السياسات التركية والصراع الدولي حول ليبيا

جامعة صقريا
مع ظهور ملامح التغيير السياسي في 2011، اهتمت السياسة التركية بمراجعة التدخل العسكري والبدء بعملية انتقال سياسي عبر الوساطة بين الحكومة والمعارضين، لكنها واجهت تعقيدات أثرت على دورها السياسي في السنوات اللاحقة، وهو ما يثير التساؤل حول العوامل المؤثرة على سياسات تركيا تجاه ليبيا وانعكاساتها المستقبلية، وهنا تبدو أهمية تناول التوجهات السياسية وتأثير التنافس الدولي والصراع على معالجة الأزمة الليبية ودور تركيا فيها.

تركيا والتدخل الدولي
مع بداية الأزمة، إتبعت تركيا مبدأ الوساطة، لكنه لم يلق ظروفا مواتية، بسبب اعتبار فرنسا ومجلس الأمن أن التدخل تحت مسئولية الحماية يمثل الحل الملائم للأزمة السياسية في ليبيا، فمنذ البداية، سعت تركيا لتبني الوساطة بين " معمر القذافي" و الحركات الاحتجاجية، لكنها لم تستطع الوصول لتفاهمات، ولذلك اتجهت لتأييد المجلس الوطني الانتقالي، وتخلت عن مواقفها برفض التدخل الدولي تحت مبدأ مسؤولية الحماية، في أبريل 2013، وأشار "بشير أتالاي ( نائب رئيس الوزراء) بنضال الليبيين، وهو ما يعني انحياز تركيا للحراك السياسي في ليبيا. وظلت، على خلاف سياسة فرنسا والجامعة العربية الداعمة للتدخل الدولي، بعيدة عن المشاركة في العمليات العسكرية، رغم عضويتها في حلف الأطلسي.

كان غموض أهداف ومنظور التدخل الدولي يمثل خلفية معارضة تركيا التدخل العسكري، في هذا السياق، ثارت أسئلة حول أهداف العمل العسكري، وكانت صريحة جدا في معارضة سماح الأمم المتحدة بتدخل الناتو تحت مبدأ " مسئولية الحماية" للمدنيين، لأنه لايضمن التحكم في العمليات العسكرية ضد كتائب القذافي المنتشرة في المدن.

واستندت تركيا على عاملين؛ وهما؛ الأول، أنه يمكن تصوير التدخل كحرب غربية ضد بلد مسلم، مما يعزز الخيارات المتطرفة لدى الليبيين والجماعات الجهادية، أما الثاني، حيث أن التوتر العلاقة مع فرنسا بسبب معارضتها الشديدة لانضمام تركيا للاتحاد الأوربي، سوف يضعف فرص النقاش داخل التحالف الدولي ويسمح بالتدخل الفردي.

وبينما تراجعت أهمية السبب الأول من خلال وقوف الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي بجانب التدخل الدولي، بحيث صار الشكل الجماعي متوفراً، فقد أدى العامل الثاني لزيادة التوتر بشكل دفع فرنسا لعدم توديه الدعوة لتركيا لحضور اجتماع باريس في مارس 2011 والمخصص لمناقشة العمل العسكري ضد القذافي، وحضر الاجتماع كل من بريطانيا ، الولايات المتحدة، كندا، إيطاليا ، الدانمارك، النرويج، أسبانيا، ، قطر وبلجيكا، فيما لم تحضره ألمانيا، مما جعل الاتراك محبطين تجاه قيادة فرنسا للعمل العسكري أو تنفيذ مهام الأمم المتحدة تحت مظلة حلف الأطلسي.

وقد أعتبرت تركيا أن فرض منطقة حظر جوي، يتجاوز القرار 1973 ويتباعد مع أهداف عقوبات الأمم المتحدة، و اعتبرت أن العمليات العسكرية هي خارج نطاق تفويض مجلس الأمن، حيث حاولت فرنسا عبر شن الأعمال العسكرية ضد قوات القذافي لفرض التدخل الدولي كأمر واقع، ودون انتظار لمشاورات دولية، ويرجع سعي ساركوزي للتدخل في ليبيا بمثابة تعويض لتردد فرنسا في وقف توجهات التغير السياسي في مصر وتونس، وذلك بجانب أخذ المبادرة الدولية في تقرير المستقبل السياسي لليبيا.

تداعيات التدخل الدولي
و بشكل عام، لم يرافق التدخل الدولي وجود خطة للمستقبل السياسي للدولة، وعلى الوجه المقابل، تم السماح بوصول السلاح للمحتجين، كما عمل تحالف الأطلسي على دعمهم في مواجهة كتائب القذافي حتى تمكنوا من دخول طرابلس في أكتوبر 2011 في سياق أحداث قتل "القذافي"، وقد ظلت هذه السمة ملازمة لبرامج عمل الأمم المتحدة بعد انتهاء العمليات العسكرية، بحيث تستت أهمية المسار السياسي، بسبب تباظؤ المبادرات وتعطيل الاتفاق السياسي.

وقد شكل اختلاف السياسات الدولية، والتحيز لأحد الأطراف الليبية، الظروف الملائمة لاندلاع الحرب الأهلية في السنوات التالية، و هي حرب دموية، ترتب عليها دخول البلاد في انقسامات سياسية وظهور العديد من المجموعات المسلحة. وتشكل الانقسامات الدولية واحدة من تداعيات غياب برامج وغموض أهداف التدخل الدولي. يعمس مؤتمر باليرمو (إيطاليا ، 2018)، واحداً من ظواهر انقسام دولي أدى لضعف القدرة على تحقيق اختراق نحو الحل السياسي وتحقيق السلام، كما أدت لانقسام المجموعات المحلية في ليبيا، وظهور مشكلات دستورية تساهم في زيادة فرصة الحرب الأهلية.

ويعد اختلاف الموقف الدولي عاملاً أساسياً في الصراع على الموانئ النفطية،  فلم يسمح الإطار الدولي أن تتم السيطرة عليها دون موافقته، فلم تتسطع "فجر ليبيا" أو "الكرامة" السيطرة على هذه المنطقة، وهو ما يعني أنه لدى المجتمع الدولية استراتيجية تقوم على ترتيب وحراسة الموارد النفطية ووضعها تحت تصرف حكومة يثق بها. ولذلك، عمل السياق الدولي  على وقف تقدم فجر ليبيا ومنعها من الانفراد بالسيطرة على الهلال النفطي، وهو ذات السياسة تجاه ماحولات "خليفة حفتر" والتي كان أخرها في يونيو 2018،

المسافات المتساوية
سعت تركيا لتكريس دورها في ليبيا عبر التواصل مع الحكومات المنتخبة، وقد ظلت هذه السياسة مستقرة، لكنها شهدت تراجعا بعد انتخابات مجلس النواب في 25 يونيو 2014، وذلك على خلفية ظهور نزاع بين المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب على تمثيل الدولة في الخارج، كان موقف تركيا أكثر قبولاً لتفسير استمرار المؤتمر الوطني في السلطة.

وممن جانب أخر، ظهرت في سبتمبر 2014 توجهات انفتاحية للمبعوث الرئاسي التركي إلى ليبيا، حيث ظل بعيداً عن النزاع الدستوري بين الحكومتين ؛ في طبرق وطرابلس، لكنها لم تكن حامسة في تقرير موقف الحياد تجاه القوى السياسية الليبية، فيمكن تفسير موقف تركيا بتنفهم قرار المحكمة العليا بإلغاء نتائج الاتخابات 2014 وعدم تجاهله على أنه استمرار لدعم الجماعات المنضوية تحت فجر ليبيا ذات المكونات الثورية والإسلامية، لذلك يتوقف تدهور علاقات تركيا مع مجلس النواب والحكومة المؤقتة ( طبرق) للحد الذي أدى لانسحاب الشركات التركية من ليبيا.

ومع صدور الاتفاق السياسي، عملت سياسة تركيا على تطوير موقفها بالتقارب مع الإطار الدولي والتعامل مع "حكومة الوفاق الوطني" كحكومة شرعية، وتطورت علاقتها مع "فايز السراج" كرئيس للسلطة التنفيذية الانتقالية، وأعيد فتح السفارة التركية، ضمن حزمة من التفاهمات حول المساهمة في مجال الاستثمار والتنمية وبرامج اعادة الاعمار في ليبيا، ودعم القطاع الصحي. وفي مايو 2017، أسفرت زيارة وزير الخارجية، مولود تشاوش اوغلي، طرابلس عن عقد اتفاقية مع حكومة الوفاق لاستكمال 304 مشروعاً توقفت بسبب الحرب الأهلية.

العوامل المؤثرة على سياسة تركيا
ورغم محاولات التواصل السياسي مع كل الأطراف الليبية، لم تحقق تركيا تقدماً ملموساً في التأثير في التعامل الدولي على الشئون الليبية، وهو ما يرجع لعدد من العوامل، يأتي في مقدمتها:ـ

العامل الأول: تباين مصالح الأطراف الليبية ومضيها في مشوار تقاسم الدولة بشكل أدى لمزيد من الانقسامات السياسية والاجتماعية، وبالتالي، فإن تواصل تركيا مع الأحزاب الإسلامية شكل قيوداً على تواصلها مع الأطراف الأخرى، وخصوصاً بعد احتدام الصراع والحرب الأهلية في 2014.

والعامل الثاني، حيث وقعت السياسة التركية بين متناقضين، فبينما قام منظور السياسة التركية على التنمية والتعاون الاقتصادي، انخرطت البلدان الأخرى في التنافغس على الموارد النفطية ومكافحة الهجرة غير الشرعية، حيث ظهرت التطلعات الفرنسية والإيطالية للاستحواذ على المزايا الجيوستراتيجية والاقتصادية، وأبرمت عقود نفطية بين الحكومة المؤقتة والإمارات العربية.

كما أنه بينما ساهمت محاولات الوقوف على الحياد في تراجع تاثيرها في السياسات حول ليبيا، شهدت عملية التدخل الدولي ظهور إطار دولي يجمع فرنسا مع مصر والإمارات العربية، وإطار دول "جوار ليبيا"، وذلك بجانب "مجموعة الاتصال حول ليبيا" والتي شملت دول مثل أسبانيا، إيطاليا،ألمانيا، بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة، ورغم إصدارها العديد من البيانات المشتركة، لم تتقارب سياستها تجاه ليبيا، بل على العكس من ذلك، سادت حالة تنافسية أضعفت الدور الأوربي، بشكل يضعف فرص تكوين تفاهمات تركية أوربية حول تطوير سياساتها عبر التقارب مع أوربا.

أما العامل الثالث، فيرتبط بالإنقسام الإقليمي حول تداعيات الحراك السياسي ، الربيع العربي، بين الداعمين لتطوير التغيير السياسي وبين الاتجاهات الداعمة لعودة النظم السابقة، ولذلك، فإن انهيار محاولات التغيير في عدد من البلدان العربية، أدى لظهور قيود جديدة على السياسة التركية في ليبيا ودخولها في مرحلة توتر سياسي مع مصر والعربية السعودية والإمارات، وقد زادت ميزات دول الجوار بعد منحها صلاحية تطبيق القرارات المتعلقة بحظر التسلح، حيث يشكل إحدى آليات الامم المتحدة.

إتجاهات سياسة تركيا
وفقاً للبرنامج الانتخابي 2018، تقوم سياسة تركيا الخارجية على قاعدتي؛ أن الاحترام المتبادل يوفر أرضية مشتركة لبناء السلام، ومراعاة المصالح القومية للبلدان الأخرى، كما تشكل قاعدة المكاسب المتبادلة واحدة من أهم الاستراتيجيات، وتتضمن في ثناياها التعامل مع شمال أفريقيا على أساس المساواة والمصالح المشتركة في مجالات العلاقات الثقافية والإنسانية والاقتصادية، والحرب ضد الإرهاب والمخدرات، دعم الاستقرار والأمن ودعم المسارات الدبلوماسية وبناء جسور الثقة.

كما تتبنى مفهوم الدولة القوية لتقليل أثر القيود الخارجية، وهو تعني بالأساس تقليل الاعتماد على وارادات الطاقة وزيادة استقلال الصناعات العسكرية للحد الذي يقلل من الاعتماد على الدول الأجنبية في السياسات الدفاعية.

وفق هذه التوجهات، يمكن القول، أن سياسة تركيا تتسم بالاانفتاحية وأكثر قبولاً للتكيف مع التغيرات السياسية، ويمكن أن تساهم في تقديم  صيغة أكثر ملائمة لفكرة ومسار الحل السياسي وتجاوز التعقيدات الدستورية، وهنا تبدو أهمية العمل على تطوير استراتيجية المسافات المتساوية تجاه الأطراف الليبية.

على مدى السنوات الماضية، تأثرت فاعلية السياسة التركية بالخلافات بين القوى السياسية الليبية وتنافس التحالفات الدولية، وعلى الرغم من تأثير العوامل الداخلية في ليبيا، كانت بالسياسات الدولية أكثر تأثيراً، وبالتالي، يرتبط تحفيز سياسة تركيا أو مراجعتها بتقييم السياسة الأوربية أو مواقف دول جوار ليبيا،.

وبشكل عام، يمكن ملاحظة أن الانقسامات الأوربية مازالت تضفي تعقيدات أمام سياسة تركيا وفضلاً عن أنها لاتساعد على تقديم حلول متماسكة للأزمة في ليبيا، ولذلك، يمكن أن يكون لتركيا خيار أخر، بالتوجه لتطوير سياسة مستقلة تجاه بلدان الشمال الأفريقي ودول جوار ليبيا، بحيث أنه يعزز العلاقات التركية ـ الأفريقية، ويمكن أن يوفر فرصة للمساهمة في تجاوز الحرب الأهلية والخروج من الأزمة الدستورية.