في ظل الاحتقان بسبب ترشيح الرئيس العاجز لولاية خامسة الشارع ينتفض...والجزائر في مواجهة المجهول

برغم قدرتهم على كسر حاجز الخوف، وتبنيهم خيار النزول إلى الشارع لرفض محاولات السلطة القائمة تكريس حالة الأمر الواقع، يعيش الجزائريون وقع مخاوف من الانزلاق نحو المجهول، في ظل اتساع دائرة الرفض الجماهيري لإقدام مجموعة من القيادات الحزبية الموالية للسلطة -على رأسها حزبا جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي- على إعادة ترشيح الرئيس المنتهية ولايته عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة برغم حالته الصحية والناجمة عن إصابته بجلطة دماغية منعته من أداء وظائفه منذ 2013.

وتتزايد المخاوف مما يمكن أن تؤول إليه الأمور في ظل إقدام السلطة على تصعيد سياسة التخويف باستحضار صور المجازر المروعة لفترة أزمة تسعينيات القرن الماضي، ومشاهد الدمار والخراب الذي شهدته العديد من دول "الربيع العربي"، لردع الجزائريين من تبني خط راديكالي تجاه السلطة القائمة، ومحاولة كبح نزعة الاحتجاج بالنزول إلى الشارع كخيار أخير لرفض سياسة فرض الأمر الواقع الذي تتبناه السلطة في التعامل الجزائريين، وتدعمه المؤسسة العسكرية بشكل علني من خلال تحذيرها من أنها سوف تتصدى لكل من تخول نفسه المساس بالأمن والاستقرار، وهي التي يبدو أنها دخلت في تحالفات مع مؤسسة الرئاسة لمواجهة طروحات المعارضة الداعية للقطيعة النهائية مع النظام السابق.

عصب السطة تحسم أمرها....
وتشير العديد من المصادر أن خيار إعادة ترشيح الرئيس المنتهية ولايته لعهدة جديدة كخيار أخير، والذي اعلنته أحزاب الموالاة برغم حالته الصحية المتردية، إنما كان نتيجة مفاوضات بين أجنحة متصارعة داخل السلطة بين دعاة استمراره في منصبه، ودعاة البحث عن بديل مقبول وذو مصداقية، وكانت الغلبة في الأخير لصالح الموالين لبقاء بوتفليقة في السلطة، بشكل يخدم مصالح "الاوليغارشيا الجديدة" المتحالفة مع بعض القوى النافدة داخل السلطة، والتي تشكل السند الحقيقي للجماعة الداعية لبقاء الرئيس الحالي في سدة الحكم، وبتغطية من بعض أحزاب الموالاة، والتي كانت قد حضرت لقرار ترشيح الرئيس المقعد، بتنظيم تجمع جماهيري في إحدى اكبر القاعات الرياضية في العاصمة الجزائر، في سياق عملية جس النبض قبل اعلان قرارها، الذي جاء صادما للرأي العام الجزائري، والذي تشير بعض استطلاعات الرأي أن 97 بالمئة من شريحة الشباب فيه ترفض هذا الترشيح، لشخص يعتقدون أنه لا يتوفر على الشروط الصحية لإدرة شؤون البلاد.

وإن كان قرار إعادة ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة، قد اعتبر انتصارا لأحد الأجنحة المتصارعة داخل السلطة، وتراجع عن سيناريو توريث السلطة لأحد إخوة الرئيس المنتهية ولايته مخافة انفجار الوضع -الذي كان من ضمن مجموعة سيناريوهات مطروحة- فإن القرار في حد ذاته خلق حالة من الضبابية، واوقع الجزائر في وضع الرهينة لرؤية مجموعة ضيقة من المتورطين في الفساد- سواء من السياسيين الانتهازيين أو الأثرياء الجدد- لا تتوانى في تحذير المعارضة من تبني خط راديكالي بالقمع بتهمة أنها تنفذ أجندات أجنبية، وتخويف الرأي العام من تكرار التجارب الفاشلة على غرار ما عرفته سوريا وليبيا واليمن، واستحضار صور سنوات الأزمة في تسعينيات القرن الماضي، لكبح كل رغبة في الاعتراض على خيارات السلطة القائمة، وعلى رأسها اجهاض دعوات النزول إلى الشارع للتعبير عن رفض ترشيح بوتفليقة لعهدة جديدة.

وتذهب بعض القراءات للتأكيد أن التجاذبات بين الاجنحة المتصارعة داخل السلطة لم تصل لمحطتها الأخيرة، وأن قرار تحريك الشارع والمسيرات التي انطلقت في العديد من المقاطعات، للتعبير عن رفض خيار ترشيح الرئيس المقعد، إنما كانت رسالة واضحة للدائرة المحيطة بالرئيس، وبإيعاز من جهات نافدة في السلطة تمثل المعارضين لترشيح بوتفليقة، لتأكيد قدرتها على تحريك الشارع إذا استمر الموالون لبوتفليقة في خيارهم بترشيح رئيس مقعد، إذا رأت أن ذلك يمثل خيارها الأخير، وأن هذه الخطوة هي المرحلة الأولى ضمن خطوات أخرى ضمن سياسة كسر العظام بين النخب المتصارعة في أعلى هرم السلطة، قد تأخذ أشكالا أخرى خلال الأسابيع القادمة.

المعارضة تفشل في طرح مرشح توافقي وتدعم خيار الشارع.
وتتعرض أحزاب المعارضة الجزائرية بمختلف أطيافها لاختبار حقيقي اليوم، أولا من حيث فشلها في بلورة رؤية مشتركة، أو الاتفاق على مرشح توافق لقطع الطريق على الرئيس بوتفليقة الذي يعتبر "مرشح السلطة"، وثانيا من خلال بروز عجزها عن استقطاب الشارع، الذي يبدو أنه تجاوز خياراتها بأشواط، من حيث أنها لم تكن مؤطرة ولا مبادرة للحراك الجماهيري الذي تمت الدعوة إليه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ولم تكن مشاركة فيه، وظهر أنها تحاول ركوب موجة الغضب الشعبي بتأكيدها أنها تدعم خيار النزول إلى الشارع، ودعوتها السلطة للإمتناع عن اللجوء إلى العنف إزاء المتظاهرين واحترام حقوق المواطنين في التعبير سلميا عن آرائهم.

هذا الوضع كشف عن حالة الارباك الذي تعيشه أحزاب المعارضة الجزائرية بأطيافها المختلفة، في حالة غير مسبوقة منذ تبني خيار التعددية الحزبية في الجزائر نهاية ثمانينيات القرن الماضي، في ظل سياسة التخويف من عواقب تبني خيار النزول إلى الشارع التي تلوح بها السلطة أولا، وعدم قدرة هذه الاحزاب على الدفع بمرشحين لهم من الكفاءة السياسية و"الكاريزما" ما يمكنهم من منافسة بوتفليقة ما عدا حركة مجتمع السلم (تيار الاخوان)، في ظل احجام بعض الوجوه المعروفة على خوض غمار هذه الانتخابات بسبب القناعة بأنهم لن ينافسوا مرشح المؤسسة العسكرية أو بعض أطرافها، وهو ما كان قد صرح به رئيس الحكومة السابق السيد مولود حمروش، الذي رأى فيه الكثير من الجزائريين مرشحا قادرا على تحقيق الاجماع وبديلا من شأنه أن يضع بصمته على مستقبل الجزائر، أو شخص الدكتور أحمد بن بيتور الذي يعتبر من التكنوقراط الذين كان من شأنهم وضع الجزائر على سكة الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها، في ظل استمرار السياسات الفاشلة للحكومات المتعاقبة منذ مجي بوتفليقة للسلطة في 1999.

وإن بررت المعارضة قرارها بدعم الحراك الشعبي والنزول إلى الشارع  باعتباره رد على اعلان ترشيح بوتفليقة، الذي رأت فيه اغتصاب لحق المواطن في الاختيار بسبب سيطرة القناعة بأن اعادة ترشيح الرئيس المنتهية ولايته والمقعد منذ 2013، يعني فوزه الأكيد مهما كان منافسه بالنظر لتجربة الانتخابات السابقة، نتيجة غياب الشفافية وميول الادارة لمرشح السلطة، واستخدام التزوير المعمم، وهو ما يعني مصادرة الارادة الشعبية في الاختيار الحر والشفاف، بناء على تجارب الانتخابات السابقة. وهي بذلك تتهم السلطة بعدم احترامها للحريات، ورفضها للتداول الذي يعتبر مبرر اجراء الانتخابات، وهو ما يعني فقدان مبرر اجراء الانتخابات مادامت السلطة مصرة على ترشيح الرئيس المنتهية ولايته الرابعة.

الشارع الجزائري يتحرك.... فهل من مجيب؟
جاء قرار استجابة الجزائريون لدعوات النزول إلى الشارع عبر مختلف المحافظات وفي العاصمة، للتعبير عن رفضهم ترشيح الرئيس المنتهية ولايته لعهدة خامسة، بسبب سيطرة القناعة بعدم قدرة بوتفليقة على إدارة دواليب السلطة بسبب وضعه الصحي المتدهور وبالتالي رأوا في قرار أحزاب السلطة بترشيحه بمثابة السلوك الاستفزازي والتحدي للإرادة الشعبية.

كما أن عملية الترشيح في حد ذاتها يراها الجزائريون تأكيدا لحسم اللعبة الانتخابية بشكل مسبق والفوز المؤكد لمرشح السلطة، وبالتالي استمرارية النخب وجماعات المصالح المتنفدة في دواليب الدولة والمرتبطة بالرئيس الحالي، والمسؤولة مباشرة عن نهب المال العام والفساد الذي ينخر الاقتصاد الجزائري، وهي النخب التي دفعت بقرار ترشيح بوتفليقة دون مراعاة تداعيات ذلك القرار على مستقبل الجزائر.

وبرغم قدرة الجزائريين على اختراق حاجز الخوف بالنزول إلى الشارع عبر العديد من المحافظات، وسط حالة من الاحتقان الممزوج بمشاعر الاحباط واليأس والتخوف، يترقب الجزائريون ما ستؤول إليه الأوضاع خلال الأسابيع المقبلة، بحيث أن القدرة على تجاوز الخطوة الاولى بكسر حاجز الخوف التي سيطرت على قيادات الأحزاب لعدة سنوات، قد يشجع احزاب المعارضة على ركوب موجة الغضب الجماهيري، تظهر ملامحها في تبني أغلب أحزاب المعارضة للدعوات التي اطلقها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي للتظاهر سلميا بالنزول إلى الشارع، ووصولا لدعوتها السلطات باحترام حقوق المواطنين في التعبير سلميا عن آرائهم، وعدم الانخراط في العنف ضد المتظاهرين.

وقد تدفع الرغبة في الاستثمار في الاحتقان الشعبي أحزاب المعارضة إلى الانخراط في استراتيجية احتلال الفضاءات العمومية، مما قد يؤدي إلى التصادم مع قوات الأمن، خاصة وأن الأطراف التي راهنت على بوتفليقة لن تقف متفرجة على أطوار اللعبة حسب ما تشير إليه مؤشرات عديدة، وقد تقرر خوض المواجهة واستعراض قوتها في الشارع هي كذلك-كخيار غير مستبعد- وهو خيار تتداول يعض الاطراف في حزب جبهة التحرير الوطني الذي تبنى ترشيح بوتفليقة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى التصادم، من تم جر الشارع إلى العنف او العنف المضاد، كسيناريو يتخوف منه الجزائريون من استنساخه من بعض التجارب التي شهدتها بعض الدول العربية مثل سوريا وليبيا، وقد يكون السيناريو المحبذ لبعض القوى الداخلية والخارجية التي راهنت على "ربيع عربي في الجزائر"، انتظرته طويلا لاغراق الجزائر في نفق العنف مجددا.

والرفض الشعبي الجزائري لمسعى ترشيح وفرض الرئيس المقعد في انتخابات افريل 2019، الذي كان يجري في الحوارات اليومية بين الجزائريين، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ يأخذ منحى تصاعديا من خلال المسيرات المتفرقة التي شهدتها العديد من مقاطعات شرق البلاد، والتي اعتبرت مؤشرا على قدرة الشارع على اختراق جدار الصمت الذي تفرضه السلطة القائمة، التي لم تتوان عن التخويف من الاستجابة للدعوات التي تطلقها بعض الجهات للنزول إلى الشارع، تراوحت بين تهديدات قيادة الجيش بالتصدي لكل محاولات المساس بالأمن والاستقرار، وبين محاولة اثارة البعد العاطفي لدى الشارع الجزائري باتهام المواقع المحرضة على الاحتجاج بعلاقاتها بابعض الجمعيات الصهيونية، والتأكيد على أن 3500 موقع من المواقع الداعية للتظاهر هي مواقع اسرائيلية، وهي الداعاية التي راهنت السلطة على أنه من شأنها أن يجعل الكثير من المواطنين يترددون في الاستجابة لدعوات التظاهر، دون أن نغفل لجوئها لجمعيات الأئمة والزوايا (الطرقية) التي بوق  للترويج لخطاب السلطة بالحفاظ على امن واستقرار البلاد من القوى الأجنبية المتربصة بامن الوطن، وصولا في تجريم دعوات التظاهر بما دفع المصلين في عديد المساجد لمقاطعة صلاة "جمعة المظاهرات".

ولم يكن قرار الجزائريين بتبني خيار النزول إلى الشارع إلا تأكيد لحالة اليأس التي احدثها اعلان احزاب الموالاة عن ترشيح بوتفليقة الذي لم يتمكن من مخاطبة الشعب الجزائري منذ اكثر من ست سنوات، وهو ما اعتبره الجزائريون استفزازا وإهانة لهم، ولم يكن خيار الشارع سوى الخيار الأخير للتعبير عن تطلعات الجماهير الواسعة المسحوقة، في ظل فشل الطبقة السياسية المرتبطة في أغلبها بالمال الفاسد عن التعبير عن تلك التطلعات، وفي ظل أزمة بطالة حادة، وتراجع رهيب لقيمة العملة المحلية، وتفشي مظاهر الفساد المالي ونهب المال العام الذي أصبح ينخر الاقتصاد الجزائري، الذي أدى لبروز طبقة من أثرياء الأزمة المرتبطين بدوائر السلطة، يتصور الجزائريون أنهم يشكلون خطرا حقيقيا على اقتصاد البلاد المنهك من أساسه، وعلى الاستقرار الداخلي بسبب استخدامهم المال الوسخ في الممارسة السياسية سواء بالوصول إلى مقاعد البرلمان كسلطة تشريعية والتغلغل في دوائر صنع القرار.  

وفي ظل المعطيات الجديدة الناجمة عن انطلاق هذا الحراك الشعبي، يؤكد عديد المتابعين للشأن السياسي الجزائري عن فقدان الجماهير الواسعة ثقتها في الأحزاب السياسية بمختلف أطيافها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعجز الأطر التقليدية عن مواكبة تطلعات الشرائح الشبانية الواسعة من الجزائريين، وأن على السلطة القائمة إعادة النظر في حساباتها، التي اسقطت منها ما سمي ب"الاغلبية الصامتة"، التي تبدو اليوم أكثر إصرارا على إسماع صوتها المطالب بإنهاء حالة الوصاية ورفض ترشيح رئيس عليل تختفي وراءه مصالح لوبيات الفساد المالي المتغلغل في دواليب السلطة، التي لا تتردد في انتهاك الدستور كممارسة تكرست خلال الفترات الرئاسية الأربعة لبوتفليقة.

وإذا كانت السلطة الجزائرية اليوم أمام مجموعة من الخيارات تتراوح بين الاستجابة السريعة بتخلي بوتفليقة عن ترشحه بتوصية طبية تزيل عنه وعن مؤيديه الحرج- ويجنب الصدام الشعبي- وبين صم الآذان عن سماع مطالب الشارع وصولا إلى إمكانية التصعيد بالرد على المسيرات بمسيرات مضادة مؤيدة لبوتفليقة، فإن السلطة الحالية تتحمل مسؤولية تجنيب بالدفع البلاد نحو شفير الهاوية، وافشال سيناريو "الربيع العربي" في الجزائر، الذي يعتبر هاجس الجزائريين ومصدر مخاوفهم، وأسوأ سيناريو يتوقعونه وتستعمله السلطة وتوابعها من الاحزاب لترهيب معارضي بوتفليقة ودعاة التغيير.