الإحتجاجات الشعبية في العراق والآمال الصعبة

مقدّمة
الإحتجاجات الشعبيّة في العراق ليست وليدة اللحظة، بل هي سلسلة طويلة من المظاهرات التي لم تتوقّف منذ المراحل الأولى للاحتلال الأمريكيّ للعراق في 2003، وحتّى الوقت الحاضر.

وسنحاول هنا ذكر أهم المظاهرات في العراق بعد العام 2003، ونركّز على المظاهرات التي انطلقت في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وذلك عبر المحاور الآتية:

  • ما هي المظاهرات، وما موقف الدستور العراقي منها؟
  • تاريخ المظاهرات في العراق.
  • أسباب المظاهرات.
  • من هي الأطراف التي تقف وراء المظاهرات؟
  • المظاهرات الحالية: هل يمكن أن تستمرّ، أم هي مجرّد هبة شعبيّة؟
  • ما موقف حكومة بغداد منها؟
  • ما موقف الأحزاب المشاركة في العمليّة السياسيّة منها؟
  • ما أهم مطالب المتظاهرين؟
  • ما هي النتائج المتوقّعة منها؟
  • الحلّ للأزمة العراقية.
  • الخاتمة.

ما هي المظاهرات، وما موقف الدستور العراقيّ منها؟
معلوم أنّ المظاهرات السلميّة وغير العبثيّة واحدة من سبل الاعتراض – أو التأييد- على أيّ قرار، أو فعل داخليّ، أو خارجيّ وقع – أو محتمل الوقوع - في أيّ منطقة في العالم!

والمظاهرات في العراق برزت بشكل كبير وواضح بعد العام 2013.

وقد ضمن الدستور العراقيّ الصادر في العام 2005، حقّ التظاهر حيث أشارت المادّة (38)، إلى: " تكفل الدولة، بما لا يخلّ بالنظام العامّ والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكلّ الوسائل، وحرّيّة الاجتماع والتظاهر السلميّ، وتنظّم بقانون".

تاريخ المظاهرات في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي
منذ الاحتلال الأمريكيّ للعراق في العام 2003 صارت المظاهرات من الفعاليات المتكرّرة، وسنحاول هنا ذكر أهم المظاهرات الحاشدة للفترة من 2003- 2019:

الشرارة الأولى للمظاهرات في العراق كانت في 28 نيسان/ أبريل 2003، وقد انطلقت على اثر تواجد مجاميع من القوات الأمريكيّة المحتلّة في إحدى المدارس بمدينة الفلوجة (50 كم غرب بغداد)، وقد كانت هذه المدرسة بين المنازل في حي "نزال" في الفلوجة، مما دفع الأهالي للخروج في مظاهرات سلميّة تطالب القوات المحتلّة بالنزوح خارج حدود المدينة.

في يوم 7/ 2/ 2011 عمّت مدن الموصل الشماليّة والأنبار الغربيّة وديالى الشرقيّة والعمارة الجنوبيّة تظاهرات شارك في مجموعها أكثر من (5000) شخصيّة من المثقّفين وشيوخ العشائر والوجهاء، للمطالبة بحقوق الإنسان العامّة، وضرورة نهاية حالة الإهمال الحكوميّ لهم، وتطبيق القانون على كافّة المواطنين بغض النظر عن الانتماء الطائفيّ والعرقيّ.

في 25 شباط/ فبراير 2011، انطلقت مظاهرات أطلق عليها( مظاهرات الربيع العراقيّ)، في الموصل والبصرة وواسط والرمادي، وكانت نتيجة استمرار الاعتقالات العشوائيّة وبدون أوامر قضائيّة، والدعوة لإنهاء قضية المخبر السريّ، وتحسين الخدمات المقدّمة للمواطنين.

في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2012 نظم العراقيّون مظاهرات حاشدة في ست محافظات مختلفة (الأنبار، الموصل، ديالى، صلاح الدين، كركوك، بغداد) واستمرّت لأكثر من عام، احتجاجاً على تهميش الحكومة لهم، واستمرار الاعتقالات غير المبرّرة، وتواصلت حتّى 30 ديسمبر/كانون الأول 2013.

في صيف 2015، و2016 نزل آلاف العراقيّين في مدن الجنوب إلى الشارع للمطالبة بإنهاء الفساد وتحسين الخدمات العامّة، وبالذات توفير المياه الصالحة للشرب والكهرباء.

في منتصف صيف 2016، تجمع الآلاف من أنصار زعيم التيّار الصدري، مقتدى الصدر، في العاصمة بغداد، للدعوة مجدداً إلى تنفيذ إصلاحات تضع حداً للفساد في البلاد، في حين هدّد المتظاهرون بخطوات تصعيديّة ضدّ الحكومة.

في شباط/ فبراير 2017، نظّم التيّار الصدريّ مظاهرة حاشدة بمشاركة آلاف العراقيّين من العاصمة والمحافظات في ساحة التحرير وسط بغداد، وطالب المتظاهرون بتعديل قانون الانتخابات وتغيير مجلس مفوّضيّة الانتخابات والابتعاد عن المحاصصة السياسيّة.

في بداية تموز/ يوليو 2018، خرجت مظاهرات كبيرة في الجنوب العراقيّ، واستمرّت لأكثر من شهر تقريباً، وشملت محافظات البصرة، وميسان، والناصرية، والنجف، وكربلاء، وواسط، والديوانية، والمثنى، والتي تعدّ الأشدّ والأشرس. وطالب المتظاهرون بحصص من نفط البلاد، وتوفير فرص عمل، وتوفير البنية التحتيّة، والمياه الصالحة للشرب، والكهرباء، وتقديم الفاسدين للمحاكم المختصّة.

انطلقت الموجة الجديدة من المظاهرات بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وتوقّفت بسبب الزيارة الأربعينية لمرقد الإمام الحسين في مدينة كربلاء جنوبيّ العراق، ثم استأنفت على شكل مظاهرة مليونية في بغداد وبقيّة مدن العراق في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

أسباب الإحتجاجات
1- فشل الحكومات المتعاقبة منذ العام 2004 في تقديم الخدمات للمواطنين، ومنها توفير الماء الصالح للشرب والطاقة الكهربائيّة وتوفير فرص العمل للعاطلين من لشباب العراق.

2- تحكم المليشيات في المشهد الأمني في عموم البلاد، واليوم انتقل هذا التغول المليشياوي من الملفّ الأمنيّ إلى الملف السياسيّ، وكذلك فشل الحكومات في حصر السلاح بيد الدولة.

3- تنامي التأثير الأجنبيّ عبر النفوذ السياسيّ والأمنيّ.

4- انتشار المخدرات وحبوب الهلوسة وغيرها من أنواع الحبوب الفاتكة بفكر وعقول شباب العراق، وغالبيّتها مهرّبة من إيران، باعتراف الحكومة!

5- انتشار الفساد الماليّ والإداريّ في غالبيّة دوائر الدولة المدنيّة والعسكريّة.

6- استمرار الاعتقالات الكيديّة غير القائمة على الأدلة القانونيّة الكافية، والتي تقود لحلقات فساد ماليّ وإداريّ في غالبيّة الدوائر الأمنيّة والعدليّة.

من هي الأطراف التي تقف وراء المظاهرات؟
غالبيّة الاحتجاجات في العراق هي مظاهرات عفويّة شعبيّة، خرجت بعد أن وصل الناس لمراحل الانفجار التي لا يمكن تحمّلها. وقد لاحظنا أنّ العديد من القوى المشاركة في العمليّة السياسيّة حاولت ركوب موجة الاحتجاجات، وبعضها نجح، وهذه نقطة ضعف كبيرة في المظاهرات العراقيّة، وبالتالي من يريد الإصلاح عليه أن لا يسمح لكلّ مشارك في العمليّة السياسيّة القائمة أن يُشارك في المظاهرات إلا بعد خروجه من الحكومة والدرجات الخاصّة في مؤسّسات الدولة المدنيّة والعسكريّة.

    ورغم محاولات ركوب موجة المظاهرات إلا أنّ السمة الأبرز لغالبيّة تلك المظاهرات هي الشعبيّة والعفويّة، والقانونيّة، والمنطقيّة، والعقلانيّة، والإنسانيّة، والذاتيّة، وبالتالي يمكن وصفها بأنّها مظاهرات شعبيّة نقيّة، ليس لأيّ طرف داخليّ أو خارجيّ فضل في تشكليها، أو ترتيبها.

الاحتجاجات الحالية: هل يمكن أن تستمرّ، أم هي مجرّد هبة شعبيّة؟
احتجاجات تشرين الحالي، يمكن أن تستمرّ لعدّة أسابيع، ومن الممكن ان يتم امتصاص نقمة الجماهير بتعديل وزاري، أو إصلاحات شكلية، وبعدها يمكن أن نلحظ هدوءاً في الشارع العراقيّ. ومن هنا أتصوّر أنّ هنالك محاولات لامتصاص زخم المظاهرات، وبالذات مع دخول التيّار الصدريّ وغيره على خطّ التظاهر، وفي كلّ الأحوال المظاهرات ربّما تتطوّر إلى اعتصام مفتوح إن لم يقتنع شبابها بأنّ الحكومة جادة في قراراتها.

أنّ الوعود الحكوميّة بتوفير أكثر من (450) ألف فرصة عمل، وتوزيع قطع الأراضي، والمساعدات الماليّة للعاطلين عن العمل لا يمكن الوفاء بها بسبب العجز الماليّ المتوقّع والمقدر بأكثر من (60) مليار دولار في موازنة العراق للعام 2020، بحسب اللجنة الماليّة في البرلمان العراقيّ. وبموجب ما تقدّم نتصور أنّ المظاهرات يمكن أن تهدأ لبعض الوقت ثمّ تُعاود بشكل أكبر، وحينها لا يمكن السيطرة عليها بالوعود، وربّما ستكون نهاياتها حادّة، وغير مُسيطر عليها.

ما موقف حكومة بغداد من هذه الاحتجاجات؟

حكومة عادل عبد المهدي قالت إنّها تؤيّد المظاهرات لكنّ المظاهرات الأخيرة واجهتها الحكومة بالنيران القاتلة، وقالت وزارة الصحّة إنّه قتل (165) مواطناً، وجرح أكثر من (6100) آخرين، وفي محاولة لتبرئة ساحتها شكّلت الحكومة لجنة تحقيق، استمرّ علمها لأسبوعين تقريباً، ونشرت تقريرها النهائيّ يوم الثلاثاء (22/10/2019)، وتوصلت إلى جملة نتائج منها:

  • لم تصدر أيّة أوامر رسميّة من الجهات العليا إلى القوّات بإطلاق النار الحي على المتظاهرين،أو استخدام الرصاص الحيّ مطلقاً، وأنّ التعليمات كانت مشدّدة بعدم استخدام القوّة ضدّ المتظاهرين.
  • حصيلة الضحايا الذين سقطوا خلال التظاهرات من المدنيّين والقوّات الأمنيّة بلغت (157) شهيداً، و(5494) جريحاً، وأنّ الإحصائيات شملت محافظات بغداد والنجف وبابل والديوانية وميسان وذي قار وواسط والمثنى.

وينبغي ملاحظة أنّ الحكومة أصدرت تقريريها قبل يومين فقط من مظاهرات 25 تشرين الأول، في محاولة لتهدئة الشباب العراقيّ الغاضب. وفي كلّ الأحوال نتصور أنّ عمر حكومة عادل عبد المهدي ليس طويلاً، ونتوقع نهايتها خلال الأيام القليلة القادمة، وفي أبعد المديات ستستمرّ حتّى نهاية العام الحالي، وبعدها سيضطرّ عبد المهدي لتقديم استقالته.

ما موقف الأحزاب المشاركة في العمليّة السياسيّة من المظاهرات؟
الأحزاب الحاكمة في العراق غالبيّتها لم توضح موقفها الرسميّ من المظاهرات عدا التيّار الصدريّ، بزعامة مقتدى الصدر، وتيّار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وكذلك النصر، بزعامة حيدر العبادي، والبقيّة كانت تصريحاتهم خجولة، وغير واضحة، ومنهم من اتهم هذه المظاهرات بأنّها تخريبيّة، وتدميريّة، وأنّها مدعومة من الخارج.

وكان زعيم التيّار الصدريّ قد دعا الثلاثاء الماضي في تغريدة على تويتر معنونة بـ"نداء" إلى" تحويل مناسبة أربعينية الإمام الحسين في كربلاء إلى تظاهرة ضدّ الولايات المتّحدة وإسرائيل والفاسدين" بعد أسبوع من احتجاجات مطلبية دامية أسفرت عن مقتل أكثر من مئة شخص.

وقال الصدر "أيّها العراقيّون السائرون إلى قبلة الثوار الأحرار سيروا بحشود مليونية منظّمة هاتفين "كلا كلا أميركا، كلا كلا إسرائيل، كلا كلا يا فاسد".

وكذلك كانت خطابات الحكيم والعبادي وغيرهما خطابات عامّة، تدعو الحكومة إلى إصلاحات، وكأنّ المشكلة الأولى والأخيرة في العراق هي حكومة المهدي، والحقيقة أنّ حكومة المهدي هي حلقة من حلقات الحالة غير الصحّيّة القائمة في العراق.

ما هي أهم مطالب المتظاهرين:
تعدّدت أسباب المظاهرات في العراق بحسب المدن والمكوّنات المتظاهرة، ويمكننا إجمالها في المطالب الآتية:

  • تشكيل حكومة وطنيّة جامعة لكلّ العراقيّين وبناء دولة المواطنة.
  • إجراء انتخابات حرّة نزيهة بإشراف دوليّ.
  • استبعاد كافّة المتّهمين بقتل المواطنين من المناصب الرسميّة، وتقديمهم لمحاكم علنيّة عادلة.
  • إعادة بناء الجيش والشرطة على أسس مهنيّة بعيداً عن التدخّلات الداخليّة والخارجيّة.
  • إنهاء دور الميليشيات، وسنّ قوانين صارمة بحقّ من يحمل السلاح خارج إطار الدولة.
  • توفير الخدمات العامّة للمواطنين.
  • توفير فرص عمل للخريجين والشباب.
  • إطلاق سراح الأبرياء من المعتقلين.
  • إعادة بناء المدن المدمّرة بفعل الحرب على داعش.
  • تعويض المهجرين في الداخل والخارج ممّا لحقّهم من ضرر مادّيّ ومعنويّ نتيجة التهجير داخل البلاد وخارجها.

ما هي النتائج المتوقّعة من الاحتجاجات الحالية؟
الناظر لواقع المظاهرات السابقة في العراق يجد أنّها بالعموم لم تحقّق الأهداف التي خرجت من أجلها، وقد كانت النتائج في الغالب العامّ نتائج عكسيّة؛ وذلك بسبب القبضة الحديديّة للحكومة، وتغول المليشيات في الساحة العراقيّة، وكذلك عدم وجود إرادة دوليّة حقيقيّة لدعم الشعب العراقيّ للخروج  من أزمته.

واليوم مع هذه المظاهرات المرتقبة يمكن توقّع الآتي:

  • احتمالية دفع رئيس الحكومة عادل عبد المهدي إلى إجراء تعديلات وزاريّة قد تشمل عشر وزارات، وربّما من بينها وزارتي الدفاع والداخليّة.
  • تقديم المتّهمين بقتل الجماهير في بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2019، إلى محاكم عراقيّة، وأتصوّر أنّ هذه الخطوة ليست جادّة، لأنّ غالبيّة هؤلاء القادة تابعون لأحزاب متنفّذة في الدولة العراقيّة، وعليه سنجد من يحاول تخليصهم من هذه المحاكمات بطريقة أو أخرى.
  • فتح فرص عمل للعاطلين، والسعي لإعطاء منح ماليّة بحسب قرارات الحكومة قبل اقل من أسبوعين.
  • وفي حال استمرّت المظاهرات أتوقّع أن المهدي سيجبر على الاستقالة، وحينها سيتمّ تكليف شخصيّة أخرى لتشكيل الحكومة، وربما ستكون هذه الشخصية من التيّار الصدريّ.


الحلّ للأزمة العراقيّة:
أنّ حل الأزمة واضح في العراق، وقد سبق ذكره، ويتمثل في تشكيل حكومة انتقالية تقود البلاد في مرحلة مؤقتة، ويكون عمر هذه الحكومة بين ستّة أشهر إلى عام، وتعمل هذه الحكومة على إجراء إحصاء سكانيّ يحدد النسب السكانيّة الحقيقية لمكونات الشعب العراقي؛ وذلك للتخلّص من قضيّة الأكثريّة والأقلّيّة، وهذه الحكومة يتمّ التوافق على أعضائها من القوى الوطنية العراقية المشاركة وغير المشاركة في العمليّة السياسيّة التي جرت بعد عام 2003، عدا الذين تورطوا بدماء العراقيّين، ويتمّ إعادة كتابة الموادّ المُختلف عليها في الدستور العراقيّ، والدعوة لانتخابات برلمانيّة حرّة بإشراف دوليّ بعيداً عن سطوة الأحزاب الحاكمة الحاليّة، ثمّ إجراء انتخابات برلمانيّة تفرز مجلساً للنواب، وهذا المجلس يختار رئيساً له، ثمّ يختار رئيساً للجمهورية، ثمّ يُكلف رئيس الجمهورية رئيس الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة، وحينها يمكن أن تكون تلك الخطوة اللبنة الأهم في تعديل العمليّة السياسيّة في العراق.

الخاتمة
المظاهرات هي الحلّ الأمثل لإعادة القطار العراقيّ إلى سكّته الصحيحة، بعيداً عن العنف والقتل والإرهاب وضياع مفهوم الدولة، ونأمل أن يأتي اليوم الذي تكون فيه المظاهرات بداية النهاية للفساد والخراب من البلاد العراقيّة، وتقود لبناء دولة المواطنة، والتوزيع العادل للثروات بعيداً عن منطق التهميش والظلم والتجريم غير القائم على أدلة حقيقيّة.