انتخابات 2018 البرلمانية ومستقبل النظام السياسي في العراق

    مرت الحياة السياسية في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 1921 وحتى الوقت الحاضر بعدة مراحل وأنظمة مختلفة من الحكم، وكل نظام سياسي عراقي كان له سمته الاساسية، فقد كان النظام الملكي (1921- 1958) أكثر واقعية في التعامل مع بناء الدولة، على الرغم من ارتباطه الوثيق بالهيمنة البريطانية على العراق في تلك الحقبة. ثم جاء النظام الجمهوري الذي كانت سمته الاساسية في عهد الجنرال عبد الكريم قاسم التخلص من التبعية للبريطانيين، ورعاية الطبقات الفقيرة. ثم مرت الحياة السياسية بعد سقوط نظام قاسم بمرحلة كانت سمتها عدم الاستقرار السياسي في المدة (1968-1963)، ثم وصل حزب البعث الى السلطة في 1968، وقد تميزت مدة حكم البعث ببناء دولة قوية، لكنها لم تدار بواقعية سياسية وفهم لطبيعة التحديات في البيئة الدولية والإقليمية، فضلا عن الدخول في مغامرات وحروب، أدت الى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

     بعد أن قامت الولايات المتحدة بتغيير النظام السياسي العراقي بالغزو العسكري في نيسان 2003، ورغم كل ما حدث خلال وبعد هذا الغزو، كان الكثير من أفراد الشعب العراقي يأملون في حياة كريمة أفضل مما كانوا يعيشونها خلال حكم النظام السابق، إلا أن هذه الاحلام لم تتحقق، بسبب السياسة الامريكية التي كانت إما قاصرة عن فهم الواقع العراقي، أو ان الأخطاء الأمريكية في العراق كانت متعمدة لتنفيذ استراتيجية أمريكية لم تتضح جميع معالمها بعد. وقد تجاوبت القوى السياسية العراقية الجديدة مع الرؤية الامريكية، وبخاصة قوى المعارضة التي كانت تمارس نشاطها خارج العراق. وقد اتسم النظام السياسي العراقي الذي تأسس بعد الاحتلال الأمريكي بتعدد مراكز القوى وضعف الادارة، مع ديمقراطية توافقية تركز على التقسيمات الطائفية والقومية كأسبقية عليا، شبيهة الى حد ما بالنظام السياسي في لبنان. ومنذ تدهور اوضاع العراق السياسية والأمنية عام 2006، وما رافقها من تدهور اقتصادي، أوصل العراقيين الى مرحلة اليأس في إمكانية تأسيس نظام سياسي مستقر، يؤدي الى بناء دولة ناجحة، وبخاصة بعد تفشي الفساد المالي والإداري*، وتدهور الأوضاع الأمنية، وحالة الجمود السياسي، وتقبل الفشل الذي انتشر في جميع مفاصل الدولة.

    ومن أخطر السمات التي رافقت النظام السياسي الذي حكم العراق بعد عام 2003 تراجع مشروع الأمة العراقية بشكل متسارع، فقد بنيت العملية السياسية على أساس الطوائف، وبقي قادة الشيعة وممثليهم يفكرون بعقلية المعارضة والمظلومية، أما قادة السنة فبقوا يفكرون بعقلية السلطة، ولم يدركوا التحول الهائل الذي حصل في العراق، والذي يستوجب التعاطي بأسلوب واقعي مع ادارة الدولة، أما قادة الاكراد استخدموا اسلوب (خذ وطالب) لتحقيق حلم الدولة الكردية. فضلا عن ذلك انتشرت ظاهرة التربح من المناصب بين الشخصيات السياسية، فتقدمت المصالح الطائفية والحزبية على مصلحة الوطن.  

الانتخابات النيابية العراقية 2018:
    جرت الانتخابات النيابية العراقية في الثاني عشر من أيار/مايس 2018 وبالرغم من بقاء سلبيات عديدة، منها اضطراب عمل المفوضية  (المستقلة) للانتخابات، وكثرة الاعتراضات على أسلوب عمل هذه المفوضية، وتبادل الاتهامات بالتزوير، إلا اننا بدأنا نتلمس تغييرات ايجابية؛ فقد تفتت القوائم الطائفية الكبيرة، مثلا كان الشيعة يجتمعون في التحالف الوطني وقد تقسموا الى خمسة قوائم اساسية(سائرون، النصر، الفتح، دولة القانون، الحكمة) فضلاً عن بروز تحالفات وطنية حقيقية اذ تحالف مقتدى الصدر مع قوى مدنية وقائمة الشيوعيين ووجوه جديدة وشكل تحالف سائرون، كما تحالف حيدر العبادي مع قوى سنية وشكل تحالف النصر، وفشل نواب كانوا يشكلون عبأً على العملية السياسية، بسبب ادائهم السيئ وخطاباتهم المتشنجة التي كانت تسبب توترات سياسية واجتماعية وحتى أمنية في بعض الأحيان.

    أما التحول النوعي فقد كان في ظهور مقاطعة واسعة للعملية السياسية، حيث قرر الكثير من العراقيين عدم المشاركة في الانتخابات، اذ اكدت مصادر محايدة  كانت تراقب الانتخابات على أن النسبة الحقيقية للمشاركة في تلك الانتخابات لم تتجاوز (20%)، وقد يسأل البعض كيف تكون المقاطعة حالة إيجابية؟ والجواب هو ان الحالة السياسية العراقية واستقطاباتها الطائفية جعلت الانتخابات كأنها (نظام بيعة) لجماعات وإتباعها، خوفا من ازدياد اصوات الجماعات الاخرى المنافسة، وكان ذلك يدفع المتابع الواعي الى اليأس، إذ لم يكن في الحسبان ان يتخلى العراقي المرتبط بجماعة أو طائفة عن جماعته لصالح العراق، وفي هذا اشارة واضحة وعميقة الى تغيير مزاج الناخب. لقد صوت الكثير من العراقيين من خلال مقاطعة الانتخابات؛ فالصمت يكون احياناً صوتاً مدوياً، وهذا التيار المقاطع إذا تبلور سيكون ضاغطاً حقيقياً ومراقباً فاعلاً لأداء الحكومة القادمة، التي من الممكن أن تكون حكومة انقاذ للعملية السياسية، أو انها ستكون آخر حكومة في العملية السياسية الحالية في العراق. أيضا أدت نتائج الانتخابات الى فوز تحالف (سائرون) بالمركز الاول على مستوى العراق ولو بفارق بسيط عن منافسيه، ولهذا الفوز دلالته المهمة؛ فهي المرة الاولى منذ عام 2003 التي تتقدم فيها قوى سياسية تأسست داخل العراق على قوى المعارضة العراقية التي جاءت من الخارج. ومن الأمور الملفتة كذلك تقدم محافظة نينوى في نسب المشاركة على مستوى العراق بعد أن خرجت هذه المدينة من تحت رماد الحرب على داعش، وفوز خالد العبيدي (وزير الدفاع الذي تمت إقالته بعد استجوابه في البرلمان السابق) بالمركز الأول في الموصل من خلال تحالف (النصر) الذي يترأسه رئيس الوزراء حيدر العبادي، وهذا يدفعنا الى التساؤل كيف حصل وزير تمت إقالته على هذا التفويض الشعبي؟ فهل كان البرلمان ظالماً أم كان الناخبون سذجا!!!. أغلب المتابعين لإقالة العبيدي لمسوا أن التهم التي وجهت اليه لم تكن مقنعة، وبالرغم من ذلك تمت إقالته، وهذه الاقالة وُجهت ضربة إلى مصداقية مجلس النواب السابق، تعززت هذه الضربة بفوز العبيدي.

الدور الامريكي والإيراني في المشهد السياسي العراقي:
   ضمن اطار الاتهامات المتبادلة بين القوى السياسية العراقية يتهم بعضهم بعضاً بالارتباط بالخارج، ولاسيما دول جوار العراق والولايات المتحدة، إلا أن الحقيقة الواضحة ان الدور الاساسي الخارجي المحرك للعملية السياسية العراقية هو الدور الامريكي والإيراني، إذ لم يكن للدول الاقليمية ذات الوزن الجيوسياسي دور واضح، وبخاصة تركيا والمملكة العربية السعودية، فالولايات المتحدة الامريكية هي التي اسقطت النظام العراقي السابق، ورعت العملية السياسية ووضعت قواعدها الاساسية، من دستور واستحقاقات وامتيازات على اساس المكونات، اما الايرانيون فقد استفادوا مرتين من سقوط نظام البعث، عندما تخلصوا من منافس وعدو تاريخي لهم، وأفادوا أيضاً من وصول المعارضة العراقية التي رعتها وتبنتها ايران الى الحكم، وبالتالي تسلم مقاليد السلطة في العراق نظام سياسي حليف لايران. 

   ارتبط النظام السياسي في العراق بعد 2003 بالفاعل الامريكي، وهناك نظرة سطحية ان لم نقول ساذجة تعتقد ان الولايات المتحدة ترغب بجعل العراق مثالاً للديمقراطية في المنطقة، وهناك مراقبين يرون ان ساسة البيت الابيض يتعاملون بغباء مع الملف العراقي، أو أن الملف العراقي مرتبط بتوجهات الرئيس الامريكي هذا أو ذاك، فضلا عن ان هناك من يعتقد أن صانع القرار الامريكي عاجز تجاه تنامي النفوذ الايراني داخل العراق، الا ان للحقيقة وجه اخر؛ فمن اراد ان يعرف ابعاد الاستراتيجية الامريكية تجاه العراق لابد ان يدرك ان الولايات المتحدة لا تنظر الى العراق بمفرده ثم تبني سياستها تجاه هذا البلد، بل تنظر الى المنطقة برمتها، لذلك هي تتعامل مع ايران وفق مفهوم دور وظيفي تلعبه ايران دون الاتفاق المسبق مع الولايات المتحدة، فقد كان الطموح الايراني وتدخلاتها في المنطقة مطلباً لصانع القرار الامريكي، يبرر الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، وسبباً في جعل الدول (وبخاصة الدول الخليجية) تبقى بحاجة الولايات المتحدة، فكان زيادة المقرات والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة أحد ثمرات سياسات التوسع الايرانية، كما أصبحت اغلب الدول العربية تفكر بالخطر الايراني قبل الخطر الاسرائيلي، وهذا ايضاً يفسر تغاضي الولايات المتحدة عن الدور الايراني في العراق أو غيره من الدول العربية.

   أما صناع القرار السياسي في إيران فان كانوا يدركون هذه السياسة الامريكية، أو لا يدركونها، فهم ماضون في سياستهم تجاه العراق والمنطقة، ضمن مشروعهم التوسعي، ونظرتهم للنظام السياسي العراقي على انه حليف تجعلهم يتدخلون لحماية مصالحهم، ويسعون دائما الى وصول رئيس وزراء عراقي قريب منهم. وبالرغم من النفوذ الامريكي والإيراني في العراق الا انهم لا يمسكون بخيوط اللعبة بالكامل، فلو اراد العراقيون بناء نظام سياسي حقيقي وواقعي، لن يستطيع اي طرف خارجي التأثير المباشر لمنعهم.

النظام السياسي العراقي الى اين؟
   ان القوى المشتركة في العملية السياسية في العراق، مقسمة الى تحالفات وأحزاب لها اذرع مسلحة، وقوى وأحزاب أخرى ليس له قوة على الارض، الا ان فوز قائمة (سائرون) من الممكن ان يكون طوق نجاة للعملية السياسية، اذ ان استبعاد (سائرون) من تشكيل الحكومة سيكون غاية في الصعوبة، لان رجل الدين العراقي (مقتدى الصدر) الذي يتزعم قائمة(سائرون) لديه دعم شعبي واسع في بغداد وجنوب العراق، فضلا عن امتلاكه جناح مسلح(سرايا السلام) الذي يمسك الارض في مناطق خطرة في سامراء ومحيطها، سيما ان مقتدى الصدر (على ما يبدو) خارج اطار النفوذ الامريكي والإيراني، وهذا لا يعني ان استبعاد قائمة (الفتح) سيكون سهلا، فهي ممثلة للحشد الشعبي. لقد تغيرت قواعد اللعبة السياسية في العراق، إذ يستطيع تحالف (سائرون) أن يشكل حكومة بعد التحالف مع من يشاركه الرؤى، ويجعل القوى السياسية الاخرى ولاسيما الاحزاب التقليدية (معارضة برلمانية)، ويقود الدولة نحو بر الامان، فيجمع تحالف مبني على اساس استبعاد القوى المرتبطة بالأجندات الخارجية. وبهذا تتاح فرصة تاريخية لبناء عمل حزبي حقيقي في العراق يؤسس لنظام سياسي مستقر، وذلك اذا تم تحقيق كتلة نيابية تشكل الحكومة، وكتلة نيابية أخرى تمثل المعارضة، فيكسر العرف المستمر في المشهد السياسي العراقي منذ 2003، المتمثل بأن كل القوى السياسية تشارك في الحكومة وفق الاستحقاق والوزن الانتخابي ومراعاة التقسيمات الطائفية لمكونات الشعب العراقي، اذ من الممكن تأسيس حزبين كبيرين حقيقيين من كتلتي الحكومة والمعارضة يتصدران المشهد السياسي العراقي، وبخاصة بعد تشكيل تكتلين كبيرين هما(الاصلاح والأعمار) الذي يجمع سائرون والنصر والحكمة والوطنية وقوى اخرى، وكتلة (بناء) التي تضم الفتح ودولة القانون وقوائم اخرى*، وبالتالي يكون التنافس والأداء مستقرا، وتنتهي حالة الانسداد السياسي وتقل التوترات الطائفية، وبخاصة بعد الانقسام في القوى السياسية الكردية، على اثر تداعيات استفتاء الانفصال في 2017 ودخول القوات الاتحادية الى كركوك والمناطق المختلف عليها.

   ان انتخابات 2018 تعد اختباراً تاريخياً لكتلة (سائرون)، وكل من يدعي الوطنية من ساسة العراق، فقد كانت قوى الداخل دائماً تتحجج بأن صنع القرار ليس بأيديها، وبالتالي لا طاقة لها على تغيير الاوضاع ومحاربة الظواهر السلبية، أما إذا عادت الحلول الترقيعية في استبدال الوزير هذا أو ذاك او حملات محاربة الفساد الدعائية، وعادت التحالفات المبنية على اساس الطائفة أو توجيهات الخارج، فتجمع الشيعة لاختيار رئيس وزراء، فينسحب السنة المشاركين في القوائم الشيعية ويتجمعون مع القوائم السنية ليشكلوا كتلة واحدة، مما سيدفع الاكراد بدورهم الى التوحد في كتلة واحدة ايضا. ان عودة التحالفات الطائفية بهذه الطريقة سيكون دليلاً واضحاً وتمييزاً لمن يتبنى الشعارات في العلن ويتخلى عنها في الغرف المغلقة، وإذا حصل هذا الامر سيتهاوى النظام السياسي بعد هذه التحولات الدراماتيكية، ومن الممكن ان تكون انتخابات 2018 آخر انتخابات في العراق، إذ أن المؤشرات توحي ان الشعب العراقي ضاق ذرعا، بسبب الفوضى السياسية، وبخاصة في جنوب العراق، وقد بدأت بوادر الانفجار في محافظة البصرة، بسبب سوء الخدمات وحالة التصحر التي اخذت بالظهور نتيجة قلة الموارد المائية، في بيئة تعتمد بشكل اساسي على الزراعة وتربية المواشي. فضلا عن فرضية الصدام المسلح بين (سائرون) و(الفتح)، إذ أن (الفتح) لديها قوة مسلحة أيضا على الارض (الحشد الشعبي)، وإذا حصل ذلك سيكون بداية لسقوط النظام السياسي العراقي بكامله، ومن الممكن ان يتفتت العراق هذه المرة بسهولة، وفي هذه الحالة لن يكون هناك رابح، لا العراقيون ولا دول جوار العراق، التي تشابه تركيبتها الاجتماعية ما موجود في العراق الى حد ما، وخاصة في حالة انهيار العراق وتفتته الى ثلاث دول. 

 

* وفق تقرير الشفافية الدولية لعام 2017، حل العراق ضمن البلدان الخمسة الاكثر فساداً في العالم.

* يدرك المتابعون للشأن العراقي ان التحالفات في البرلمان غير ثابتة ومن الممكن ان تحصل مفاجاءات باجتماع سائرون والفتح في تكتل واحد، وعلى الرغم من توازن القوة بينهما على الارض، الا السؤال المطروح في هذه الحالة كيف سيجمعان بين رؤيتهما المختلفتان في ادارة الدولة؟