تفاعلات قضية "آيا صوفيا" في العالم العربي

أثار قرار إعادة المعلم التاريخي في اسطانبول "آيا صوفيا" إلى طبيعته السابقة كمسجد في الأسبوع السابق موجة كبيرة من ردود الأفعال، داخل تركيا وخارجها، فبالنسبة للعالم العربي شهدت القنوات الفضائية والصحافة ومنصات التواصل الإجتماعي في الأيام القليلة الماضية، تفاعلاً ملحوظاً حول قرار الحكومة التركية في 10 تموز/يوليو 2020 المسند بقرار القضاء التركي في 2 تموز/يوليو، حول إعادة هذا المبنى التاريخي إلى طبيعته كمسجد، والتي كان عليها لمئات الأعوام قبل سنة 1934، وهي السنة التي تحولت فيها "آيا صوفيا" إلى متحف وأوقفت فيها الصلاة بقرار من مجلس الوزراء التركي آنذاك. القرار الجديد سيسمح للسياح الأجانب من كل الأديان والطوائف بزيارة المعالم التاريخية والنصب التذكارية في "آيا صوفيا"، ولكنه سيعيد إقامة الصلاة في هذا المبنى التاريخي كما كان يجري في العهد العثماني.

تنوعت المواقف وردود الأفعال العربية حول هذه القضية بين مؤيد ورافض وبين آراء موضوعية متزنة حول هذه القضية، تنوع تلك الآراء كان نتيجة طبيعية لتنوع المنطلقات الفكرية والآيديولوجية لأصحاب تلك الآراء، كما انه اختلاف طبيعي في الآراء طبقاً لإختلاف المواقف تجاه السياسة التركية المعاصرة بين المنصات الإعلامية العربية الحكومية والمستقلة.

عكست بعض المواقف العربية الرافضة لهذا القرار وجود خللاً واضحاً في قراءة طبيعة الحياة السياسية وآلية صنع القرار في تركيا، فضلاً عن قصور في فهم حيثيات هذا القرار ودفوعاته القانونية ودوافعه السياسية، والنتائج المترتبة لهذا القرار على الخواص الوظائفية لمبنى "آيا صوفيا".

هذا القصور لدى العديد من كتاب الرأي العرب، والذي يظهر باستمرار عند تناولهم الشؤون التركية، ينبع من قراءتهم للحياة السياسية في تركيا من خلال منظور الحياة السياسية في العالم العربي، ومن خلال تقييمهم لواقع الديمقراطية العتيدة في تركيا باستخدام معايير الديمقراطية الصورية في العالم العربي، ومن خلال قياسهم لاستقلالية ونزاهة القضاء التركي مقارنة بواقع المؤسسات القضائية في الدول العربية.

حيث صورت الآراء العربية الرافضة لهذا القرار بأنه قرار فردي من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لاستثماره لمصلحته ومصلحة حزبه "حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات، بينما في الواقع لا يوجد موسم انتخابي حالياً في تركيا، وأقرب انتخابات ستجري بعد ثلاثة أعوام.

من جهة أخرى فأن الرئيس التركي أردوغان لم يصادق على هذا القرار إلا بعد أن أصدر القضاء التركي هذا القرار، والقضاء التركي لم يصدر قراره بهذه القضية إلا بعد مداولة جميع الدفوعات والطعون بخصوص هذه القضية، بل أن المحكمة الإدارية العليا في تركيا التي نظرت في هذه القضية، كانت شديدة الحذر والتدقيق في هذه القضية، لأن هذه المحكمة كانت تريد حسم الجدل في هذه القضية بعدالة، وتحويلها من مسألة سياسية وقضية رأي عام إلى قضية قانونية تستند على أدلة موثقة.

بدأت قضية "آيا صوفيا" في أروقة المحاكم التركية في حزيران/ يونيو 2005، عندما رفعت جمعية "خدمة الأوقاف والآثار التاريخية والبيئة" دعوة حول هذه القضية إلى المحكمة الإدارية العليا، وطالبت الجمعية المذكورة بإلغاء قرار مجلس الوزراء التركي في 1934 وإعادة هذا المبنى إلى وضعيته كمسجد، إلا أن المحكمة الإدارية العليا قررت في آذار/ مارس 2008 رفض تلك الدعوة. وعاودت الجمعية تقديم التماس إلى المحكمة الدستورية عام 2015، أشارت فيه إلى أن رفض إعادة "آيا صوفيا" للعبادة يعد انتهاكاً لحرية الأديان، وبعد ثلاث سنوات تم رفض الالتماس من المحكمة الدستورية. خلال فترة مداولة ذلك الالتماس القضائي في أروقة المحكمة الدستورية عاودت الجمعية في 2016 رفع دعوة بهذه القضية إلى المحكمة الإدارية العليا، وصدر حكم المحكمة الإدارية بقبول الدعوة في 2 تموز/ يوليو 2020، وإعادة "آيا صوفيا" إلى طبيعتها ما قبل 1934 كمسجد.

بعض الآراء العربية الرافضة لهذا القرار صورت أن نتائج هذا القرار ستمنع دخول السياح الأجانب (غير المسلمين) إلى "آيا صوفيا"، بينما في الواقع أن هذا القرار فقط أعاد السماح للمسلمين بأداء الصلاة في هذا المبنى بعد إيقافها في 1934، إلى جانب الإبقاء على السماح لغير المسلمين بالدخول إليه وزيارة معالمه التاريخية.

لم يقتصر القصور في قراءة حيثيات قضية "آيا صوفيا" في العالم العربي على رافضي هذا القرار، بل هنالك بعض مناصري تركيا في العالم العربي الذين أبدوا تأييدهم لهذا القرار والرد على رافضيه، ولكنهم أهملوا استخدام الحجج التاريخية والقانونية والحوار الهاديء المتزن، الذي من شأنه دعم موقفهم المساند للقرار، ويصب في مصلحة تبيان عدالة هذه القضية، حيث اندفع بعض المؤيدين للقرار بالرد على رافضي القرار باستخدام الخطاب العاطفي الحماسي فقط، وتداولوا بعض العبارات الإستفزازية التي جعلت بعض المحايدين في هذه القضية يتحولون إلى الجانب الرافض لقرار إعادة "آيا صوفيا" كمسجد. ولكن بمرور الوقت آراء غالبية المؤيدين للقرار صارت أكثر نضجاً وتماسكاً، بحيث استطاعت تقديم آراء وحجج تتسم بالقوة والوضوح، وشهدت تغيراً نوعياً.

ان مواقف القنوات الفضائية والمنصات الإعلامية التابعة للدول المخاصمة لتركيا في العالم العربي من قضية "آيا صوفيا" واضحة المقاصد، ولا تحتاج إلى تحليل معمق للأسباب والدوافع، فهي تأتي ضمن سياق أجندات سياسية تستهدف تركيا باتت معروفة للجميع، كما أن آراء الجيوش الالكترونية التي تتبع تلك الدول حول هذه القضية، لا ينفع التوقف عندها وتمحيصها، لأنها لا تعكس رأياً مستقلاً بل هي حلقة من سلسلة مواقف عدائية مسبقة، ولكننا سنتوقف لاستطلاع خارطة المواقف واتجاهات الرأي العام في العالم العربي من قضية آيا صوفيا، من خلال ردود أفعال النخب الأكاديمية والثقافية والإعلامية، والتي يمكن تصنيفها بحسب المشارب الفكرية لتلك النخب، وكما يأتي:  

التيار القومي: غالبيتهم أبدوا تأييدهم لقرار عودة آيا صوفيا إلى وضعيتها السابقة كمسجد، وموقفهم هذا جاء منسجماً مع منطلقات المنظومة الفكرية للتيار القومي العربي، التي تحترم القضايا والرموز الإسلامية وتهتم بها، كثيراً من القوميين العرب ما زالوا يرون بأن الأمة الإسلامية هي الخيمة الكبرى والأمة العربية هي الخيمة الصغرى. كما أن تأييد بعض القوميين العرب لقرار إعادة آيا صوفيا إلى مسجد جاء نتيجة لمشاعرهم الغاضبة تجاه التهديد والمخاطر التي تحيق بالمسلمين ومقدساتهم في الوقت الحاضر، وبخاصة ما تواجهه مدينة القدس بعد القرار الأمريكي الأخير الذي اعتبرها عاصمة لإسرائيل، بوصف أن قضية فلسطين ما زالت تمثل القضية المحورية في الفكر القومي العربي. بالطبع هنالك نسبة من العرب المنتمين للفكر القومي أبدوا رفضهم لهذا القرار، وأوعزوا صدور مثل هذا القرار لوجود مشاكل وأزمات داخلية تواجه الحكومة التركية. من هؤلاء الرافضين للقرار من التيار القومي العربي من هم مرتبطين بمؤسسات إعلامية تتبع الحكومات العربية المخاصمة لتركيا في الوقت الحاضر، ومنهم من الذين ينتمون إلى الديانة المسيحية من الكتاب والإعلاميين العرب، والذين بدا واضحاً عندما بينوا رفضهم لهذا القرار، بأن مشاعرهم واعتباراتهم الدينية طغت على انتماؤهم الفكري الذي يفترض إنه عابر للأديان.

التيار العلماني: غالبية النخب العربية المنتمية لهذا التيار الفكري بينت رفضها لهذا القرار، ورأوا إنه يلحق ضرراً بالتعايش والتقارب بين المجتمعات الإنسانية المختلفة. المفارقة أن بعض العلمانيين العرب غالباً ما يقفون بالضد من أي جهود أو مساعي تنطوي على مضامين أو اعتبارات دينية، بدون وجود مسوغات حقيقية لرفضهم تلك المساعي، ربما فقط ليثبتوا لجمهورهم صدق انتمائهم للفكر العلماني.

التيار الإسلامي: معظم العرب المنتمين لهذا التيار الفكري دعموا هذا القرار بإخلاص تام لمبادئهم وقيمهم الفكرية، ووصفوه بأنه انتصاراً للإسلام، وبعضهم وجد في هذا القرار فرصة للنيل من خصومهم في الساحة السياسية العربية وانتقادهم على تفريطهم بقضايا المسلمين وحقوقهم. هنالك بعض الشخصيات الإسلامية العربية التي وقعت تحت ضغط حكوماتها المتخاصمة مع تركيا، مما اضطرهم لإعلان رفضهم لقرار الحكومة التركية بعودة أداء الصلاة في آيا صوفيا، في موقف يتناقض تماماً مع المرجعيات الفكرية لتلك الشخصيات.

المستقلين فكرياً، غير المنتمين فكرياً إلى إتجاه محدد: أغلب النخب العربية المصنفة ضمن هذا الإطار لم تخوض في هذه القضية ولم يعطوها اهتماماً كبيراً، فهم يرون بأن مجتمعاتهم العربية حالياً فيها من المشاكل ما هو أهم من قضية "آيا صوفيا"، وما هو أكثر مساساً بحياة الشعوب العربية.

المؤسسات الدينية في العالم العربي: هنالك من دعم هذا القرار بقوة، مثل مفتي سلطنة عمان أحمد بن حمد الخليلي، الذي أرسل رسالة تهنئة رسمية للحكومة التركية والشعب التركي بمناسبة عودة آيا صوفيا إلى وضعها السابق كمسجد، رسالة الخليلي تضمنت عبارات انتقاد قوية لرافضي هذا القرار، كما أن الخليلي وصف الرئيس التركي أردوغان في رسالته بـ"القائد المحنك". بالمقابل صدرت أصوات منفردة من المؤسسات الدينية العربية تحاول نقد القرار، لكنها لم تصل إلى حد بناء موقف مؤسساتي رسمي مناهض لهذا القرار، مثل "عباس شومان" الوكيل السابق لشيخ الأزهر، والذي صرح بأن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد "لا يتفق مع الإسلام"، تصريح شومان يبين بوضوح مدى الحرج الذي تواجهه بعض المؤسسات الدينية العربية بسبب الخلافات السياسية بين تركيا وبعض الدول العربية.

من اللافت للنظر أن حجم الجدل حول هذه القضية في الإعلام ومنصات التواصل الإجتماعي في العالم العربي، أكبر من حجمه بين الأتراك أنفسهم، تركيا كبلد ديمقراطي فيه معارضة سياسية للحكومة ولرئيس الجمهورية أردوغان، وهذه المعارضة أيضاً تبحث عن ثغرات لإنتقاد الحكومة التركية، ولكننا لم نشهد ردات فعل قوية من المعارضة حول قضية آيا صوفيا، مثل الذي شهدناه من الجمهور العربي، أسباب هدوء المعارضة التركية حول هذه القضية:

-ثقتهم بعدالة ونزاهة جهازهم القضائي الذي أصدر  قرار السماح باداء الصلاة في آيا صوفيا.

-وعيهم لحقائق التاريخ فهم يعلمون جيداً بأن آيا صوفيا كانت مسجداً لمئات السنين قبل قرار تحويلها الى متحف في عام 1934.

-هم يرون بأن قضية "آيا صوفيا" هي قضية وطنية، تهم جميع الأتراك، الموالين للحكومة والمعارضين، وهي لا تمس الأولويات المهمة للأتراك التي دائماً يجري الجدل بشأنها بين الحكومة والمعارضة، مثل (التعليم، الصحة، الاقتصاد، الأمن).

-ان هذا القرار لا يعني حدوث تغيير كبير في وظائف آيا صوفيا كمبنى، فحوى القرار الجديد هو السماح بأداء الصلاة في آيا صوفيا مع تجوال السياح الأجانب كالسابق، مثلما يحدث الان في مسجد السلطان أحمد في اسطانبول (المسجد الأزرق).

    قد يكون من المفيد تذكير العرب المهتمين بهذه القضية، بأن "آيا صوفيا" هو بناء يقع على أراضي تركية، وتركيا بلد ذو سيادة ولديها قانون وقضاء وبرلمان، ويحق لها التصرف على أراضيها بما ينسجم مع قوانينها ومصالحها، وهي تعي جيداً مسؤولياتها ونتائج خطواتها وقراراتها. كما أن الحكومة التركية الحالية تمثل الأغلبية من الشعب التركي بحسب نتائج آخر انتخابات، وأن هذه الأغلبية من الشعب التركي تدعم هذه الخطوة، وأن صانع القرار التركي ضمن روح الديمقراطية لابد له من الاستجابة لشعبه وجمهوره الذي يطالب بعودة أداء الصلاة في آيا صوفيا منذ سنوات، علماً أن المطالبة بعودة "آيا صوفيا" إلى وضعها السابق كمسجد لم تتوقف منذ سنة 1934، ومنذ مطلع خمسينات القرن الماضي هنالك شعار ظهر بوضوح في الشارع التركي يقول "سنكسر الأغلال عن آيا صوفيا في يوم ما".