السودان بين البشير والجيش

بدأت الاحتجاجات في السودان في أواخر كانون الأول سنة 2018 في ظل مايعيشه الشرق الأوسط من أحداث بعد سنة 2011م، فماهي أسباب ظهور الاحتجاجات في هذا التوقيت؟ وهل هناك احتجاجات سابقة؟ وهل هناك إمكانية إلى أن تتحول تلك الاحتجاجات إلى ثورة تستطيع تغيير النظام السياسي القائم؟

رغم أن الوضع الحالي في السودان والتظاهرات الكبيرة التي خرجت في الأيام الماضية كان متوقعاً حدوثها بسبب الأزمات المتراكمة التي يمر بها السودان خاصة في الجانب الاقتصادي والسياسي، لكن ما لايتوقعه الكثيرون، هو أن هذه التظاهرات الصغيرة كانت بمثابة عود ثقاب من مخزن بارود، حيث بدأت المظاهرات كبؤر تجمعات صغيرة في بعض أطراف العاصمة السودانية، ولم يتم الانتباه لهذه التظاهرات إلا عندما وصلت مدينة عطبرة وبورتسودان.

وفي يوم 20 كانون الأول سقط عدد من القتلى عندما وصلت المظاهرات إلى مدينة القضارف المجاورة لإثيوبيا، ثم انتقلت إلى الخرطوم وبقية المدن، لذلك أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في بعض المدن، لكن عمت المظاهرات أغلب مناطق السودان، فواجهتها الشرطة بالغاز المسيل للدموع وإطلاق الرصاص الحي الأمر الذي أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى.

تصاعدت الاحتجاجات بعد ذلك وراح ضحيتها عدد من القتلى في ظل عدم وجود أي مؤشر عن اقتراب نهايتها، في ظل استمرار سيطرة النظام على العاصمة، واستمرت المظاهرات في ظل انضمام كثير من النقابات والتجمعات واللجان لها وتمكنها من التجمع في العاصمة الخرطوم والهتاف بسقوط الرئيس البشير.

إن هذه الاحتجاجات لم تكن الأولى في السودان حيث سبقتها احتجاجات عام 2013، ولكن البشير استطاع أن يستوعب تلك الاحتجاجات؛ وذلك بإعلانه عدم رغبته بالترشح لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2015، لكنه لم يوفِ بوعده وأستمر بالسلطة لغاية اليوم.

أكدت المعارضة السودانية إن الاحتجاجات الحالية هي نتاج طبيعي لسياسات الحكومة المتخبطة، وإن مطالب المتظاهرين كانت معيشية، ثم أرتفع سقفها لتصل للمطالبة برحيل النظام، وطالبت الجبهة الوطنية للتغيير المكونة من 22 جماعة سياسية وحزب، بـ "نظام جديد" في البلاد، حيث أعلنوا "أن نظام الرئيس عمر البشير الحالي لايستطيع التغلب على الأزمة بسبب عزلته السياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية، ولا سبيل لتغيير النظام الحالي إلا بإقامة نظام جديد بثقة الشعب السوداني".

  • أسباب الاحتجاجات الحالية :

1. أسباب اقتصادية:

  • حيث ارتفع سعر رغيف الخبز الواحد ثلاث جنيهات بعد أن كان جنيه واحد، ووصل في بعض المناطق إلى 4 جنيهات، بالإضافة لندرة دقيق الخبز.
  • ارتفاع أسعار الوقود والمواد الاستهلاكية الأخرى.
  • ندرة السيولة النقدية، فالبنوك تعجز عن توفير السيولة النقدية لمودعيتها بسبب سحب المواطنين لمدخراتهم وتحويلها للدولار.
  • ارتفاع الحد الأدنى الشهري للمعيشة إلى ثلاث أضعاف بعد موجة ارتفاع الاسعار.
  • ارتفاع نسبة التضخم 70% في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعاني من السودان منذ عام 2011م، وهو العام الذي انفصل فيه جنوب السودان عن شماله، وهو الذي كان يؤمن 80% من موارد العملة الأجنبية التي كانت تأتي من إيرادات النفط، في ظل أرقام غير رسمية تتحدث عن أن نسبة الفقر قد تصل إلى 80% من السكان، في وقت يتذيل السودان مؤشر الفساد في العالم عام 2018م.
  • فشل سياسة الحكومة الاقتصادية دفعها لبدء موجة التقشف الاقتصادي، والذي بدأته برفع أسعار المحروقات عام 2013م، والتي رافقها موجة احتجاجات، وحذر وقتها حسن الترابي رفيق البشير السابق من أن تتحول الاحتجاجات لثورة شعبية، لكن ذلك لم يحدث. فجاءت موجة التقشف الثانية  أواخر عام 2016 صاحبها رفع الدعم عن الوقود، فزادت الأسعار بنسبة 30%، كذلك ارتفعت أسعار الكهرباء والأدوية، فنضم السودانيون عصياناً مدنياً وعدد من التجمعات، وفي العام التالي توصل الحوار الوطني الذي قاطعه طيف واسع من المعارضة إلى اتفاق بإنشاء حكومة وحدة وطنية حلها البشير بعد أكثر من عام، لتعود الجموع مرة أخرى إلى الشارع بعد الموجة الثالثة من موجات التقشف، والتي طالت الخبز هذه المرة.

وحتى مع إعلان  الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل عدة سنوات رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان المفروضة منذ 20 عاماً لم يستفد الاقتصاد السوداني من ذلك، ويعيش أسوء أيامه وسط انكماش حاد، وتضخم كبير، وانهيار قيمة العملة أمام الدولار.

كذلك فإن كثير من المستثمرين يعزفون عن العمل في السودان الذي لايزال مدرجاً لدى واشنطن كبلد راع للإرهاب، ورئيسه مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية في تهم إبادة جماعية في دارفور.

2. أسباب سياسية:

حيث سعى البشير لتعديل الدستور حتى يُسمح له بولاية أخرى ابتداء من 2020م، فانتاب الشباب إحساس بأن المسؤولين يعيشون في عالم آخر، وتشغلهم القضايا السياسية عن احتياجات الشعب المعيشية، والإحساس بانسداد الأفق السياسي قد ضاعف من الاحتقان لدى الشباب.

 وترافق ذلك مع رفض النظام السوداني تقديم أي تنازلات حقيقية في جلسات الحوار، حتى أن بعض المشاركين في جلسات الحوار تم إعتقالهم.

 أكثر مافاجأ الحزب الحاكم هو عفوية المظاهرات، وأنها خرجت من مناطق تعتبر من معاقل الحزب الحاكم، وخاصة مدينة عطبرة التي ينحدر منها الرئيس السوداني، كذلك خرجت معها الولاية الشمالية التي ينحدر منها كثير من أبنائها في صفوف المؤسسات الأمنية والعسكرية.

بعد تصاعد الاحتجاجات وعد الرئيس السوداني بالعمل على تحقيق تداول سلمي للسلطة، وأكد أن حكومته ملتزمة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة سنة 2020م، والقيام بإصلاحات وتشكيل لجنة تقصي الحقائق، والتعهد بتجاوز الأزمة الاقتصادية من خلال خارطة طريق، ودعا المعارضة إلى المشاركة في انتخابات حرة ونزيهة، كما أعلنت الحكومة السودانية رفضها استخدام القوة والعنف ضد المحتجين مؤكدة حقهم بالتظاهر السلمي، واتهمت الحكومة المتظاهرين بالقيام بأعمال تخريبية، ووجهت أصابع الاتهام لجهات خارجية ولحركة "عبد الواحد محمد نور" المتمردة في دارفور، بمحاولة تنفيذ اغتيالات أثناء المظاهرات.

هنا نقول: إذا كانت الحكومة لديها علم بالاحتياجات الشعبية لما لم تتقدم بالحلول قبل هذا التاريخ؟ وماذا تنتظر؟

بماذا تختلف هذه الاحتجاجات عن الاحتجاجات السابقة؟

 تختلف الاحتجاجات الحالية عن سابقاتها لإنطلاقها من الأقاليم، وسرعة انتشارها في البلاد، والاختلاف هذه المرة أن الانتفاضة قادها الشباب، الذي عاش في ظل الوضع الراهن ورأى بنفسه ماوصلت له البلد بكل الأصعدة.

 فمنذ عام 2011م لم تتوقف دعوات التظاهر والتي أطلقها نشطاء معظمهم يقيم بالخارج، لكنها لم تلقى استجابة كالاحتجاجات الحالية.

كذلك كان ملفتاً للنظر قيام قوات الجيش بحماية المتظاهرين من قوات الشرطة التي أرادت التعامل بعنف مع المتظاهرين، بل في بعض الأحيان حمت المتظاهرين، وهذا ما أوحى لبعض المراقبين أن المؤسسة العسكرية تضع مسافة بينها وبين قائدها الأعلى المشير عمر البشير الذي يهتف المتظاهرون بسقوطه، بينما رأى آخرون أنها مجرد خطوة لتهدئة المواطنين الغاضبين

 من المفارقات أيضاً أن النظام السوداني حظي بدعم من كل القوى الإقليمية والدولية، ولا تدعم أي دولة الاحتجاجات الشعبية؛ إذ خشيت السعودية والإمارات من سقوط النظام الذي يقاتل إلى جانبهما في اليمن، ثمّ إن دول الثورة المضادة، ومنها مصر، تخشى نجاح أي ثورة شعبية جديدة في المنطقة تعيد الروح إلى ثورات الربيع العربي، كما أن قطر لا تدعم أي عمل يقود إلى إسقاط النظام الذي رفض الانضمام إلى الحصار على الرغم من الضغط السعودي. ويبدو أن محور روسيا-إيران يؤيده أيضًا، ولا سيما بعد زيارة الرئيس السوداني الأخيرة لدمشق؛ حيث كان أول زعيم عربي يزور سورية منذ اندلاع الثورة فيها، ما فتح الباب لحملة "تطبيع" مع النظام السوري. يُضاف إلى ذلك أن النظام يتمتع بعلاقات قوية مع الصين التي وقفت إلى جانبه منذ وصوله إلى السلطة في حزيران 1989، حتى في ظل العزلة الدولية التي فرضتها عليه الولايات المتحدة والدول الإقليمية المتحالفة معها، في وقت كان السودان يعيش عزلة كبرى بسبب موقفه من حرب الخليج عام 1991، واتهامه برعاية الإرهاب. كذلك فإن الصين (بالاشتراك مع ماليزيا) أدّت دورًا محوريًا في جهود استخراج النفط السوداني في نهاية التسعينيات، كما تأتي الاحتجاجات في وقت لا تبدو فيه واشنطن متحمسة لأي موجة جديدة من التغييرات في المنطقة، في وقت تحسنت فيه علاقاتها بالنظام في الخرطوم، بعد حل أكثر القضايا التي دفعتها إلى عزله وفرض عقوبات عليه، وعلى رأسها قضايا دعم الإرهاب ومشكلة الجنوب الذي انفصل عام 2011.

 كان نظام البشير يتقن اللعب على كل الأحبال داخلياً وخارجياً، وقدم النظام السوداني نفسه في عباءة الإسلام السياسي، حتى بعد انقلاب البشير على الترابي 1999م.

وكان يبدو أن هناك رغبة دولية لإبقاء الأمور على ماهي عليه، كذلك أي حراك لايشكل زخماً في العاصمة الخرطوم، أو لدى الجيش لايمكنه أن يحدث أي تغيير، بالإضافة إلى أن المجتمع الدولي لايرغب بأي تغيير مفاجئ في حكومات المنطقة.

تصاعد الاحتجاجات من جديد:

 يبدو أن نجاح احتجاجات مماثلة -وإن كانت أكبر حجماً- في الجزائر في إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على التنحي الأسبوع الماضي، قد شجع النشطاء السودانيين على الدعوة إلى احتجاجات يوم 6 نيسان/ أبريل للاحتفال بذكرى الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس جعفر النميري عام 1985 في أعقاب احتجاجات حاشدة على حكمه.

هذا في وقت حذر المتحدث باسم الحكومة السودانية من مغبة وقوع حرب أهلية بسبب الاستقطاب السياسي، ووجه اتهامات لجهات ومنظمات خارجية واتهمها بجمع أموال للمتظاهرين لحشد مليوني متظاهر في ساحة القيادة العامة للقوات المسلحة، مستغلين رمزية 6 أبريل/ نيسان.

وأجمع مراقبون للمشهد في السودان على أن مصير الحراك الشعبي بات منوطاً بما يدور خلف الأسوار العالية لقيادة الجيش "المحاصرة" بآلاف المحتجين منذ يوم السبت 6 نيسان، فموقف القوات المسلحة هو الحاسم لمسيرة احتجاجات دخلت شهرها الرابع، وحياد الجيش تحول إلى تعاطف لافت، وكان مشهد أحد جنود الجيش المرتكز على سيارة دفع رباعي أمام بوابة قيادة الأركان البرية لافتاً، وهو يطلق زخات تحذيرية من مدفع "الدوشكا" لصد عناصر أمنية حاولت إطلاق الغاز المسيل للدموع على المحتجين المعتصمين، وتحول مكان الاعتصام إلى ما يشبه المزار، حيث أقام المتظاهرون خياما لتقديم الخدمات، مما يشير إلى نيتهم مواصلة الاعتصام المفتوح إلى حين تلبية مطالبهم.
وبدا أن الحسم في أن يقول الجيش كلمته، وثمة تسريبات أشارت لضغوط مارسها صغار الضباط على كبار القادة المرتبطين بالرئيس البشير.

وذكَّرت هذه التسريبات بما جرى بانتفاضة السادس من أبريل/نيسان عام 1985، حيث أعلن القائد العام للجيش الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وتحت ضغط العسكر، انحياز الجيش للشعب وإنهاء حقبة الرئيس جعفر النميري، بعد أن التزم الجيش الحياد طيلة أيام المظاهرات.
تفاعل بعض الضباط لم يكن جديد، ففي آذار الماضي أحال الرئيس البشير القائد العام للجيش عدداً من الضباط إلى التقاعد بسبب آراء بدت مؤيدة للحراك، من بينهم العقيد ود المنسي والعقيد صلاح الكودة والمقدم عمر أرباب.

وبدت هتافات المحتجين المؤيدة للجيش مثل "جيش واحد.. شعب واحد" قادرة على كسب تعاطف القوات المتمركزة، وشوهد مساء السبت مواطنون يعانقون بعض الجنود، كما حمل محتجون ضابطاً على الأعناق بحي بري وسط هتافات "تسقط بس"، في حين أكدت قيادة الجيش أن المحتجين فئة من الشعب يجب الاستماع إليها.

وقال المتظاهرون إن اعتصامهم سيستمر إلى أن يسقط النظام مؤكدين سلمية حراكهم، في غضون ذلك، عقد الرئيس السوداني عمر البشير اليوم اجتماعاً طارئا ًبقيادة الجيش لمناقشة المستجدات على الساحة السودانية، كذلك أطفأت الحكومة الكهرباء عن السودان بالكامل، كذلك تم حجب مواقع التواصل الاجتماعي.

وبحسب مصادر نافذة قريبة من البشير قالت إن الرئيس أقرب لتنفيذ الخطة "باء" المتعلقة بتسليم السلطة إلى الجيش السوداني بعد الاتفاق على ضمانات محددة تتصل بالوضع في البلاد وأخرى تتصل بملف الجنائية الدولية.

وفي صبيحة 11 أبريل/نيسان 2019 أعلن التلفزيون السوداني أنه سيبث بيانا ًمهماً للقوات المسلحة، في حين انتشرت الآليات العسكرية بمحيط القصر الجمهوري بالخرطوم، وبعد ساعات أعلن الجيش أنه أطاح بالبشير واعتقل أبرز مساعديه، وتشكيل مجلس انتقالي لإدارة البلاد برئاسة عوض بن عوف وزير الدفاع، كذلك إعلان فترة انتقالية لسنتين، بعدها تجري انتخابات، وفرض حضر التجول ليلاً، وحل الحكومة ومجلس الشعب.

قرارات عوف – الذي تشمله العقوبات الأمريكية- قوبلت برفض تام من المتظاهرين، واستمرت الاعتصامات، فاضطر عوف لإصدار البيان الثاني 12 نيسان تنازل به عن منصبه، وأنه تم اختيار الفريق عبد الفتاح برهان رئيساً للمجلس الانتقالي، هذا التعيين وجد قبول لدى المتظاهرين، مع إصرارهم على تقليص الفترة الانتقالية لستة أشهر، وضمان عملية النقل الفوري للسلطة إلى حكومة مدنية انتقالية عبر المجلس القيادي لقوى إعلان الحرية والتغيير، وإلغاء أي قرارات تعسفية من قيادات لا تمثلها ولا تمثل الشعب، والتحفظ على كافة رموز السلطة الماضية من المتورطين في جرائم ضد الشعب

لكن اللافت للنظر حتى موقف قوات التدخل السريع التي أصدرت بياناً أكدت فيه على ضرورة الحوار مع المجتمع، وإجراء انتخابات تحت رقابة دولية، وفي ظل قانون انتخابي يتفق عليه الجميع.

 يبدو أن البشير حصل على ضمانات لشخصه، وأن التجرية المصرية سنة 2011م بسيطرة المجلس العسكري لفترة معينة وبعدها تجري انتخابات ستكرر في السودان، وهذا يتوقف على موقف المتظاهرين، واستمرارهم بالاعتصامات ممكن أن يغير هذا السيناريو ويتمكن المتظاهرين من تحقيق مطالبهم، كذلك الموقف الدولي الذي يترقب حتى الآن مايجري هناك، دون إصدار بيانات قوية مؤيدة للجيش أو المتظاهرين.