تأثير العقوبات الأمريكية على إريتريا في مسارات الصراع في إثيوبيا

مثّل القرار الأمريكي الصادر في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2021  بفرض عقوبات على مسؤولين وكيانات إريترية على خلفية الصراع في الجارة إثيوبيا، حلقة جديدة في مسلسل تأرجح العلاقات بين واشنطن وأسمرة طوال العقدين الماضيين.

فعلى عكس العديد من الدول في القرن الإفريقي التي اتسمت علاقاتها بواشنطن بالاستمرارية ضمن إطار من "التعاون" يزيد أو ينقص، شهدت العلاقات الإريترية الأمريكية حالات من الصعود والهبوط الدراماتيكي، مثلت تسعينيات القرن الماضي عصرها الذهبي، وظهر الرئيس الإريتري أسياس أفورقي كأحد أبرز الوجوه بين القادة الأفارقة الجدد، ضمن المشروع الذي رأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية مرتكزاً لاستراتيجيتها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات.

مع الحرب الحدودية الإثيوبية- الإرترية (1988-2000) واتهام أسمرة لواشنطن بالانحياز إلى جانب غريمتها إثيوبيا بدأت العلاقات بين الطرفين تسلك منحى مختلفاً، بلغ ذروته في حشد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما جهوده لإيقاع عقوبات أممية قاسية على أسمرة في عام 2009 بتهمة دعم المنظمات الإرهابية في الصومال، وتهديد استقرار المنطقة بعد اشتباكها الحدودي مع جيبوتي.

التخوف الأمريكي من تزايد النفوذ الصيني في القرن الإفريقي دفع البيت الأبيض إلى تغيير استراتيجيته في المنطقة، وتشجيع المصالحة الإرترية الإثيوبية ما أفضى إلى توقيع اتفاقية سلام بين البلدين والعمل على إعادة إريتريا إلى حظيرة المجتمع الدولي، وعاشت العلاقات الأمريكية الإريترية ربيعاً قصيراً، سرعان ما تلاشى عند اندلاع حرب تيغراي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والتي أفرزت واقعاً مختلفاً في المنطقة.

منذ تسلم إدارة الرئيس جو بايدن مهامها تتالت المطالبات الأمريكية بانسحاب القوات الإريترية والأمهرية من إقليم تيغراي، وفق رؤية تقوم على أن الجيش الإثيوبي لن يستطيع منفرداً السيطرة الكاملة على الإقليم المذكور، وبالتالي فإن انسحاب القوات الإريترية والأمهرية سيؤدي إلى هزيمة الجيش الإثيوبي ودفع الحكومة الإثيوبية إلى التفاوض مع معارضيها.

ولذا يمكننا أن نلحظ، في السياق المتعلق بإريتريا، تدرج القرارات الأمريكية في الشدة والمباشرة، ففي شهر أيار/ مايو 2021 ، وبعد أيام من جولة مبعوث الولايات المتحدة إلى القرن الإفريقي جيفري فيلتمان في إثيوبيا وإريتريا، صدر قرار بعقوبات تضمنت منعاً من دخول الولايات المتحدة وتجميداً للأرصدة للمسؤولين الإرتريين والإثيوبيين الذين اعتبرتهم واشنطن "مسؤولين أو متواطئين في تقويض جهود الحل في تيغراي".

وفي آب/ أغسطس 2021  فرضت الولايات المتحدة عقوبات على رئيس أركان الجيش الإريتري الجنرال فيليبوس ولدي يوهانس، لارتكاب قواته، وفق القرار، "انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان" في تيغراي. في حين شهد أيلول/ سبتمبر نقطة تحول بارزة مع إصدار الرئيس الأمريكي جو بايدن أمراً تنفيذياً، تضمن مجموعة من العقوبات ضد الأشخاص "المسؤولين عن، أو المتواطئين في، الإجراءات أو السياسات التي تهدد السلام أو الأمن أو الاستقرار في إثيوبيا". أهمية هذا الأمر التنفيذي، الذي خلا من تحديد أسماء لأشخاص أو كيانات محددة، تنبع من كونه مثّل جرس إنذار لأطراف الصراع بضرورة الجلوس إلى طاولة التفاوض، مع الأخذ بعين الاعتبار منح فرصة لرئيس الوزراء الإثيوبي للإعلان عن حكومته الجديدة في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر، ما قد يوفر له قدرة أكبر على التوجه نحو تسوية سياسية للحرب في بلاده، وهو ما لم يحدث. ولذلك لجأت واشنطن إلى الضغط أكثر، وبدأت مفاعيل الأمر التنفيذي بالظهور من خلال العقوبات على إريتريا والتهديد بفرض العقوبات على الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في حال انهيار جهود الوساطة بينهما.

وكان تاريخ إصدار هذا القرار في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي لافتاً للانتباه على أكثر من صعيد، حيث انه جاء في الذكرى السنوية الثالثة لرفع العقوبات الأممية القاسية عن إريتريا في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، والتي ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل رئيسي في إقرارها في مجلس الأمن الدولي. كما يمكن ربط إعلان القرار بحزمة من الأحداث، إذ جاء مباشرةً إثر فشل وساطة المبعوث الأمريكي جيفري فيلتمان بين الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، بعد اصطدامها برغبة طرفي الصراع في الاستمرار في القتال. بالإضافة إلى تزامنه مع إعلان الجنرال الأمريكي ويليام زانا القائد العام لقوة المهام المشتركة عن استعداد قواته المتمركزة في قاعدة ليمونير في جيبوتي "للاستجابة" للأزمة في إثيوبيا، وهو ما مثل تهيئة لزيارة وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن الإفريقية الأولى التي أعلن عنها في يوم إصدار العقوبات على إريتريا، والتي تضمنت زيارة إلى كينيا التي تقوم بمبادرة بين طرفي الصراع في إثيوبيا.

كل ما سبق يؤكد اهتمام الولايات المتحدة المتصاعد والمستمر بالحرب المستعرة في إثيوبيا وانخراطها في الجهود نحو الدفع باتجاه إيجاد تسوية تفاوضية لها من جهة، حيث أكدت ديباجة القرار التنفيذي لجو بايدن أن استمرار الحرب الإثيوبية "يشكل تهديداً غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة". كما أنه يؤكد من جهة أخرى أنه لا يمكن فصل القرارات المتعلقة بإريتريا عن أطراف الصراع الأخرى في جارتها الكبرى إثيوبيا.

ولذا فمن الممكن الحديث عن مجموعة من المعنيين برسالة العقوبات الأمريكية على إريتريا، وتعد الحكومة الإثيوبية، للمفارقة، أولهم، حيث ينص القرار على أن الولايات المتحدة تدعم "وقفاً تفاوضياً للأعمال العدائية في إثيوبيا"، وهو ما يجري التباحث حوله بشكل رئيس مع الأطراف الإثيوبية وعلى رأسها حكومة أديس أبابا، التي تطالبها واشنطن بجانب ما سبق بالسماح بإيصال المساعدات استجابة للأزمة الإنسانية التي تعصف بالمواطنين في مناطق الصراع داخل البلاد. بل إن الرسالة قد تكون موجهة مباشرة إلى رئيس الوزراء آبي أحمد، بالنظر إلى أن القرار لم ينص على فرض عقوبات على الجيش الإريتري وعلى الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة في إريتريا الحزب الحاكم والوحيد في إريتريا، بل إنه ذكر وبشكل لافت أن الرئيس أسياس أفورقي يقود هذا الحزب، وأنه "يشرف شخصياً على القيادة والسيطرة على قوة الدفاع الإريترية، ويصدر الأوامر مباشرة إلى جنرالاتها، ممّا يجعله في النهاية مسؤولاً عن دور الجيش الإريتري في المساهمة في الأزمة الإثيوبية".
وهو ما يعني  احتمالية إصدار عقوبات مباشرة بحق الرئيس أفورقي، وهي رسالة في غاية الوضوح والمباشرة إلى حليفه الأقرب إقليمياً آبي أحمد بإمكانية اتخاذ خطوات مماثلة بحقه.

الطرف الثاني المعني بالرسالة هو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، فرغم أن واشنطن دعتها مراراً للانسحاب من الأراضي التي استولت عليها في إقليمي أمهرة وعفر وهو ما لم يحدث واقعياً، فإن اللهجة الأمريكية اتخذت منحى أكثر شدة مع سيطرتها هي وحلفائها على مواقع استراتيجية في الطريق إلى أديس أبابا.

وفي هذا السياق يمكن موضعة التلويح بإمكانية اتخاذ عقوبات بحق الجبهة المذكورة مع مطالبة واشنطن إياها بعدم دخول العاصمة، تخوفاً من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بعد إعلان الحكومة حالة الطوارئ ودعوة المواطنين إلى حمل السلاح للدفاع عن مدينتهم، وتخوفاً كذلك من حالة من الفوضى السياسية المتوقعة في حال سقوط أديس في يد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وحلفائها، نتيجة الموقف السلبي الشعبي منها عند غالبية القوميات الإثيوبية بعد المرارات التي خلفتها تجربتها في حكم البلاد بين عامي 1991-2018.

بالطبع فإن الحكومة الإريترية هي المعني المباشر بهذه العقوبات، حيث يبدو أن هناك رغبة أمريكية على معاقبتها لمشاركة قواتها في القتال إلى جانب الجيش الإثيوبي، ولما نُسب إليها من انتهاكات لحقوق الإنسان، رغم تورط جميع أطراف هذا الصراع في تجاوزات مشابهة، ولدفعها إلى عدم التحرك مجدداً لدعم رئيس الوزراء الإثيوبي بما قد يضعفه ويضطره إلى سلوك الطريق التفاوضي.

غير أن فعالية هذه العقوبات ومدى تأثيرها يبدوان غير متيقن منهما للعديد من الأسباب، منها طبيعة العقوبات نفسها، وعلى سبيل المثال فإن الجيش الإريتري، أول المذكورين في لائحة العقوبات، لا يعتمد في تسليحه على المنتجات العسكرية للمنظومة الغربية، فروسيا أكبر مزوديه بالسلاح بالإضافة إلى كوريا الشمالية والصين.

 أصابت العقوبات كلاً من حقوس جبريهيوت المستشار الاقتصادي للحزب الحاكم وشركة البحر الأحمر القابضة التي يديرها، وكذلك شركة حدري، وهما من أهم الأذرع الاقتصادية للنظام السياسي الحاكم في إريتريا. لكن الملاحظ هنا أن الحكومة الإريترية طوال سنوات الحصار والعقوبات السابقة 2009-2018 قد أوجدت طرقها الخاصة للنفاذ من الطوق المضروب عليها، كما أن المؤسسات الاقتصادية التابعة للحزب الحاكم، ونتيجة للعلاقات العدائية مع الولايات المتحدة إبان تلك المرحلة، لم تقم باستثمارات ولا تملك أصولاً على الأراضي الأمريكية.

ان اعتماد إريتريا على دول داعمة له كروسيا والصين، وإيران سابقاً، لا تخضع بالضرورة للضغوطات الغربية في سياستها الخارجية، وقد كان من اللافت معارضة المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، عند سؤاله عن القرار الأمريكي ضد إريتريا، استخدام أو التهديد بفرض عقوبات أحادية الجانب على الدول، في حين أكد السفير الروسي في أسمرة أن بلاده وإريتريا "تتعاونان بشكل فعال على الساحة الدولية، وتتبادلان الدعم في مختلف المحافل العالمية".

في بيان صادر عن وزارة الإعلام رفضت إريتريا هذه العقوبات ووصفتها بأنها تقوض حقها المشروع في الدفاع عن النفس وتنتهك سيادة إثيوبيا، وأن هدفها الأساس هو غرس المعاناة والمجاعة لإثارة الاضطرابات السياسية، وهو ما يشي بشعور الحكومة الإريترية بأن من أهداف القرار التأثير في الداخل الإريتري بما يصب في الاستهداف المباشر لاستمرارية سلطة النظام السياسي الحاكم حالياً في أسمرة.

وعلى كل حال فمجريات الأحداث ميدانياً تكشف أن هذه العقوبات في سياق الحرب الإثيوبية لم تتمكن من إحداث تغييرات كبيرة على مواقف الأطراف المختلفة، فما يزال التيغراي وحلفاؤهم يتقدمون نحو العاصمة الإثيوبية في حين أعلن آبي أحمد توجهه إلى ساحات القتال لقيادة قوات جيشه، في حين كان تصريح جيفري فيلتمان كاشفاً حين ذكر أن التطورات العسكرية على الأرض تتحرك بسرعة أكبر من قدرتنا على تحريك العملية الدبلوماسية.