مقترح قائد الأركان لعزل الرئيس يهدد بتفكيك قوى المعارضة وتصعيد الاحتجاج

منذ ان اقترح  قائد اركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح في  26 أذار/ مارس اللجوء لتطبيق المادة 102 من الدستور الجزائري، لاثبات حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، وتبنيها كآلية للوصول إلى حل للأزمة التي تعيشها الجزائر منذ بداية الحراك في 22 شباط/ فبراير 2019، أظهرت الاحزاب السياسية والقوى الفاعلة في الساحة الجزائرية تبايناً في مواقفها من تلك الدعوة، وتعددت تصوراتها للحل، بين من رأى دعوة قائد الاركان محاولة للالتفاف حول الحراك من طرف الدولة العميقة وافراغه من محتواه، وبين من رأى في ذلك المقترح أرضية يمكن أن تشكل قاعدة لبداية مرحلة انتقالية، تؤسس لبناء دولة ديقراطية في الجزائر بضمانة الجيش، وهو ما غيب إلى حد الآن أفق للحل، خاصة في ظل تأخر إقدام الرئيس بوتفليقة على تقديم استقالته، وعدم إعلان المجلس الدستوري حالة الشعور بسبب المرض، بما يفتح المجال لسيناريوهات غير محسوبة.

ومع استمرار التحشد الجماهيري لمواصلة الحراك منذ أكثر من شهر، لا تزال حالة من الغموض تسود مستقبل الوضع السياسي في الجزائر، برغم طرح قائد اركان الجيش الجزائري لمقترح اللجوء إلى المادة 102 من الدستور لاثبات حالة الشغور، والتي اعتبرها خطوة لايجاد مخرج للأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، عبر تولي رئيس الغرفة العليا للبرلمان منصب رئاسة الدولة الذي سيشرف على تنظيم الانتخابات الرئاسية. وتنص المادة 102 على أنه "إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوريّ وجوباً، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع".

ولم تكن حالة التوجس والريبة لدى الطبقة السياسية والرأي العام الجزائري تتغذى من فراغ، فبالرغم من دعوة بعض تلك القوى خلال الأسابيع الأولى لبداية الحراك لمرافقة الجيش لعملية الانتقال الديمقراطي، دون التورط مباشرة في الشأن السياسي بشكل مباشر، إلا أن التأخر في طرح مقترح قائد اركان الجيش بإثبات حالة الشغور أثار العديد من التساؤلات لدى الطبقة السياسية، في ظل مخاوف من تكرار التجربة المصرية في الجزائر، بكل ما فيها من سلبيات وارتداد على مسار التحول الديمقراطي.

وتكمن المشكلة من جهة أخرى في اختلاف رؤى ومقاربات حل الازمة، ففي الوقت الذي تصور قائد اركان الجيش الجزائري الحل ضمن الدستور الحالي متمثلا في اللجوء للمادة 102، تعتقد المعارضة أن المشكلة التي تعيشها الجزائر سياسية وليست دستورية، وبالتالي فلا مجال للحديث عن الدستور، ومن الواجب البحث عن حل سياسي لمشكلة سياسية. في الوقت ذاته تذهب بعض الأوساط المتابعة أن اللجوء للمادة 102 المتعلقة باثبات حالة الشغور ليست الحل، ولكنها قد تكون خطوة أساسية ومرحلية باتجاه الذهاب نحو حل للأزمة التي تعصف بالبلاد، خاصة إذا اقترنت بمجموعة من الاجراءات التي طرحتها بعض أحزاب المعارضة في أرضيتها قبل طرح قائد الاركان لمقترحه.  

     فبالرغم من اجماع الطبقة السياسية والفاعلين على تأخر دعوة قائد اركان الجيش لتفعيل المادة 102 لاثبات حالة الشغور، مقارنة بمطالب الحراك التي بلغت حد المطلبة برحيل كل رموز النظام، واقرار مرحلة انتقالية تكون معبرا نحو بناء الجمهورية الجديدة، إلا أن عدم اتفاق تصورات مختلف الأطراف لكيفية تجاوز الأزمة الحالية، خلقت بعض الانشقاق في صفوف المعارضة، بشأن الكيفية التي يتم من خلالها تحقيق الانتقال الديمقراطي.

ويشير الرافضون لمقترح قائد اركان الجيش باللجوء الى المادة 102 من الدستور، إلى أن النية مبيتة للالتفاف على الحراك واستمرار نفس النظام المدعو للرحيل، وذلك لكون هذه المادة سيترتب عنها تولي رئيس الغرفة العليا من البرلمان (مجلس الأمة) رئاسة الدولة لمدة قد تصل ـ135 يوماً، مع عدم القدرة على تعديل الحكومة الحالية التي ستشرف على الإنتخابات الرئاسية، بحسب نص المادة 104 من الدستور، ومن تم اعتبر هذا المخرج الدستوري للأزمة غير مقبول لدى الحراك والطبقة السياسية على حد سواء، لأنه يعني استمراراً لنفس وجوه النظام، خاصة أن رئيس مجلس الأمة معروف بوفائه الشديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهو الرجل الثاني في حزب التجمع الوطني الديمقراطي، كأحد الاحزاب التي دافعت عن ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة برغم حالة الصحية المتردية، بما يجعله يفتقد للمصداقية والجدية في تحقيق مطالب الحراك.

ويستند الرافضون لمقترح قائد اركان الجيش إلى القول أنه رفضهم لهذه المادة تبرره طبيعة الأزمة السياسية، التي تجازت الطابع الدستوري، وأن الدستور قد تعرض للخرق لسنوات وبالتالي فلا مبرر  لمحاولة التمسك بالنصوص الدستورية لمواجهة الأزمة التي نجمت أصلا بسبب الخرق المفضوح والمتعدد للرئيس المنتهية ولايته لدستور البلاد، باعلان ترشحه لولاية رئاسية جديدة في وضع صحي متدهور، ومن تم فلا مجال للبحث عن حلول دستورية لازمة سياسية، يتمسك الشارع والطبقة السياسية بأن حلها يكمن فقط في رحيل كل رموز النظام بالعودة إلى المادة السابعة، التي ستعيد السلطة للخيار الشعبي لاختيار رئيس جديد على أسس صحيحة.

وبالرغم من أن هذه القوى التي تتوافق في تصوراتها مع ما صار يذهب إليه الحراك الرافض لتفعيل المادة المتعلقة بحالة الشغور، فإنها لم تعلن لحد الآن عن تصورها للكيفية التي تتم من خلالها عملية الانتقال الديمقراطي، وذهاب رموز النظام الحالي، سوى الحديث عن الذهاب إلى تطبيق المادة السابعة من الدستور التي تحيل إلى أن الشعب هو مصدر السلطة والسيادة، وهو ما جعل العديد من المتابعين ينتقذون منطق "كل شيء أو لا شيء". 

ان أحزاب الأقليات الجهوية أو اللغوية مثل جبهة القوى الاشتراكية (اليسارية) وحزب العمال (تروتسكي) وحزب الاتحاد الديمقراطي (يساري) والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (علماني ليبرالي- ذو نزعة جهوية-) وحزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي (علماني ليبرالي)، والتي شكلت ما اسمته بالتنسيقية الوطنية من أجل التغيير، تظهر نفسها بأنها أكثر الأحزاب تمسكا بالدعوة لاسقاط المادة 102، وتذهب بعيداً في دعوتها لضرورة الذهاب الى جمعية تأسيسية يعاد بموجبها صياغة الدستور بطرح موضوع الثوابث ومسألة عروبة الجزائر، ومقاربة الفيدرالية.   

بالمقابل نجد ان هنالك مجموعة من أحزاب المعارضة التي دخلت في مشاورات مبكرة، ومن ضمنها عدداً من الشخصيات السياسية والقيادات الحزبية، من بينها رئيس حزب العدالة والتنمية عبد الله جاب الله ورئيس حزب طلائع الحريات رئيس الحكومة الاسبق علي بن فليس والدبلوماسي السابق عبد العزيز رحابي وعدد من الشخصيات الاخرى، وهذه الأحزاب والشخصيات قد بلورت أرضية للإنتقال قبل طرح قائد الاركان مقترحه، كما ان هذه الأحزاب والشخصيات لم تبد معارضة مطلقة لمقترح تطبيق المادة 102 لإثبات  حالة الشغور، وذلك لأنه لا يمكن الشروع في تنفيذ باقي خطوات المرحلة الانتقالية التي بلورتها، دون اعلان حالة الشغور التي طالبت بها هذه الأحزاب منذ بداية الحراك، بحكم أن الرئيس المنتهية ولايته مازال بقوة القانون رئيسا للجمهورية إلى غاية 28 نيسان/أبريل 2019. واشترطت هذه الأحزاب والشخصيات تدعيم مقترح تفعيل المادة 102، باتخاذ مجموعة من الاجراءات التي ترى فيها ضامناً لتحقيق مطلب الحراك الشعبي، ومنها تنصيب حكومة كفاءات ولجنة مستقلة للإشراف على تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، كمطلب أساسي يمكن من بلوغ هدف بناء الجمهورية الجديدة على انقاض النظام القائم، بحسب تصور كل من حركة "مواطنة" التي تضم العديد من الفعاليات الحزبية والشخصيات (علمانية و ليبرالية)، وحركة مجتمع السلم (حركة الاخوان) وحزب العدالة والتنمية (اسلامي)، وحزب طلائع الحريات (محافظ). والملاحظ أن هذه الأحزاب لا تعترض مبدئياً على مقترح قائد أركان الجيش الجزائري، بقدر ما تطالب بأن يتسمر الجيش-مثلما طرحته قبل عرض المقترح- ضامنا لشفافية الانتخابات وشفافيتها وللإنتقال السلس للسلطة، بوصف أن عملية التحول لا يمكن أن تتم دفعة واحدة، وبالتالي فمن المعقول مسايرة مقترح اثبات الشغور للمرور لبقية الاجراءات، التي عرضتها للرأي العام في 4 آذار/ مارس 2019 وقدمت من خلالها تصورها للخروج من الأزمة السياسية الحالية، عبر مجموعة من الخطوات، من ضمنها تبني خيار الرئاسة الجماعية وتنصيب حكومة كفاءات لادارة المرحلة الانتقالية وتشكيل لجنة مستقلة لمراقبة الانتخابات الرئاسية.                                                                                                          

وبالنظر لتطور حراك الشارع الجزائري وتزايد الملتحقين بالتجمعات والمسيرات السلمية الاسبوعية، ورفض تقديم ممثلين للحراك لحمايته من الاختراق، وامتناع او رفض حاشية الرئيس المقعد تقديم استقالته إلى غاية نهاية عهدته، كورقة أخيرة تستعمل لخلط أوراق الحراك وارباكه ومحاولة زرع الفتنة بين مكونات الحراك، تذهب العديد من المؤشرات إلى تأكيد الاستمرارية في المسار المطلبي من أن أجل التغيير الشامل لرموز النظام القائم، مع توقع المزيد من التصيد في مقابل تنازلات أخرى من السلطة الفعلية (الجيش)، ولكن ذلك سيكون على حساب الموقف الموحدة من المعارضة تجاه مقترحات المؤسسة العسكرية، بحيث بدأت الاختلافات في المواقف تبرز بشكل متسارع، مثلما كان الحال مع المقترح الذي قدمه قائد أركان الجيش المتضمن في المادة 102، بحيث تحول المقترح إلى مصدر خلاف بسبب غياب الرؤية الموحدة للخروج من الأزمة، برغم أن ما جمعها في البداية – معارضة ترشح الرئيس المنتهية ولايته، والدعوة لانتخبات شفافة ونزيهة- لا زال قائماً. 

بالرغم من القبضة الحديدية للسلطة الحالية التي تواجه بها الحراك الجماهيري في الشارع الجزائري، إلا ان اعلان حالة الشغور سواء بالمرض أو بالاستقالة، قد يفتح آفاقاً لوضع ترتيبات الخروج من الأزمة، برغم كل المخاطر متعددة الأبعاد التي يمكن أن تنتج عن طول فترة المواجهة بين السلطة القائمة والحراك الشعبي، ومن ضمنها امكانية انحراف الامور إلى العنف، وقد تكون من ضمن هذه الآفاق الجديدة تقديم الضمانات اللازمة لاجراء الانتخابات الرئاسية، لتبديد مخاوف الشارع حول ترتيبات النظام لتجديد نفسه لضمان استمراريته.

هذه السيناريوهات تجد سندها في ما اظهره قائد اركان الجيش من محاولته إيجاد مخرج للأزمة الحالية باقتراح تفعيل المادة 102، وهو ما يكشف عن احتمالين إثنين إما أنه بصدد امتصاص غضب الشارع ضمن ما يسمى ب"دبلوماسية الاسفنجة"، أو أن هناك تحولاً عميقاً داخل المؤسسة العسكرية، وهذا الاحتمال يبدو أقرب للواقع، وترجحه المواقف المتدرجة لقيادة الجيش منذ بداية الحراك التي توجهت تدريجيا لتبني خيارات الشارع وحمايتها، وهذا الاحتمال ترحجه العديد من الأوساط المتابعة، وتذهب إلى حد القول أن الجيش إذا تمكن من تفادي التورط بشكل مباشر في الأزمة الحالية، فهو سيظل على الأقل محايدا في ظل تزايد ضغط الشارع، وبالتالي سيلعب دور المراقب لمنع انحراف العملية السياسية عن مسارها الطبيعي، ومنع تكرار تجربة تسعينيات القرن الماضي عندما وجد نفسه منغمساً في العملية السياسية وبعدها الأزمة الأمنية التي دفع ثمنها غاليا من سمعته وتعداده ومكانته لدى الشارع الجزائري، ولا يبدو اليوم أن المؤسسة العسكرية على استعداد لتكرارها. وهذا الموقف من الجيش تبدو آثاره واضحة على المتظاهرين في الشارع الذي رفعوا شعار "الجيش الشعب خاوة خاوة" أي "الجيش والشعب إخوة إخوة"، وقد تفادت الشعارات المرفوعة من طرف المتظاهرين إلى حد الآن، المساس بالمؤسسة العسكرية ومختلف الأجهزة الأمنية على إلتزامها الحياد وتفادي إقحامها في الأزمة التي تسبب فيها السياسيون، وهو ما أزال مخاوف المتظاهرين من كل إمكانية لاستخدام القوة ضدهم، وشكل خلفية لتزايد أعداد المشاركين في المظاهرات من أسبوع لآخر، شكل العنصر النسوي جزءاً مهماً من ديكورها الجميل.