العراق وضرورة تبني استراتيجية التوازن في المرحلة القادمة

الجميع بات يدرك بأن العراق أصبح ليس بعيداً عن وصفه بساحة صراعات دولية واقليمية وميدان تنافس على المصالح بين القوى المؤثرة في المنطقة، وهذا البلد برغم إمكاناته وموارده الكبيرة إلا إنه يعاني الأمرين من سوء الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ووصلت الأوضاع فيه إلى موضع لا يحسد عليه على جميع الاصعدة.

حالياً يبدو العراق أنه يسير على خطى ومسار يسعى من خلاله لأن يصبح مستقراً، سياسياً وامنياً، وفاعلاً مهما في المنطقة، ودولة ذات سيادة حقيقية، تبني علاقاتها الدولية على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤن الداخلية، ومراعاة قواعد حسن الجوار، وهو من أجل ذلك بصدد اعادة صياغة سياساته الخارجية مع الجميع وعلى الاصعدة كافة، السياسية منها والأمنية والاقتصادية.

ذلك ما يصرح به باستمرار رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي وحكومته التي تشكلت بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي، التي قدمت استقالتها تحت وطأة الاحتجاجات والضغوط الشعبية التي دامت لعدة أشهر، ومن ثم أسفرت عن منح الثقة للكاظمي وحكومته في مجلس النواب العراقي، بعد فشل مرشحين سابقين في نيل تلك الثقة، على ان تكون من أوليات مهام هذه الحكومة التحرك بجدية نحو معالجة أزمات البلد السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، ووضع إطار متوازن لعلاقات العراق الإقليمية والدولية، والقيام بإجراء انتخابات مبكرة.

ومما لا شك فيه ان مراعاة التوازن الاقليمي والدولي واتخاذ الموقف الحيادي من الصراعات، يجب أن تمثل أحد أهم أركان السياسية الخارجية للعراق في المرحلة المقبلة، ومن المهم جداً ان لا تسلك علاقات العراق الخارجية اتجاه واحد، دون مراعاة للآخرين ومصالحهم ودورهم المؤثر في المنطقة، وان يؤسس العراق لعلاقات خارجية متوازنة تبقيه على مسافة واحدة من جميع دول المنطقة، وبخاصة تلك التي يمكنها أن تؤدي دوراً إيجابياً في المسارات المستقبلية للعراق، سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بحكم الوزن الإقليمي والدولي لتلك الدول والإمكانات المتاحة لديها.

ومن الجدير بالقول ان مراعاة هكذا توازن ليست بالمهمة السهلة، ولم تنجح اغلبية الحكومات العراقية السابقة في صياغتها وبلورتها، ودائماً ما كانت دفة السياسة الخارجية العراقية تميل لصالح جهة إقليمية ودولية على حساب الجهات الأخرى، وحال العراق الذي عليه هو الان خير دليل على تداعيات عدم مراعاة ذلك التوازن، وبرهان على ان احتكار علاقات العراق الخارجية لصالح طرف إقليمي محدد لم يرجع بالفائدة على الدولة العراقية، بل أثقل كاهلها وكبدها خسائر كبيرة، وتسبب في ايجاد حالة اللاستقرار السياسي في البلد، وفسح المجال لإعادة التدخل الدولي والإقليمي (السلبي) في قضايا العراق ذات الشأن الداخلي.

من أهم التحديات التي تواجهها الحكومة العراقية الحالية، هي اعادة النظر في السياسات الخارجية السابقة، والسعي لبلورة صيغ جديدة للتعامل مع العوامل المؤثرة فيها ومحاولة فك الارتباط بها، واعادة التوازن في العلاقات الخارجية من منطلق تحقيق المصالح المتبادلة للطرفين واحترام السيادة الدولية للبعض.

ولابد من ان نشير الى ان الرؤيات المستقبلية التي يجب ان تركز عليها سياسة اعادة التوازن للمرحلة القادمة يجب ان تكون مبنية على أسس نراها ضرورية لتحقيق تلك الاستراتيجية المهمة، التي ان تحققت على المدى البعيد سوف تعود بالفائدة على الجميع، من أهم هذه الأسس:

أولاً- تبني الحيادية والحسم في السياسية الخارجية:
الحيادية في الوقت الحاضر توفر للدولة المزيد من الاستقرار السياسي والأمني وحتى الاقتصادي والاستثماري، وهي ضرورية جداً في اعادة الهوية السياسية التي يجب ألا تصطبغ بصبغة دولة أخرى، وألا يكون العراق ساحة لامتداد سياسات دولية، ربما لا تنظر الى العراق الا انه مجرد الوسيلة التي تحقق من خلالها غايات كبرى، لن تعود على الدولة العراقية الا بمزيد من الخسائر على المستويات كافة. كما يجب توخي الحذر من الانخراط في الاتفاقيات الاقليمية ذات الطابع السياسي الأحادي الجانب، أو التي تتبنى مواقف سلبية من دول جوار العراق، أو التي لديها استراتيجيات مختلفة لا تتفق مع المصلحة العراقية الآنية والمستقبلية في اقامة علاقات متوازنة مع الجوار.

فالحكومة العراقية يجب عليها تبني سياسات واضحة مع دول الجيران ولاسيما كل من تركيا وإيران اللتين لهما نفوذ وتأثير كبيرين في المنطقة، ولكن باتجاهات مختلفة ومتباينة ايضا، فموقف الحكومة العراقية يجب ان تكون واضحة من إيران فيما يتعلق بدعمها للفصائل المسلحة وانشطتها في العراق، والتي أدت الى اضعاف قدرة الحكومة في بغداد وبقية المحافظات في مسألة فرض الأمن وحصر السلاح بيد الدولة فقط.

فتلك الفصائل تدعي علنا على انها موالية لإيران، وأنها لن تخضع لقرارات الحكومة العراقية وسياساتها في مسألة حصر السلاح بيد الدولة، وعدم الانخراط في الصراعات السياسية، بل على العكس من ذلك، فقد أعلن البعض من تلك الفصائل انها ستخوض الانتخابات القادمة والمشاركة فيها متحدية القيود الدستورية التي لا تسمح بذلك.

وعلى الحكومة مطالبة إيران بتحديد موقفها من تلك الجماعات التي تدعي الولاء لها والدفاع عن مصالحها في العراق، في الوقت الذي يتمتع العراق بعلاقات واسعة النطاق مع إيران، وان استقرار العراق أمنياً وسياسياً يصب في مصلحة البلدين الجارين.

أما ما يتعلق بالجمهورية التركية والتصعيدات الأخيرة في مواقف كلا البلدين من الحوادث الأخيرة في الحدود العراقية- التركية، فان العلاقة بين البلدين يجب ان ترتكز على مبادئ حسن الجوار واحترام السيادة والمواثيق الدولية، وعدم السماح لجعل الحدود العراقية ساحة مفتوحة لاستهداف أمن تركيا إنطلاقاً من الاراضي العراقية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يجب المضي قدما في توسيع الآفاق التجارية بين البلدين وتطويرها ومد المزيد من جسور التعاون الاقتصادي بين البلدين الذي يصب في إنعاش البنية التحتية العراقية على المدى البعيد.

ثانياً- تجنب الأحادية في العلاقات الاقتصادية:
بما انه الدولة العراقية تعلن انها تتبنى سياسة الاصلاح الاقتصادي للمرحلة القادمة، فهي إذن بحاجة ملحة الى دعم اقليمي ودولي كبيرين في مجال الاستثمار لاسيما فيما تتعلق بالبنية التحتية والطاقة، وبما ان الدولة تتجه الى ابرام عقود دولية ذات مبالغ هائلة فهي تجب ان تراعي في ذلك مسألتين؛ الاولى التكلفة القليلة والجودة النوعية من جهة، وان لا تكون جميع هذه الصفقات المالية الكبيرة مع شركات دولة واحدة، مع مراعاة الديمومة والاستمرارية في المدى البعيد وتغليب المصلحة الوطنية على ما سواها من مصالح، مع الأخذ بنظر الاعتبار اعطاء الاولوية لدول الجوار التي سوف تسهم من جانبها في زيادة حجم التبادل التجاري بين الدولتين، مع تبني اتخاذ المواقف الايجابية في الاستقرار السياسي الضروري والأساسي لتكوين بيئة الاستثمار والتجارة الدولية.

فلا بأس ان تبرم الحكومة العراقية عقود كبيرة وطويلة المدى مع الولايات المتحدة، والتي اسفرت عنها الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الكاظمي الى واشنطن، بما تساهم في الاستقرار السياسي وايجاد وتكوين بيئة استثمارية تجارية آمنه في العراق، وان يكون ذلك مرهون بدعم كبير وايجابي للحكومة العراقية، اذ ان التأثير الامريكي الكبير في المنطقة والعراق على وجه التحديد يجعل من المسؤولية التي تقع على عاتق الحكومة الامريكية والتزاماتها تجاه العراق كبيرة وحساسة، لكن الحكومة العراقية عليها ان تدرك أيضاً انه يجب ان تراعي في ذلك السياق المصلحة الوطنية، وان لا يكون التعامل مع شركات الولايات المتحدة على حساب شركات دول الجوار، ولاسيما الشركات التركية التي لديها امكانيات كبيرة في مجال الاستثمار والطاقة، وبتكاليف أقل بكثير مع مثيلاتها الامريكية في ذلك المجال، وان لا تتراجع الحكومة عن ابرام بعض العقود المهمة التي توصلت الحكومة السابقة الى تفاهمات بشأنها مع الصين في مجال انعاش البنية التحتية للدولة، إذا كان فيها مصلحة حقيقية للبلد، مع التدقيق بشكل نزيه في التحفظات التي أثيرت حول الاتفاق الاقتصادي العراقي- الصيني الأخير، وان كانت إدارة تلك التوازنات ليست مهمة سهلة، لكنها مسؤولية تفرض نفسها من أجل مصلحة البلد.

ثالثا- تصفية المشاكل الداخلية:
 لا يمكن للدولة ان تكون قوية في الخارج مالم تكن متماسكة من الداخل وثمة مسائل ذات حساسية عالية يجب ان تقدم عليها الدولة كي تكون قادرة على تبني سياسات خارجية واضحة، ومن تلك المسائل التي يجب التوصل فيها الى حل دائم المشاكل العالقة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان في شمال العراق، فيما يتعلق بالنفط والغاز والمنافذ الحدودية ورواتب موظفي الإقليم، وذلك باللجوء الى الدستور في حسم الامور الخلافية بينهما، وإصدار قوانين جديدة "واضحة" لتنظم المواد الدستورية التي تحدد طبيعة العلاقات بين الحكومة الإتحادية والإقليم، والتي أصبحت لها الآن تفسيرين متباينين، تفسير الحكومة المركزية وتفسير حكومة الإقليم. ويجب أن يتم حل هذه المشاكل وفق إطار العدالة في توزيع موارد وثروات البلد على جميع أبنائه.

 فيما يتعلق بحصة الاقليم من الموازنة الاتحادية فانه يمكن الاحتكام الى احكام المادة (121) من الدستور التي تنص على حق الاقليم في حصتها من الموازنة الاتحادية، بالمقابل ينبغي على الاقليم من أجل تحقيق ذلك تقديم بيانات دقيقة فيما يتعلق بعدد موظفيها وكذلك في الايرادات التي تدخل الى ميزانيتها المتأتية من المنافذ الحدودية وبيع النفط والغاز وغيرها من الايرادات الداخلية وتبني الشفافية الكاملة في هذا المجال بما يقوي مبدأ الثقة المتبادلة بين المركز والاقليم.

 أما فيما يتعلق بإدارة المنافذ الحدودية فيجب الاحتكام الى الدستور ايضا اذ ان الدستور العراقي نص على ان تكون إدارة الجمارك ضمن الصلاحيات المشتركة بينهما وأن تكون ادارتها بالتنسيق مع حكومة الاقليم وذلك في المادة (114) منه.

والمسألة الاخرى التي لاتزال موضع خلاف كبير بينهما هي ادارة الثروات الطبيعية، وقد بينت المادة (112) من الدستور طريقة التعامل معها، حيث حددت صلاحيات كل من الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم فيما يتعلق بإدارة الثروات الطبيعية، وحسب تصورنا فان الاشكالية القائمة هي سياسية اكثر من كونها قانونية، وإن الوصول الى تفاهمات سياسية عامة بين المركز والاقليم يساهم ايجابياً في ايجاد صيغ يتفق عليها الطرفان ومع ذلك فإن الاستعجال بتشريع قانون النفط والغاز في العراق يمثل خطوة مهمة في اتجاه المسائل العالقة، اذ ان الاقليم  يسند تعامله في مسألة النفط والغاز الى وجود قانون لإدارة الثروات الطبيعية في الإقليم، بينما لم يقوم مجلس النواب العراقي بإصدار تشريع مماثل لحد الان، والتحفظات التي تثار ضد الإقليم بين الحين والآخر بصدد ابرامه العقود النفطية، ولاسيما مع تركيا، يدخل ضمن إطار هذا السجال.

  أما القضية الاصعب في سياق ضرورة تصفية المشاكل الداخلية في العراق، فهي ظاهرة السلاح خارج أجهزة الدولة أو استخدام غطاء مؤسسات الدولة من اجل تبرير انتشار السلاح المنفلت، فالمظاهر المسلحة التي تنشط جنباً الى جنب مع أجهزة الدولة تمثل اكبر تحدي للحكومة العراقية، ولا يمكن لهذه الحكومة ان تخطو خطوة نحو الأمام مالم تقم بنزع السلاح من الجماعات المسلحة، مهما كان ثمن ذلك باهضاً، اذ ان بقاء تلك الجماعات المسلحة يمثل تهديداً مستمراً للدولة ولسياسة الحكومة واستراتيجيتها في فرض الأمن وتحقيق الاستقرار في البلد.  فهذه الجماعات قد تعددت مظاهرها واصبحت تمارس دوراً سلبياً، لاسيما تدخلها في الصراعات السياسية، وتوفيرها الحماية لجماعات الفساد ومافيات هدر المال العام. لذلك يجب حصر السلاح بيد الدولة دون غيرها من أطراف سياسية أو جماعات مسلحة، وعدم السماح لجعل الحدود العراقية ساحة تدخل في شؤون دول الجوار من أية جهة كانت.

رابعاً- الانتخابات المبكرة:
يجب التوجه بجدية كبيرة نحو إقامة انتخابات نزيهة بمعايير دولية وتحت مراقبة دولية وبإشراف ودعم من الامم المتحدة واجهزتها المختصة في مجال الانتخابات، وذلك من أجل اعادة الثقة للمواطن العراقي بالعملية الانتخابية من جهة، والحد من تحكم بعض الاحزاب السياسية بنتائجها من جهة أخرى، خصوصا الفصائل المسلحة التي اعلنت أنها ستشارك في الانتخابات المقبلة على الرغم من عدم سماح الدستور لذلك. ان الشرعية السياسة للسلطة تستمد من انتخابات حرة ونزيهة، وهي تعد من أهم معايير الديمقراطية ومظاهرها ، حيث ان تكرار حالات مماثلة للانتخابات السابقة سوف تجعل السلطة في موضع عدم الشرعية من جهة، فضلاً عن التذمر الشعبي المتزايد أصلاً، والمتخذ موقفاً سلبياً من الانتخابات السابقة التي شابتها الكثير من الثغرات، خصوصاً الخلل والأخطاء والخروقات التي حدثت في استخدام أجهزة العد والفرز الالكتروني، مما أدى الى التشكيك بمصداقية النتائج والتلاعب بها من قبل جهات متنفذة، وكانت موضع انتقادات كبيرة، فضلاً عن ان نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات كانت في أسوء حالاتها منذ 2003 .

المطالبات الجماهيرية بانتخابات مبكرة حرة ونزيهة كانت أحد أهم الأسباب التي أدت الى عدم استمرار الحكومة التي سبقت حكومة الكاظمي، وهذه المطالبات هي أيضاً من مهدت الطريق لمجيء الحكومة الحالية، وقد اتخذت حكومة الكاظمي القرار بشأن إجرائها وأعلنته أكثر من مرة، لكن ما زال هنالك معرقلات محتملة أمام تحقيق هذه المطالبات بجدية ووفق ما تطالب به الجماهير.

تلك كانت أبرز الأسس التي تحتاجها الدولة العراقية للمرحلة الآنية في تبني رؤى واضحة من المسائل الداخلية والخارجية، على أساس تبني مبدأ التوازن في اقامة العلاقات السياسية والاقتصادية، وكذلك في التوجه نحو تصفير المشاكل المتراكمة التي كلفت العراق الكثير من الخسائر وضياع الفرص ومن جميع النواحي.