ماذا بعد إستقالة عادل عبد المهدي؟

بعد شهرين من الاحتجاجات الشعبية الواسعة، التي اندلعت في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019، قدم رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي استقالته في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر. لم يستطع عبد المهدي تفادي الإستقالة، برغم كل الوعود والحلول التي قدمها للمتظاهرين، طوال الشهرين الماضيين، بسبب ان المحتجين فقدوا الثقة تماماً بوعود السلطات، وبإمكانية القوى السياسية الحالية على ايجاد حلول للمشاكل، التي اندلعت الاحتجاجات بسببها، حيث ان المحتجين كانوا يردون بالرفض وتصعيد الاحتجاج، على كل خطوة يتخذها عبد المهدي باتجاه تهدئة الأزمة. كما ان مستوى العنف الذي أستخدم ضد هذه الاحتجاجات، قد عزز عدم ثقة المحتجين بالسلطات وبالقوى السياسية الحالية، حيث سقط في هذه الاحتجاجات أكثر من 418 شهيد و17500 جريح، فضلاً عن عشرات المعتقلين والمخطوفين من بين المحتجين. الحكومة العراقية تقول بان هنالك (طرف ثالث) هو من استهدف المحتجين، وهو من أوقع تلك الخسائر في صفوف المحتجين، ولكن الحكومة لم تكشف(بصراحة) من هو هذا الطرف الثالث، كما ان الحكومة لم تستطع حماية المحتجين من هذا الطرف الثالث! ان اعلان الحكومة عن وجود طرف ثالث يستهدف المحتجين، يعني بوضوح اعتراف رسمي بوجود قوى سياسية-مسلحة في العراق تعمل وتتحرك خارج إطار الدولة ومؤسساتها، وان هذه القوى السياسية-المسلحة لها أجندتها وحساباتها الخاصة. هذه الحقيقة هي جوهر الأزمة الحالية في العراق، حيث ان هذه القوى السياسية-المسلحة (ذات الأجندات الخاصة)، هي المعوق الرئيس لأي محاولات لإصلاح الأوضاع السياسية، الإقتصادية، الأمنية، الإجتماعية في العراق.

تعددت أسباب ومطالب هذه الاحتجاجات، وشملت المطالبة بإستقالة الحكومة، مكافحة الفساد (بجدية وشفافية)، استبدال قانون الإنتخابات الحالي بقانون (أكثر إنصافاً)، تعديل الدستور، تشكيل مفوضية إنتخابات (مستقلة فعلياً)، إجراء انتخابات مبكرة. إلا أنه من الواضح ان محصلة هذه المطالب هي مطلب رئيس واحد، وهو إزاحة الطبقة السياسية التي تحكم العراق منذ 2003 (أحزاب وشخصيات) من المشهد السياسي. وهنا تكمن الخطورة الأكبر لتطورات هذه الاحتجاجات ومطالبها، فمن المعروف ان وجود هذه الطبقة السياسية في حكم العراق، ارتبط بشكل كبير بوجود التأثير والنفوذ الإيراني في العراق، وان إزاحة هذه الطبقة السياسية من المشهد السياسي في العراق، تتطلب انهاء (أو إضعاف) الدور الإيراني في المعادلة السياسية والأمنية في العراق، هذا الأمر ليس باليسير، إيران لن تتخلى بسهولة عن مكاسبها التي حققتها في العراق خلال الستة عشر سنة الماضية، وبخاصةً ان ايران لديها العشرات من الفصائل المسلحة في العراق، يدينون بالولاء المطلق للسياسات والتوجهات الايرانية. لذلك هنالك مخاوف حقيقية من انزلاق هذه الاحتجاجات إلى مزيداً من العنف، ومزيداً من التهديدات لأمن واستقرار العراق، إذا استمرت السلطات العراقية بمواجهة هذه الاحتجاجات بالحلول الأمنية فقط، دون الاستجابة الحقيقية لمطالب المحتجين، ومحاولة ايجاد حلول سياسية مقنعة، تساهم في التخفيف من شدة الأزمة، وتمنع من تدهور الأوضاع في العراق.

بعد استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أصبح لدينا ثلاث توجهات تتفاعل (أو تتصارع) في المشهد العراقي، التوجه الأول يمثله المحتجين، الذين أصبحوا بعد استقالة عبد المهدي، أكثر ثقةً وتمسكاً بتحقيق مطالبهم، حيث أعلن المحتجين انهم سيراقبون الخطوات والإجراءات التي تعقب استقالة عبد المهدي، وانهم سيقبلون فقط بالخطوة التي تنسجم مع مطالبهم، وانهم مصرين على احداث تغييرات جذرية في العملية السياسية في العراق، وانهم سيصعدون الاحتجاج ضد أي خطوة مخالفة لمطالبهم. فقد خرجت اعلانات وتصريحات من ساحات الاحتجاج، بأن استقالة عبد المهدي ليس مطلبهم الرئيس، بل هو مطلب من عدة مطالب، وانهم لم يقدموا هذه التضحيات من الشهداء والجرحى من أجل إستقالة عبد المهدي فقط، وان هذه الاستقالة يجب ان تتبعها تشكيل حكومة انتقالية، برئاسة رئيس وزراء مقبول من المحتجين، وان يتم اختيار رئيس الوزراء الجديد خارج إطار التوافقات السياسية السابقة، التي جلبت عادل عبد المهدي لمنصب رئاسة الوزراء، وان تقوم هذه الحكومة الانتقالية بالتهيئة لانتخابات مبكرة، بعد تشريع قانون انتخابي جديد مقبول من المحتجين، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة. ان أصحاب هذا التوجه يراهنون على استمرار زخم وقوة الإحتجاجات، من أجل تحقيق أهدافهم، وإحداث تغيير جذري في أوضاع العراق.

التوجه الثاني يمثله بعض الأطراف السياسية والمجتمعية في العراق، التي تتبع سياسة (مسك العصا من المنتصف)، هؤلاء يقومون في الوقت الحاضر ببعض المشاورات والتحركات السياسية، التي تدعو الى اتخاذ تغييرات واصلاحات توافقية، بان تكون هذه الاصلاحات مقنعة للمحتجين من جهة، وان تمنع هذه الاصلاحات من انهيار العملية السياسية والأمن والاستقرار في العراق من جهة ثانية. لذلك يسعى أصحاب هذا التوجه في الوقت الحاضر، لاختيار رئيس وزراء جديد يخلف عبد المهدي، يكون مقبولاً لدى المحتجين (قدر الإمكان)، وفي نفس الوقت يكون مقبولاً لدى القوى السياسية-المسلحة التي ما زالت تهيمن على المشهد السياسي في العراق. كما ان أصحاب هذا التوجه يسعون في الوقت الحاضر أيضاً لتشريع قانون انتخابي جديد في البرلمان، يكون مقبولاً للمحتجين وللقوى الرافضة للتغيير الجذري في نفس الوقت. ان أصحاب هذا التوجه يراهنون على عاملين لتهدئة الإحتجاجات والحفاظ على تركيبة النظام السياسي الحالي، وهما عامل الوقت، وتقديم بعض الحلول التوافقية.

التوجه الثالث يمثله (الطرف الثالث) الذي تحدثنا عنه مسبقاً، هذا الطرف الثالث ما زال مصراً على ان أية تغييرات أو اصلاحات في أوضاع العراق، يجب ان تتم بشرط الإبقاء على سيطرة ونفوذ هذه القوى السياسية-المسلحة في المشهد العراقي. لذلك يسعى هذا الطرف الثالث للأتيان برئيس وزراء جديد قريب منها، وضمن إطار نفس الترتيبات والتفاهمات السياسية التي جلبت عادل عبد المهدي. أصحاب هذا التوجه يراهنون على قوتهم ونفوذهم في الساحة العراقية، من أجل تحقيق أهدافهم، حيث انهم ما زالوا يشعرون بأنهم الطرف الأقوى في العراق، ولا توجد قوة تجبرهم على التخلي عن مكاسبهم ومكانتهم، أو التخلي عن شروط وقواعد اللعبة السياسية، المعتمدة في العراق منذ 2003.

ان التطورات المستقبلية لأزمة الإحتجاجات في العراق، ستحددها نتائج الصراع بين هذه التوجهات الثلاثة، وقدرة أي طرف في هذا الصراع على الصمود الى حين تحقيق أهدافه. من جهة أخرى، من المتوقع ان العوامل الخارجية المؤثرة في هذه الأزمة، لن تنحصر بالدور الايراني فقط. فقد تصاعدت في الأيام الأخيرة الانتقادات الدولية، ضد استخدام القوة المفرطة في قمع الاحتجاجات في العراق، حتى الأمريكان الذين يصفون أنفسهم بأنهم حلفاء للحكومة العراقية، بدأوا بانتقاد السلطات العراقية على قمع الاحتجاجات. في 3 كانون الأول/ديسمبر قامت "جينين بلاسخارت" ممثلة الأمم المتحدة في العراق، بتقديم تقريراً عن الاحتجاجات في العراق الى اجتماع مجلس الأمن الدولي، تضمن تقرير بلاسخارت اتهامات واضحة للسلطات العراقية باستخدام العنف ضد المحتجين، وبالتهاون في مكافحة الفساد، وبعجز تلك السلطات عن تحقيق مطالب المحتجين. كما تضمن تقرير بلاسخارت تأكيدات بوجود تدخلات إقليمية مضرة بالشؤون العراقية (في إشارة واضحة للدور الايراني في العراق).