.‏ أما التركمان فقد اشتركوا لأول مرة في الانتخابات في كركوك بقائمة واحدة، بينما انضموا تحت ائتلافات مختلفة في محافظتي الموصل وصلاح الدين اللتين يتواجد فيهما التركمان بكثافة.

موقف التركمان من الانتخابات
التركمان الذين يأتون في مقدمة مكونات الشعب العراقي التي تضررت من جراء داعش، وفي تلك الانتخابات قام 11 حزبا تركمانياً بالتسجيل للاشتراك في الانتخابات، وان الأحزاب السياسية التركمانية في محافظة كركوك، والتي تعد التشكيلات السياسة التركمانية فيها في أوج قوتها، قد اتفقت على دخول الانتخابات تحت قائمة "جبهة تركمان كركوك" بقيادة رئيس الجبهة التركمانية العراقية ارشد الصالحي. لقد مثلت هذه الحالة تطوراً مهماً للغاية من حيث الوحدة السياسية للتركمان والحفاظ على هويتهم. إضافة لذلك شارك في الانتخابات 32 مرشحاً تركمانياَ من خمس قوائم مختلفة في كركوك. إن عدم اتخاذ الأحزاب السياسية التركمانية قرارا بشأن المشاركة في الانتخابات بقوائم مشتركة في محافظات أخرى عدا كركوك شكل ثغرة كبرى في امكانية الحديث عن وجود الهوية التركمانية في المناطق الأخرى، كما تم تشكيل ائتلافات ضمت الأحزاب التركمانية في الموصل وصلاح الدين وبغداد.

تضاءلت تأثيرات الأحزاب التركمانية والتي كانت أصلاً ضئيلة مقارنة ببقية الأحزاب، بسبب الخلافات والانقسامات حول الكثير من القضايا. إن تصرف بعض الشخصيات السياسية التركمانية المؤثرة في التركيز على مصالحهم الشخصية أكثر من التركيز على قضايا وشؤون المكون التركماني، وفشل القادة والسياسيين التركمان في التوصل إلى اتفاق، وترشيح أكثر من شخص من التركمان لمنصب واحد، أدى إلى تعميق الخلافات داخل البيت السياسي التركماني، ولذلك فقد انعكس هذا موقف المكون التركماني وتسبب في تعميق المشاكل ضمن البعد الاجتماعي للتركمان، وبالنتيجة فقد تشتت الحركة التركمانية وأصابها الضعف والانقسام الداخلي. هذه الحالة أثرت سلباً على أداء التركمان الانتخابي أيضاً. ووفقا لنتائج الانتخابات حصل التركمان على 10 مقاعد نيابية من مختلف المحافظات والقوائم، بعد إعلان نتائج الانتخابات المثيرة للجدل في ظل مزاعم التزوير. تمكن التركمان الذين دخلوا الانتخابات في كركوك بقائمة مشتركة لأول مرة من إحراز ثلاثة مقاعد نيابية عن كركوك. ويعد هذا الرقم نجاحاً نسبياً للتركمان حيث أحرزوا مقعدين نيابيين اثنين في انتخابات عام 2014، كما إن الأدلة القوية على ممارسة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني للتزوير وخاصة في كركوك بين صحة الادعاءات التي تقول بأن نتائج الانتخابات في كركوك لا تعكس الحقيقة. ومن جانب آخر فقد تم انتخاب 4 نواب تركمان من الموصل (تلعفر)، ونائبين من صلاح الدين (طوزخورماتو) ونائب واحد من بغداد. من الواضح أن جميع النواب التركمان الذين تم انتخابهم من الموصل كانوا من مرشحي تلعفر، كما إن اختيار ثلاثة من مجموع أربعة نواب تركمان من قائمة الفتح بقيادة هادي العامري التي تشكلت ضمن فصائل الحشد الشعبي يعد تطوراً لافتاً. من جهة أخرى فإن الجبهة التركمانية العراقية التي هي أكبر الأحزاب السياسية التركمانية وأكثرها انتشاراً في العراق، لم تتمكن من الفوز بمقاعد نيابية في أية تحالفات في المحافظات التي شاركت فيها باستثناء كركوك ، وهذا ما أثار الجدل حول فاعلية الجبهة التركمانية العراقية في الجغرافية السياسية التركمانية. وإضافة لذلك فإن كافة النواب التركمان المنتخبين باستثناء رئيس الجبهة التركمانية العراقية أرشد الصالحي، هم جميعاً من الوجوه الجديدة ومرشحون من مجموعات لم يتم تمثيلها مسبقاً، مما أدى إلى تغيير في وجهة السلوك السياسي للتركمان.

محاولة استبعاد التركمان
بعد الانتخابات البرلمانية المثيرة للجدل والتي أجريت في العراق بتاريخ 12 أيار 2018 تم التصديق على نتائج الانتخابات، وبدأت عملية تشكيل الحكومة في العراق، وبعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات اجتمعت الكتل السياسية المختلفة لتحديد الكتلة الأكبر في البرلمان وانتهى السباق بينها بعدم التوصل إلى نتيجة، بينما تم تحديد المرشحين الذين يمكن الاتفاق بشأنهم في المستويات العليا فيما يخص مناصب الرئاسات الثلاث. وقد تم انتخاب محافظ الأنبار السابق محمد الحلبوسي رئيساً للبرلمان وذلك في جلسة التصويت التي عقدها البرلمان العراقي بتاريخ 15 أيلول 2018، بينما تم تعيين بشير الحداد وحسن كريم الكعبي نائبين لرئيس البرلمان. وبهذه العملية تم اتخاذ أول خطوة مهمة لجدولة تشكيل الحكومة. وبعد انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه قام البرلمان العراقي بتاريخ 2 تشرين الأول بعقد اجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية، ونتيجة للتصويت تم انتخاب المرشح الأقوى برهم صالح الذي تم تقديمه عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني رئيسا للجمهورية كما كان متوقعاً، وبعد مراسيم أداء القسم قام برهم صالح بتكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة.

بعد تكليف عادل عبد المهدي بدأت مرحلة تشكيل الحكومة والمفروض أن تستغرق 30 يوماً كحد أقصى وفقا للوائح الدستورية. رغم أن عبد المهدي يعلن في كل مناسبة ‏ أنه سيؤسس حكومة تكنوقراط الا انه بعد مرور حوالي 20 يوماً أعد قائمة بمجلس وزراء تضم 22 عضوا وقدم هذه التشكيلة الوزارية إلى البرلمان العراقي في 24 تشرين الأول 2018. لكن بعض الكتل السياسية رفضت الموافقة على قسم من الشخصيات المرشحة للاستيزار وغادرت قاعة الاجتماع، وبالنتيجة حصل 14 عضوا فقط من أعضاء الكابينة الوزارية التي قدمها عادل عبد المهدي على الثقة بينما لم يجر التصويت على بقية الأسماء. من أهم الجوانب المثيرة للانتباه في القائمة المذكورة والمؤلفة من 22 اسماً هو عدم إعطاء المكون التركماني اية وزارة- كما هو الحال في حقيبة العبادي -،  رغم أنهم يشكلون المكون الرئيس الثالث للشعب العراقي. إن عدم وجود التركمان في قائمة الأسماء المقدمة للوزارات لا يخدم وحدة وسلامة العراق، كما إنه يفند المزاعم القائلة بأن العراق بلد للمساواة والديمقراطية. في الواقع إن التركمان كان يتم تمثيلهم ولو بوزير "واحد" في كل كابينة وزارية يتم تشكيلها بعد عام 2003‏. وبعد انتخابات 2014 أيضا كان هناك وزير تركماني في التشكيلة الوزارية، وفي عام 2016 ألغيت وزارة حقوق الإنسان التي كانت من حصة التركمان بعد تعديل أجراه العبادي ولم يمنح التركمان أية وزارة أخرى. أما في حقيبة 2018 فقد تم تمثيل المسيحيين الذين يشكلون إحدى الأقليات في العراق، بينما لم يتم تمثيل التركمان في الحكومة الأخيرة التي تم تشكيلها، وخلق ذلك التصرف وضعاً يناقض مبدأ المساواة. إن عدم تمثيل التركمان الذين فازوا بعشرة مقاعد نيابية في البرلمان العراقي يلقي بضلاله على الوحدة الوطنية ويؤدى إلى إقصاء التركمان عن القرار الحكومي. وبذلك فالتركمان الذين يمثلون الشريحة الأكثر تضررا في مرحلة ما بعد داعش، هم في نفس الوقت يتعرضون إلى الإقصاء من العملية السياسية. من جانب آخر؛ رغم إعلان عشرة من نواب البرلمان التركمان بعد الانتخابات عن قيامهم بتشكيل كتلة برلمانية إلا أنهم لم يتمكنوا من اتخاذ خطوة مشتركة بشأن التشكيلة الوزارية ولم يتمكنوا من تقديم أي مرشح مشترك.

استقلالية الوزراء أمر مثير للجدل
يبدو أن الوزراء الذين صادق عليهم البرلمان العراقي بوصفهم "تكنوقراط ومستقلون" هم ليس كذلك، وان هذه الاستقلالية على الورق فقط، حيث ان هؤلاء الوزراء تم ترشيحهم من قبل الأحزاب والكتل السياسية، وهذا الأمر يثير الآن تساؤلات كثيرة. نظراً لأن ترشيح الوزراء المعينين حديثاً من الكتل السياسية يبقي الاحتمال قائماً في تعرضهم لضغوط الأحزاب السياسية في المرحلة اللاحقة. إلى جانب ذلك فإن الروابط السياسية في البلدان التي تمر بعملية إرساء الديمقراطية تصعب أحياناً حماية أداء المؤسسات. في هذه المرحلة ينبغي ألا يغيب عن ناظرنا أن المرشحين المستقلين دون حماية سياسية قد يقعون تحت ضغط الجماعات السياسية أو الفصائل المسلحة والميليشيات التي لا تتمكن من الحصول على مناصب. من أجل تشكيل كابينة تكنوقراط مستقلة سياسياً في العراق على وجه الخصوص يشترط تطوير آلية مراقبة الدولة، وأن تكون الأجهزة الأمنية قادرة على الحفاظ على هيبة الدولة. إلى جانب التحدي الذي سببه الصراع مع داعش، فإن التدخلات السياسية الإقليمية والدولية والنزاعات السياسية مع حكومة إقليم كردستان العراق وموقف العرب السنة وما شابهها من المشاكل، تعد أكبر القضايا التي تنتظر عبد المهدي في مرحلة ما بعد داعش. كما أن عدم المساواة في الحياة السياسية يعد من عوامل زعزعة للاستقرار. لهذا السبب يبدو ان الاستقرار السياسي في العراق واستمرارية الحكومة يعد أمراً صعباً. في هذه المرحلة أفضل وسيلة للخلاص تكون من خلال تأسيس آلية إدارة الدولة بمشاركة كاملة وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية في العراق.

ان مشاكل المجتمعات التي تواجه التمييز السياسي والعرقي وخاصة المجتمع التركماني، تعمق المشاكل في البلاد، وفي هذه المرحلة يمكننا القول بأن الهوية التركمانية في العراق قد اضمحلت أو في طريقها إلى الاضمحلال. بسبب عدم تمكن التركمان من الوصول إلى المنصب الذي يستحقونه في النظام السياسي في عراق ما بعد 2003، فهم يتعرضون يوما بعد يوم إلى الإقصاء والتهميش على صعيد السياسة المحلية والعامة. إن التركمان الذين تراجعوا على الصعيد السياسي، خصوصاً بعد أن بسط داعش نفوذه على بعض المناطق في العراق في حزيران 2014 ، وجدوا أنفسهم في مواجهة كافة التداعيات التي تسبب بها داعش. كان التركمان هدفاً مباشراً لداعش، واضطروا إلى هجرة مناطقهم التي كانت تحت سيطرة داعش أو تحت تأثيره وفي مقدمة هذه المناطق تأتي تلعفر والموصل وكركوك وطوزخورماتو وديالى. ويذكر بأن مالا يقل عن 600 ألف تركماني أصبحوا لاجئين. وقد نزح بعض التركمان إلى مناطق جنوب العراق مثل النجف وكربلاء والحلة، بينما نزح بعضهم إلى دهوك وأربيل في شمال العراق والبعض الآخر لجأ إلى تركيا. وهكذا أصبح التركمان أقلية سكانية في المناطق التي نزحوا إليها. أصبح التركمان بعيدين عن الحياة الاجتماعية وعانوا من الإحساس بالغربة وواجهوا مشاكل البطالة والحرمان من التعليم في المناطق التي ذهبوا إليها. ومن جهة أخرى، رغم انتهاء سيطرة داعش إلا أن غالبية التركمان الذين كانوا يعيشون في مناطق مثل تلعفر وطوزخورماتو لم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم.

يحتاج التركمان ‏ في هذه المرحلة إلى إعادة لملمة حقيقية. وفي هذا السياق يجب تثمين جهود بعض القوميين التركمان ودور الحكومة التركية في هذا الصدد. وتجدر الإشادة بشكل خاص بأهمية الدعم التركي لهذه الجهود وتوحيدها وتشجيع القادة السياسيين على توحيد الصفوف والمساهمة في حل الخلافات. لكن هذا وحده غير كاف إذ يجب على الشعب التركماني برمته أن يأخذ بزمام المبادرة بدءا من القادة والسياسيين التركمان والمثقفين وانتهاء برجل الشارع العادي. فكلما وقف التركمان صفا واحدا ازدادت صعوبة إقصاءهم وخير مثال على ذلك هو ما فعله التركمان بعد الانتخابات حيث اعترض التركمان على الانتخابات في كركوك وخرجوا موحدين إلى الساحات للدفاع عن شعبهم طوال 28 يوماً، ونتيجة للمظاهرات أعيد فرز الأصوات يدوياً. وحتى لو لم يكن هناك فرق كبير في النتائج إلا أن ذلك أصبح الحجر الأساس التاريخي في التأكيد على أن الوحدة هي الطريق الأصوب نحو شعور التركمان بوجودهم وحمايتهم. ويمكن القول في إطار ذلك بأنه في حال تمكن التركمان من تحقيق الوحدة فلن يمكن تجاهل حقوق التركمان في أي مجال كان.