الجامعة العربية وتباين مواقفها الإقليمية

رفضت جامعة الدول العربية مؤخراً دخول تركيا لشمال سوريا، بينما سبق وان طالبت بالتدخل الدولي في ليبيا، وهو ما يثير الجدل حول التقدير السياسي لموقف الجامعة من تعريف الحماية وسيادة البدان العربية، ولعل المسألة الأكثر أهمية تكمن في مدى القدرة على قراءة التغيرات الإقليمية والدولية.

على مدى السنوات الماضية، اتخذت جامعة الدول العربية مواقف مختلفة على الرغم من تماثل التهديدات للبلدان العربية، وفي هذا السياق، تقدم الجامعة ثلاث حالات مختلفة في موقفها من التدخل، بشكل يعكس التباين بين مواقفها من التدخل في الأزمات الداخلية واتجاهات الهيمنة على القرار الإقليمي.

في الحالة الأولى، تبنت سياسات جامعة الدول العربية تجاه ليبيا التدخل المبكر، عندما صدر قرار عن اجتماع على مستوى المندوبين بوقف مشاركة وفود حكومة الجماهيرية الليبية في اجتماعات مجلس الجامعة، إلى حين وقف السلطات الليبية الاعتداء على المدنيين  وتحقيق السلم الاجتماعي، وفي 12 مارس 2011 طالبت الجامعة العربية مجلس الأمن بفرض حظر جوي وإقامة مناطق آمنة لحماية المدنيين، وقد ترافق هذا التطور مع إعلان انتهاء شرعية الحكومة الليبية ودعوة الجامعة لمجلس الأمن بالتواصل مع المجلس الوطني الانتقالي، لكنها اكتفت بتجميد عضوية سوريا رغم قتل مئات الآلاف من المدنيين، وقد استند الحلف كذلك إلى قرار الجامعة العربية رقم ( 7298 / مارس 2011 ) كمبرر قانوني للقيام بحملة جوية ضد ليبيا.

وفي الحالة الثانية، حيث الأزمة السورية، فقد اتخذت الجامعة العربية قراراً في نوفمبر 2011 بتعليق عضوية سوريا، لكنها غضت الطرف عن الحكومة السورية رغم الانتهاكات الواضحة ضد المدنيين، حيث ظلت تعدها الحكومة الشرعية، ومن هذه الوجهة، سكتت الجامعة العربية عن وجود الجيش الإيراني والقوات الروسية "المقربين من بشار الأسد" في سوريا، فيما لم تحتج على وجود القواعد الأمريكية في سوريا، علماً ان هذه القواعد موجودة في الأراضي السورية بدون موافقة الحكومة السورية.

ومع انطلاق عملية نبع السلام، حاولت الجامعة العربية السير في اتجاه بناء موقف دولي مناهض للتدخل التركي في شمال سوريا، باعتباره عملاً عدائياً، وقد ركز البيان الصادر عن الاجتماع على حق سوريا في الدفاع الشرعي، حسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. كما تبنت تكوين لجنة اتصال من وزراء الخارجية للتواصل مع الأمين العام للأمم المتحدة جوتيرس، يكون هدفها خلق بيئة معادية لتركيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

وقد استندت الجامعة العربية على قرار مجلس الأمن رقم 2254، المتعلق ببناء مسار التسوية السلمية على اساس وطني بعيد عن الطائفية، والاعتراف بالمعارضة كطرف بجانب النظام، بمعني أنه يمنح مشروعية متساوية لكل الأطراف، مما يوفر المشروعية لتحرك الجيش السوري الحر كأحد مكونات المعارضة.

وقد شكلت الحرب في سوريا تحديا لتماسك الجامعة العربية، فبعد تجميد عضوية سوريا، تصرفت دول الخليج على نحو يتجاهل وجود الحكومة القائمة ودعمت " الحكومة السورية المؤقتة"، بالمقابل اعتبرت دول الخليج دخول الجيش السوري الحر لشمال سوريا انتهاكا للسيادة الإقليمية.

وفي الحالة الثالثة، فقد استبقت السعودية صدور قرار من القمة العربية بخصوص المشكلة اليمنية، رغم عرضه للنقاش في قمة شرم الشيخ في 2015، وشنت عملية "عاصفة الحزم" في اليمن بدون غطاء إقليمي، واكتفت بتحالف محدود، وهذا يكشف عن إمكانية تجاوز الجامعة وشن حملات عسكرية دون الرجوع إليها، غير أنه بعد مرور أربع سنوات لم تحقق "عاصفة الحزم" أهدافها، بل على العكس ظهرت أزمات أخرى، كان أهمها، تعرض السعودية لهجمات على منشآتها النفطية، ودخولها في أزمة مفتوحة مع إيران.

قد تبدو هنالك صعوبة في فهم تباين مواقف الجامعة العربية، بدون التعرف على التطور التاريخي للجامعة العربية، والتحولات التي شهدتها. فمنذ الخمسينات والستينيات، خضعت الجامعة العربية للحركات القومية، كأداة أيديولوجية للوحدة العربية، حيث عملت على جانبين؛ الأول دعم الانقسامات بين الأنظمة العربية، الجمهورية والملكية، ووصف الأنظمة الملكية بالرجعية، والثاني تبني علاقات عدائية مع دول الجوار وخصوصاً تركيا وإيران. وبهذا المعنى، ساعد استحواذ القوميين على الجامعة العربية على تعزيز الانقسامات الداخلية، وترسيخ التنافر بين البلدان العربية.

وعلى عكس المتوقع، شكل ظهور حزب البعث في سوريا والعراق، تحدياً للجامعة العربية، حيث ارتبطت الخلافات بالاستحواذ على القرار السياسي، وهنا، تأثرت الجامعة العربية بتباين مواقف العراق ومصر وسوريا عن الوحدة العربية، وقد تفاقم أثر تلك الخلافات بعد وفاة الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، حيث لم تتمكن الجامعة العربية من تطوير النموذج القومي، وتحول القوميين لحركة معارضة في المنفى. وبعد وفاة عبد الناصر، أدى تخلي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عن الحركة القومية، وحل الاتحاد الاشتراكي العربي، لحدوث تراجع سريع لنفوذ القوميين في الجامعة العربية، وضعفت قدرتهم على التكيف مع التغير السياسي، وخصوصاً مع الانتقال للتعددية الحزبية والتغير الاقتصادي وتفضيل القطاع الخاص واقتصاد السوق.

وبجانب مساهمة تعدد مراكز القوميين العرب، والتغيرات السياسية في ظهور صراعات على الجامعة العربية، فإنه يساعد في تفسير النزاع على تعريف الجامعة العربية ودورها تجاه المسألة القومية، فقد كشف الخلاف حول توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عن تباين السياسات والمصالح، لم تتوقف آثارها عند نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس وتجميد عضوية مصر، بل تجاوزها  إلى ظهور اتجاهات لاحتواء الجامعة العربية، حيث ظهر اتجاهان، كان الأول برعاية الأنظمة القومية، عندما اتجهوا لتشكيل إطار إقليمي بعيد عن التأثير المصري، فيما كان الاتجاه الاخر، يتمثل في تقارب دول الخليج مع مصر في إطار التحولات الداخلية في مصر ثم التحالف المضاد للثورة الإيرانية.

ومع بداية الثمانينات، ترافق تحولات النظم السياسية مع تراجع الحركات القومية مما أدى لظهور انقسامات في الجامعة العربية، حيث شهدت النظم العربية تغيرات جذرية نحو القطرية والتجمعات الإقليمية، بدأت بظهور مجلس التعاون الخليجي 1980، واتحاد المغرب العربي 1989، كما ظهرت محاولة أخرى لتكوين مجلس التعاون العربي (العراق، الأردن، مصر، اليمن) في 1990.

ومع تداعيات الحرب العراقية- الإيرانية، تراجعت أهمية الجامعة العربية كمنظمة إقليمية، ولم تتمكن من القيام بدور مؤثر في السياسات العربية، وخاصة مع الغزو العراقي للكويت في 1990، وما ترتب عليه من حصار دولي ثم الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، ما أدى لتعميق الانقسام بين الدول العربية وفتح المجال لظهور النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، ولاحقاً اليمن.

 وعلى الرغم من تسارع الجامعة في الاشتباك مع الأزمات في ليبيا وسوريا، فقد تراجع اهتمامها بالتطورات اللاحقة، وفيما اقتصرت مواقفها على إصدار بيانات في مسألتي ليبيا وسوريا، لم تعقد جلسات خاصة بليبيا منذ 2014، وعقدت جلسة عاجلة بخصوص سوريا لمناقشة التدخل التركي في الشمال السوري.

يمكن القول، أن هذه التغيرات شكلت الأرضية الملائمة للصراع على تقاسم النفوذ بين البلدان العربية، وهي تعكس عدم كفاية الجامعة العربية كمظلة قومية، كما تتضمن من وجهة أخرى، حالة من التنافس على الهيمنة على الجامعة العربية، وإخضاعها للمنظمات الفرعية. وفيما انصرفت البلدان المغاربية لشئونها الداخلية، تتابعت محاولات مجلس التعاون في الولوج التدريجي للتأثير في قرارات الجامعة، ووصلت ذروة تأثيره في التحفيز على التدخل الدولي في ليبيا.

بشكل عام، لم تتمكن الجامعة العربية من العمل كمنظمة متجانسة عندما تصاعد نفوذ التحالف الخليجي- المصري في تقرير جدول أعمال، وهو ما ظهر واضحاً في دخول الجامعة على خط الأزمة الخليجية، في يونيو 2017، لكن دورها لم يكن حاسماً في تسوية الأزمة، أو السيطرة على تداعياتها لاختلاف مواقف الدول العربية، ودخول أطراف دولية على خط الأزمة.

تعكس هذه التطورات وجود فجوة بين دول الجوار والدول العربية، كانت نتائجها في اتساع النفوذ الإيراني في عدة بلدان عربية، وتحكم تركيا في السيطرة على مجالها الحيوي. ترجع هذه النتائج لتجاوز السياسة الإيرانية التحديات التي واجهتها منذ 1979، وتوجه تركيا نحو مراجعة سياساتها الداخلية، وتخفيف حدة مشكلة الإندماج القومي ورفع معدلات التنمية في تركيا منذ 2003.

ومنذ نشأة الجمهورية التركية، مرت تركيا بمرحلة صراع مع الأحزاب القومية الكوردية، لكنها تمكنت من دمج المجموعات العربية، وبهذا المعنى، يمكن القول أن النزعات القومية لم ترتبط بمجموعات سكانية بقدر وجود ميول حزبية ماركسية مسلحة. فقد مرت تركيا بعملية تحديث وتعددية حزبية، ساهمت في إعادة تعريف القومية، بحيث تعترف بالتنوع العرقي والمساواة في الحقوق السياسية والاجتماعية، وخلال فترة حكم حزب "العدالة والتنمية" جرت العديد من الإصلاحات الداخلية، حول قبول التعددية اللغوية والثقافية، والسلام مع الكورد وحقهم في التنمية تحت برنامج " السلام مع الكورد"، كسياسة لتخفيف حدة النزعة القومية.

على العكس من ذلك، لم تشهد البلدان العربية محاولات لبناء الثقة بين مكونات الجامعة العربية، الرسمية والشعبية، بحيث تعكس تطلعات الشعوب، فكما كانت الحكومات منقسمة، لم تستطع التيارات السياسية تكوين ارضية مشتركة حول السياسات الإقليمية، فعلى الرغم من تعدد دورات المؤتمر القومي الإسلامي، لم يحدث تطور بنيوي للعلاقة بين التيارين، وسقطت فكرة العمل المشترك، بعد بزوغ الحراك السياسي في 2011، بشكل يرسخ بقائهما خارج دوائر الفعل السياسي.

ولعل التناقض السياسي يكمن في أنه رغم تراجع التوجهات القومية، ظلت الجامعة تستدعي الميراث التاريخي في نظرتها لبعض الأزمات الإقليمية، ولذلك، تبدو هنالك حاجة لبناء نموذج عربي للتطور السياسي، يكون مكافئاً للتحولات الإقليمية والتحولات في دول الجوار، وطرح أفق جديد للعمل العربي المشترك، يضمن تحييد عوامل الهيمنة.