التطبيع العربي الإسرائيلي وآثاره على مستقبل القضية الفلسطينية

 

ما هو التطبيع؟
"التطبيع" يعني شروع دولة عربية ما بإقامة علاقات طبيعية مع الإحتلال الإسرائيلي ومؤسساته وأجهزته ومواطنيه، عن طريق المشاركة في الأنشطة والمبادرات والمشاريع المحلية أو الدولية التي تجمع العرب مع إسرائيل، مؤسساتً كانوا أم أفرادا. والتطبيع له عدة أنواع، أهمها: التطبيع السياسي، والاقتصادي، والأمني، والثقافي. ومن أهم أشكال التطبيع هي الأنشطة التي تهدف إلى التعاون العلمي أو المهني أو الفني أو الإجتماعي (النسوي أو الشبابي)، والذي يهدف إلى إزالة الحواجز النفسية بين الطرفين بغرض التقارب، وبالتالي تجاهل حالة الحرب القائمة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، والإعتراف بمشروعية الدولة الإسرائيلية على حساب الأرض والشعب الفلسطيني، وهو إنكار واضح وصريح لحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، خاصة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض حسب قرار الأمم المتحدة رقم 194، وقرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي طالب إسرائيل بوقف الأنشطة الإستيطانية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وهذا إعتراف صريح من الأمم المتحدة بعدم مشروعية الوجود الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وبأن الشعب الفلسطيني شعب محتل من قبل الإحتلال الإسرائيلي.

أن موضوع التطبيع العربي الإسرائيلي هو قضية خطيرة في النزاع السياسي العربي اليوم، خاصة بعد الربيع العربي وما نتج عنه من حكومات أكثر استبدادا وقمعية من السابقة، ومع اضمحلال الهوية الفكرية والثقافية العربية، وجاء التطبيع ليشكل تهديداً حقيقياً للثوابت العربية- الإسلامية، فحتى الشعوب الرافضة والمعارضة للتطبيع لا تستطيع إجبار حكوماتها على الانسحاب والتخلي عن تطبيعها مع الكيان الإسرائيلي، فأنظمة الحكم العربية هي أنظمة لا تضع مطالب مواطنيها على سلم أولوياتها، مما ينصب في مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فالتعامل مع أنظمة حكم  لها أجنداتها الخاصة لتحقيق مصالح فردية هو المطلوب دائما لإسرائيل والولايات المتحدة للسيطرة على المنطقة العربية.

جذور التطبيع
قد يكون مصطلح التطبيع قد تم تداوله بكثرة خلال الأشهر الفائتة، إلا أن فعل التطبيع ذاته قديم يمارس منذ عقود من الزمن سواء بشكل علني أم سري، مباشر أم غير مباشر، فالعلاقات العربية مع إسرائيل بدأت بشكل مباشر وعلني عندما وقع الرئيس المصري أنور السادات عام 1979 "معاهدة السلام" بين مصر وإسرائيل بعد زيارته لإسرائيل وبعد مفاوضات كثيفة نتج عنها توقع معاهدة السلام التي تتلخص بما جاء بالمادة الثالثة من المعاهدة، التي نصت على:" يتفق الطرفان على أن العلاقات الطبيعية التي ستقام بينهما ستتضمن الإعتراف الكامل والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية وإنهاء المقاطعة الإقتصادية والحواجز ذات الطابع التمييزي المفروضة ضد إنتقال الأفراد والسلع".

الخطوة المباشرة الثانية للعلاقات العربية مع إسرائيل، جاءت من منظمة التحرير الفلسطينية عند توقيع إتفاق "أوسلو "عام 1993، والتي نصت أن تعترف إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، مقابل إعتراف منظمة التحرير بالدولة العبرية على 78% من الأراضي الفلسطينية، ولاقت هذه الإتفاقية رفضا كبيرا في الشارع الفلسطيني والعربي حتى هذه اللحظة، حتى بين أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية التي وصفوها بأنها إهانة للقضية الفلسطينية وبأن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات قد تم خداعه والضغط عليه وإعطائه وعودا كاذبة بالسلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، الأمر الذي لم يحدث إلى الآن، ولعل السبب المباشر الذي دفع الرئيس الراحل ياسر عرفات للتوقيع على إتفاق أوسلو كان هدفه  للم شمل منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة توحيدها وتجميعها مرة أخرى، فقد كانت منظمة التحرير مشتتة ما بين الجزائر والمغرب ولبنان وسوريا، وفي ذات الوقت هي الجهة الوحيدة التي تدافع وتتكلم باسم الشعب الفلسطيني، فكان لابد من إعادة توحيد صفوفها والإعتراف بها إقليمياً ودولياً.

بعد ذلك توالت الإتفاقيات والمعاهدات بين إسرائيل والدول العربية، وكان من أبرزها معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، أو ما يعرف بإتفاق "وادي عربة"، التي تضمنت إعتراف كلا الطرفين بسيادة الأخر، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الطرفين، وتوزيع مياه نهر الأردن وأحواض وادي عربة الجوفية بشكل عادل بين البلدين، بالإضافة إلى حرية تنقل الأفراد والسلع بين البلدين.

كانت هذه الإتفاقيات بداية العلاقات العربية الإسرائيلية المباشرة، وبحسب دراسة نشرت في "مجلة شؤون فلسطينية"، أنه في عام 2006 كان لدى إسرائيل علاقات تجارية مع 11 دولة عربية، وأن مجمل صادرات إسرائيل لتلك الدول العربية بلغ 410 مليون دولار وارتفع خلال السنوات اللاحقة.

على مدار العقدين السابقين تم فتح العديد من المكاتب التمثيلية والتجارية بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وجميع هذه العلاقات كان الرابح بها هو الطرف الإسرائيلي فقط، فقد حققت إسرائيل هدفين في آن واحد من تطبيع علاقاتها مع الدول العربية، الهدف الأول هو: ترسيخ وجود وتأثير إسرائيل في المنطقة العربية، وزعزعة التمسك بالثوابت العربية والإسلامية، وبالتالي التخلي عن القضية الفلسطينية وعن حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير والتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، الهدف الثاني: وهو الأرباح التي تحققها إسرائيل نتيجة العلاقات التجارية مع الدول العربية، على سبيل المثال بلغت قيمة الصادرات الصناعية الإسرائيلية إلى الدول العربية عام 2008 أرقاماً ملفتة للنظر، بعد مصر والأردن، جاءت الإمارات بالمرتبة الثالثة، حيث بلغت حجم الصادرات الصناعية الإسرائيلية للإمارات 25,5 مليون دولار، يليها المغرب ب17,2 مليون دولار، هذه الأرقام لم تتضمن صادرات إسرائيل من المجوهرات والمصوغات الذهبية، التي بلغت ما صدر  لسوق دبي فقط 200 مليون دولار، ناهيك عن صفقات الأسلحة التي لا يعلن عنها في الغالب.

مخاطر التطبيع
أن مخاطر التطبيع مع إسرائيل لم تكن يوما مقصورة على القضية الفلسطينية وأرض فلسطين، بل انها تمتد إلى ما هو أبعد وأشمل من ذلك، فالأمة الإسلامية هي المستهدف الرئيسي، من خلال إضعاف الاهتمام بالقضايا التي تهم المسلمين وبالثوابت الإسلامية وتفكيك هوية الأمة الإسلامية. فبعد أن كان التعامل وإنشاء علاقات مع إسرائيل يعد خيانة للفكر الإسلامي وللأمة الإسلامية والعربية، أصبحت الدول الإسلامية والعربية تهرول لإنشاء علاقات مع إسرائيل، وبالتالي تشتت الإسلام والمسلمين، ونشوء جيل متخبط الفكر والمبادئ، غير متمسك بقيمه، يرى أن إسرائيل والدول الغربية نموذج للدول الناجحة المتقدمة، بغض النظر عن النهج والأسلوب المتبع، فجيل مسلم عربي لا يعرف عدوه من صديقه، أخطر على الأمة الإسلامية والعربية من التطبيع نفسه.

يعد التطبيع العربي الإسرائيلي تغيراً إستراتيجياً هاماً وخطيراً في المنطقة العربية، إذ يعتبر نقطة قوة وإنجاز لصالح إسرائيل، في المقابل فإن التطبيع العربي قد أضعف موقف القضية الفلسطينية وسط تخلي أكثر الدول العربية تأثيرا في المنطقة عن دعمها لفلسطين، وانتقال دعمها لصالح إسرائيل، ومن أهم تداعيات التطبيع العربي على القضية الفلسطينية مستقبلا، هو تراجع مكانة السلطة الفلسطينية وتعجيل انهيارها، مما يؤدي إلى حدوث توتر في الشارع الفلسطيني، خاصة في ظل الانقسام السياسي الداخلي الذي يعاني منه الفلسطينيون منذ عام2007، والذي كان له دورا كبيرا في نجاح التطبيع في ظل تراجع وتخبط الموقف الفلسطيني في المنطقة العربية. فضلاً عن أن التطبيع من المؤكد سيكون له دوراً في إنجاح صفقة القرن، والمخطط الإسرائيلي لضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية.