مواقف العشائر من الاحتجاجات الأخيرة في العراق

 

يتفق المراقبون للشأن العراقي على أن الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في تشرين الأول 2019، والتي ما زالت مستمرة منذ أكثر من أربعة شهور، تعد الحدث الأكثر أهمية في تاريخ العراق المعاصر، وبخاصة بعد 2003، ومن المؤكد أن هذه الاحتجاجات ستؤثر في مستقبل أوضاع العراق السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية. حيث ذكر رئيس الوزراء العراقي (المستقيل) عادل عبد المهدي، في رسالة وجهها إلى المحتجين في 3 تشرين الثاني 2019، بأن هذه الإحتجاجات أحدثت هزة في العملية السياسية، ودفعت السلطات الثلاث في العراق (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس الوزراء، رئاسة مجلس النواب) إلى مراجعة مواقفها.

لطالما كانت القبائل والعشائر من أهم فواعل المجتمع العراقي في أي حراك جماهيري، فقد كان للعشائر الدور الأكبر في انتفاضة 1920، التي أجبرت الإحتلال البريطاني على تأسيس الدولة العراقية الحديثة. كما قادت العشائر انتفاضات مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق بين عامي 1935-1936.

وإذا ما أردنا الحديث عن دور ومواقف العشائر العراقية تجاه الإحتجاجات المستمرة منذ تشرين الأول 2019، فإن المقصود هنا العشائر العربية في محافظات وسط وجنوب العراق، لأن الإحتجاجات تركزت في تلك المحافظات.

هنالك عدة عوامل أصبحت تؤثر في مواقف الزعامات العشائرية في وسط وجنوب العراق، بعد عام 2003، تجاه أية أحداث أو تطورات مهمة في الأوضاع العراقية. حيث أن معظم الزعامات العشائرية ارتبطت بتحالفات ومصالح (تخادمية متبادلة)، مع القوى السياسية-المسلحة الفاعلة في المشهد العراقي، هذه المصالح المشتركة بين الزعامات العشائرية والطبقة السياسية الحاكمة منذ 2003، تجبر الزعامات العشائرية على إدامة علاقاتها بهذه الطبقة السياسية في مختلف الظروف والأحوال. وفي الوقت نفسه، فأن هذه الزعامات العشائرية ألزمت نفسها بإعلان الدعم والتأييد المستمر، لمواقف المرجعيات الدينية وآرائها بخصوص شؤون البلد، وبخاصة مواقف مرجعية السيد السيستاني، حتى لو كانت مواقف المرجعيات تنتقد الطبقة السياسية، لكي تثبت هذه الزعامات العشائرية بأنها تتبنى ذات الميول العام لأبناء عشائرهم، الذين يعطون قدسية ومكانة محترمة للمرجعيات الدينية. ومن جهة أخرى، فإن هذه الزعامات العشائرية تجد نفسها ملزمة (أخلاقياً)، على الوقوف إلى جانب مطالب أبناء عشائرهم، الذين يعانون من نفس المشاكل التي يعاني منها غالبية الشعب العراقي، ومن أهمها البطالة وانتقاص الحقوق وسوء الخدمات، والفوضى السياسية والأمنية في العراق.

تفسر لنا هذه العوامل المتناقضة، طبيعة مواقف الزعامات العشائرية تجاه الإحتجاجات الأخيرة في العراق، فعلى مر تاريخ العراق المعاصر، لم يكن أغلب الزعامات العشائرية في العراق من الأشخاص الذين يمتلكون مؤهلات علمية أو فكرية مرموقة، إلا أنهم يمتلكون موهبة فطرية للتعامل بتوازن وفطنة مع أوضاع العراق المعقدة والخطيرة، ولدى هذه الزعامات العشائرية القدرة على حماية أنفسهم ومواقعهم ومصالحهم، خلال التحولات والإضطرابات المتكررة في تاريخ العراق المعاصر. في ذات السياق، اعتمدت الزعامات العشائرية (إستراتيجية) ذكية للتعامل مع الإحتجاجات الأخيرة في العراق، بالإستفادة من الأعراف العشائرية السائدة في العراق، التي تسمح بتمثيل الزعيم الأساس للعشيرة (الشيخ) من أي شخص قريب له، بحالة تعذر حضور الزعيم الأساس. أرتكزت هذه الإستراتيجية على وضع (موطأ قدم) لهذه الزعامات العشائرية في كلا جانبي الصراع، المحتجين والسلطة. فقد قام معظم زعماء العشائر في وسط وجنوب العراق، بفسح المجال لظهور زعامات ثانوية من عشائرهم، وهم أشخاص يرتبطون بصلة قربى مع الزعماء الرئيسيين للعشائر، هؤلاء الزعماء الثانويين تحركوا خلال الاحتجاجات باتجاهين مختلفين، الأول: إدامة التواصل مع قوى السلطة، وإظهار الإمتعاض من تصرفات بعض المحتجين (غير المنضبطين)، الذين يستخدمون أساليب احتجاجية عنيفة، وإعلان التأييد للإجراءات الحكومية التي تهدف إلى حفظ الأمن وحماية الممتلكات العامة والخاصة. الإتجاه الثاني: هو تقديم الدعم المعنوي والمالي للإحتجاجات، والوقوف إلى جانب مطالب المحتجين، وإدانة عمليات إستهداف المحتجين من القوى السياسية-المسلحة الحاكمة.

هذين الموقفين المختلفين من الزعامات العشائرية تجاه الإحتجاجات، لا يعنيان أن هذه الزعامات تنتهج الخداع أو النفاق في مواقفها، على العكس، معظم الزعامات العشائرية تمتلك مبادئ ومعايير أخلاقية عالية. هذه المواقف المختلفة، تعني أن معظم الزعامات العشائرية الرئيسة أتاحت الحرية لأبناء عشائرهم، للتعبير عن مواقفهم وآرائهم، المؤيدة للإحتجاجات أو الرافضة لها، دون أن تمارس تلك الزعامات العشائرية أية ضغوط، لتكوين موقف موحد لجميع أفراد العشيرة، باتجاه دعم الاحتجاجات أو مناهضتها. ومن خلال هذه الإستراتيجية، تضمن الزعامات العشائرية الحفاظ على علاقتها ومصالحها مع جميع أطراف الأزمة، وحماية مكانتها مهما كانت تطورات هذه الأزمة.

إن المواقف المتوازنة للزعامات العشائرية تجاه الإحتجاجات الأخيرة، تشير إلى أن تلك الزعامات تمكنت من قراءة مشهد الأحداث بصورة جيدة، واستوعبت حجم الغضب الشعبي الكبير الذي أدى إلى تفجر الاحتجاجات، والذي دفع بالمحتجين إلى شن حملات إدانة وتنديد ضد كل الأطراف الرافضة لهذه الإحتجاجات، سواء كانت تلك الأطراف رموز سياسية أو دينية أو إجتماعية، وأدركت الزعامات العشائرية بأن المحتجين لن يترددوا من إدانة الزعامات العشائرية وإضعاف مكانتهم الاجتماعية، إذا ما شعروا بأن تلك الزعامات تقف (علانية) ضد الإحتجاجات. من جهة أخرى، فأن الجهات السياسية- المسلحة التي قامت بقمع الإحتجاجات، وإستهداف داعميها، بالقتل والخطف، لن تتردد بإستهداف الزعامات العشائرية، إذا ماشعرت بأن تلك الزعامات تقف (علانية) مع الاحتجاجات، مهما كان حجم الحماية والحصانة التي تمتلكها الزعامات العشائرية، ففي العراق حالياً ليس هنالك حصانة ولا حماية لأي جهة أمام سلاح الميليشيات وسطوتهم.

في ظل تصاعد زخم الإحتجاجات، وكمؤشر واضح على أهمية دور العشائر، دعا رئيس الوزراء (المستقيل) عادل عبد المهدي، في 20 تشرين الثاني 2019، إلى اجتماع مع زعماء العشائر في محافظات وسط وجنوب العراق، حضر عدد قليل جداً من زعماء العشائر (الأساسيين) إلى ذلك الإجتماع، وأغلب من حضر كانوا من زعماء العشائر (الثانويين) الذين تطرقنا لهم مسبقاً، كما رفضت بعض العشائر الحضور نهائياً، حيث أن شيوخ قبائل محافظة كربلاء ومناطق أخرى في جنوب العراق، قالوا أنهم رفضوا لقاء عبد المهدي. وذكر بيان صادر عن شيوخ قبائل وعشائر كربلاء، أنهم رفضوا دعوة عبد المهدي للإجتماع في بغداد، مشددين على أنهم يساندون "المظاهرات السلمية لأبناء شعبنا، لما لاقاه هذا الشعب من الظلم والفقر والتشريد". كما تضمن ذلك البيان "أن الشيوخ رفضوا الاعتداء على الممتلكات العامة، والتجاوز على أفراد القوات الأمنية الحكومية"، وأنه "لا حل إلا بالتظاهر السلمي والمطالبة بالحقوق المشروعة".

كان موقف عشائر محافظة ذي قار في جنوب العراق، أكثر المواقف تميزاً خلال الاحتجاجات الأخيرة. فقد حدثت في الأيام 28-30 تشرين الثاني، سلسلة أعمال قتل ممنهجة استهدفت المحتجين في مدينة الناصرية (مركز محافظة ذي قار)، عقب يوم واحد من حادثة حرق القنصلية الإيرانية في محافظة النجف. أدت هذه الأحداث إلى مقتل 70 وجرح أكثر من 225 من محتجي الناصرية في يوم 28  تشرين الثاني، بينما قتل 15 وجُرِح 157 آخرين في يوم 30  تشرين الثاني. أدّت هذه المجزرة إلى إقالة الجنرال جميل الشمري من رئاسة "خلية الأزمة" المُكلفة بمعالجة الأوضاع في المحافظات الجنوبية، ثم أعلن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في 29  تشرين الثاني عن إستقالته. كما استقال في ذلك اليوم كل من: محافظ ذي قار "عادل الدخيلي"، وقائد شرطة ذي قار الجنرال "محمد زيدان القريشي"، الذي أصدر(قبل استقالته) أمر بسحب جميع القوات الأمنية إلى مقراتها، ومنع إطلاق الرصاص الحي تجاه المحتجين. لم تؤد كل هذه الاستقالات إلى تهدئة المتظاهرين في ذي قار.

أعلنت عشائر محافظة ذي قار بعد هذه الأحداث عن استنفار لأفرادها، ودعتهم إلى حمل السلاح والتوجه لإغلاق الطرق المؤدية للمحافظة، بعد توارد أنباء عن توجه مسلحين من محافظات مجاورة إلى الناصرية، بهدف قمع الإحتجاجات. في خضم تلك الأحداث تحركت عشيرة "آل جويبر" عند أقصى جنوب الناصرية، وأغلقت الطريق الذي يربط محافظة ذي قار بمحافظة البصرة من جهة "كرمة بني سعيد"، وأغلقت عشائر "حجام" و"النواشي" الطرق المحيطة بقضاء "سوق الشيوخ" في الناصرية، وقامت بمنع دخول أي أشخاص غرباء، كما أغلقت عشائر "البوصالح" و"النصر الله" الطريق الذي يربط محافظة ذي قار بمحافظة ميسان، ومنعت عشيرة "بني أسد" بقضاء "الجبايش" الدخول للمدينة. وفي شمال الناصرية أعلنت عشائر "عكيل" و"خويلد" و"الشويلات" و"بني ركاب"، عن قطع الطريق بين ميسان من جهة والديوانية وبغداد والكوت باتجاه الناصرية من جهة أخرى، ومن جانبها أحكمت عشائر "آل غزي" و"البدور" قبضتها على الطريق السريع غرب الناصرية، واستطاعت القبض على مسلحين مجهولين.

أعلن العديد من شيوخ عشائر الناصرية خلال تلك الأحداث، بأن أهدافهم من قطع الطرق المؤدية لمحافظتهم، هي أولاً: منع مجيء عناصر "مخربة" من المحافظات المجاورة، لتدخل بين صفوف المحتجين، وتحول الاحتجاجات السلمية إلى مواجهات مسلحة، والهدف الثاني: هو لمنع وصول عناصر مسلحة "ميليشياوية" من خارج المحافظة، لقمع الإحتجاجات السلمية في ذي قار بالقوة. شهدت الأيام التي أعقبت تلك الأحداث سلسة من الإجتماعات واللقاءات بين القيادات الأمنية وشيوخ العشائر في ذي قار، وقدمت القيادات الأمنية تطمينات لشيوخ العشائر بعدم السماح بحدوث ما يخشاه هؤلاء الشيوخ، وأن القوات الأمنية ستمنع تسلل أية عناصر مسلحة مجهولة تروم العبث بأمن محافظة ذي قار، فانسحب أفراد العشائر الذين كانوا يقطعون الطرق الرابطة بين محافظة ذي قار وباقي المحافظات المجاورة، مع استمرار العشائر في تقديم الدعم المادي والمعنوي للمحتجين في ذي قار، سواء المتواجدين في "ساحة الحبوبي"- في مركز مدينة الناصرية-، أو المحتجين الذين قاموا بقطع الطريق الدولي السريع -غرب مدينة الناصرية-.

كان موقف الشيخ "حسين الخيون" أحد زعماء عشيرة "العبودة" من المواقف المتميزة في دعم الإحتجاجات في ذي قار، كما شهدت الإحتجاجات في محافظة البصرة، موقفاً متميزاً للشيخ "وسام المالكي"، أحد زعماء قبيلة "بني مالك"، الذي استمر في دعم مطالب المحتجين، واستنكار عمليات استهداف المحتجين، التي تقوم بها الأطراف الرافضة للإحتجاجات.

يمكننا القول بأن المحصلة النهائية لمواقف العشائر تجاه الإحتجاجات، هي أن القوى السياسية- المسلحة الرافضة للاحتجاجات، لم تستطع دفع الزعامات العشائرية إلى إتخاذ مواقف مناهضة لهذه الإحتجاجات، برغم كل العلاقات والمصالح الموجودة، بين تلك القوى والزعامات. كما أن الزعامات العشائرية استطاعت الحفاظ على مكانتها الإجتماعية واحترامها لدى الرأي العام للمحتجين، بالرغم من أن هذه الزعامات لم يكن لها دوراً كبيراً في تشكيل مسارات هذه الإحتجاجات وتطوراتها. بمعنى آخر، لقد أجادت الزعامات العشائرية (مرة أخرى) أسلوب توازن المواقف، الذي تلجأ إليه غالباً خلال معظم التحولات المهمة في تاريخ العراق المعاصر. من جهة أخرى، فأن قيام أفراد العشائر بحمل السلاح وقطع الطرق الرئيسة في محافظة ذي قار، بعد حدوث مجزرة الناصرية في 28-30 تشرين الثاني، ينبئنا بأن العشائر ستكون من القوى الفاعلة والمؤثرة في المشهد العراقي، بحالة إذا فشلت القوى السياسية الحالية في إيجاد حلول حقيقية لأزمة الإحتجاجات، واتجهت الأوضاع في هذا البلد نحو الانهيار السياسي والأمني.