العلاقات الجزائرية-المغربية: بين واقعية التطبيع الشامل وجدلية التوتر الدائم

تشهد العلاقات الجزائرية-المغربية هذه الأسابيع نوعاً جديداً من التراشق الإعلامي والتصعيد الدبلوماسي، هو الأكثر حدة منذ أول صدام بين البلدين خلال” حرب الرمال في تشرين الأول /أكتوبر 1963، عندما اغتنم المغرب فرصة صراع الزعامة والخلافات الايديولوجية داخل القيادة الجديدة الشابة للدولة الجزائرية المستقلة في عام 1962، فقامت القوات الملكية المغربية آنذاك باختراق الحدود الجزائرية من جهة جنوب غرب الجزائر في ولايتي تندوف وبشار. أدى ذلك الخرق الحدودي إلى زرع أول بذرة شقاق بين الدولتين، تحول إثرها توتر العلاقات بين البلدين الى قضية شخصية بين قادة الجزائر من جهة، وملك المغرب السابق الحسن الثاني من جهة ثانية.

  نزاع الصحراء والتأزم المستمر للعلاقات الثنائية بين البلدين
 ظهرت قضية الصحراء في عام 1975، الذي يعد تاريخاً مفصلياً في مسار توتر العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، نسف فكرة النظام التكاملي المغاربي واتحاد شمال افريقيا، الذي كان يحلم به الزعماء الثوريون في المنطقة المغاربية في الداخل والمهجر منذ بداية القرن الماضي. وقد توافق اندلاع صراع الصحراء، مع أوج سنوات الحرب الباردة؛ مما زاد من شدة التأزم بين الدولتين، إلى غاية فترة التهدئة والتعايش السلمي البارد بين البلدين ما بين 1988-1992، بعد "لقاء زرالدة" التاريخي بين الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد والملك المغربي الحسن الثاني في مدينة زرالدة الساحلية بالضاحية الغربية للجزائر العاصمة. وقد انعقد هذا اللقاء، بوساطة من العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز، وذلك بتزامن مع ترأس كل من دول الجزائر والمغرب والسعودية، للمبادرة العربية لحل أزمة الحرب الأهلية اللبنانية برعاية جامعة الدول العربية. يعد لقاء زرالدة بين الرئيس الشاذلي بن جديد والملك الحسن الثاني قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين، حيث عادت العلاقات الدبلوماسية بينهما، كما أعيد احياء مشروع اتحاد المغرب العربي في قمة مراكش عام 1989 .

لكن الجزائر دخلت بعدها في منعطف سياسي وأمني خطيرين، بعد فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية في كانون الأول / ديسمبر 1991 بأغلبية مريحة في الدور الأول. مما دفع القيادة العسكرية الجزائرية لإقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في 11  كانون الثاني / يناير 1992 وإيقاف مسار الانتقال السلمي للسلطة في الجزائر الذي أفرزته إصلاحات الرئيس الشاذلي بن جديد ودستور الجمهورية الثانية لعام 1989.

تاريخ 11 كانون الثاني /  يناير 1992، يعد محطة هامة أوشكت أن تغيّر مسار العلاقات الجزائرية-المغربية وتضع حداً للحرب الباردة بين البلدين،  فقد تم بعد اقالة الرئيس بن جديد وإعلان حالة الطوارئ؛ تعيين المجلس الأعلى للأمن لإدارة شؤون الجزائر، قبل المجيء بالرئيس محمد بوضياف ليصبح رابع رئيس للجمهورية الجزائرية، وهو أحد قادة ثورة التحرر الجزائرية، وكان أحد الركاب الخمسة للطائرة المختطفة من قبل سلطات المستعمر الفرنسي في عام 1956 التي أقلعت من المغرب متجهة إلى تونس.

لكن مجيء الرئيس بوضياف، لم يكن لتطبيع العلاقات الجزائرية-المغربية، بل كان لإضفاء الشرعية الـ"ثورية" على انقلاب 11 كانون الثاني /  يناير 1992  ضد الرئيس بن جديد والمسار الديمقراطي. لم تمر على الرئيس بوضياف الا أشهر معدودة في قصر المرادية (قصر الرئاسة الجزائرية)، حتى لقي حتفه اغتيالاً بمدينة عنابة في 29   حزيران/ يونيو 1992.

فرصة التطبيع الشامل بين البلدين
ظن التيار البراغماتي لمتتبعي العلاقات الجزائرية-المغربية، أن الرئيس الجزائري السابق بوضياف كان بإمكانه أن يجد صيغة توافقية لإنهاء معادلة التوتر الدائم بين النظامين وايجاد فرصة سانحة لحل نزاع الصحراء، كون الرئيس بوضياف كانت تربطه علاقات شخصية مع الملك الحسن الثاني، إضافة الى المكانة الرمزية والإرث الثوري الذي يتمتع بهما شخص الرئيس بوضياف لدى الطبقة السياسية والنخبة المعتدلة والرأي العام الجزائري.

 بعد اغتيال الرئيس بوضياف دخلت الجزائر في دوامة من العنف الأمني والاستقطاب السياسي الحادين، مما زاد في وتيرة التصعيد بين البلدين. وفي عام 1994 وإثر عملية مراكش الإرهابية، تم اغلاق الحدود البرية بين البلدين من جديد، لتدخل العلاقات بينهما مرة أخرى، إلى طريق مسدود، وتسير بعدها بين مد وجزر، على ايقاع أحداث تحكمها التحديات والعوامل السياسية الإقليمية والداخلية لكلا البلدين.

بعد وفاة الملك الحسن الثاني في عام 1999، الذي تزامن تقريبا مع شروع الجزائر في استرجاع مكانتها الإقليمية والدولية، بعد نهاية سنوات العنف السياسي والعنف المضاد، وبوصول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة للحكم في الجزائر عام 1999، أضحت هذه الفترة هي الأخرى محطة نوعية في الدفع بمسار جديد، وإحلال تعايش سلمي بين البلدين، حتى وان كان بارداً. وقد ساعد في ذلك، الإلمام الواسع للرئيس بوتفليقة بملف الصحراء المجمّد الساخن ومعرفته الجيدة بالنظام المغربي، حيث سبق له أن عمل كوزير للخارجية الجزائرية، وكان له دوراً في العمل على الاعتراف الدولي بالحدود الجزائرية وتنمية علاقة حسن الجوار مع البلدان المجاورة، كما عايش أحداث ملف الصحراء الشائكة وتفاعل مع انعكاساتها السياسية والأمنية على مستقبل العلاقات بين الجزائر والمغرب في السنوات 1975-1978.

إن تغيير المنظومة الحاكمة في الجزائر بعد إقالة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان / أبريل 2019، وانتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في كانون الأول/ ديسمبر 2019 جعل السياسة الإقليمية للجزائر تتبني مساراً جديداً يتماشى مع التحديات الإقليمية الأمنية للجزائر، في ظل الأزمة الليبية وعدم الاستقرار الأمني والسياسي في دول الساحل الافريقي، مما جعل النظام الجديد يتبنى عقيدة جديدة للجيش الجزائري، ويدرج مادة كاملة بخصوصها في دستور 2020 (المادة 31).

كانت حادثة "الكركرات" في خريف 2020 عندما وقعت اشتباكات مسلحة بين القوات الملكية المغربية وقوات جبهة البوليساريو في المنطقة المنزوعة السلاح والخالية من أي وجود عسكري بين الأطراف الثلاث (المغرب وموريتانيا وجبهة البوليساريو)، بمثابة نقطة مفصلية أخرى في مسار العلاقات الجزائرية-المغربية، فقد ترتب عليها تعزيز السلطات الجزائرية لقواتها العسكرية والعملياتية على جميع نقاط الحدود الغربية.

تلاها ملف تطبيع المغرب مع اسرائيل في شتاء 2021 الذي جعل الجزائر تشعر بتحد أمني على الجهة الغربية، فصحيح أن التطبيع المغربي مع اسرائيل كان سلوكاً دبلوماسياً عادياً، كون المسألة مسألة سيادية تتعلق بالمغرب، ويحق للدول أن تنشأ علاقات مع من تريد من الدول الأخرى، بحكم مبدأ المصالح والتحالفات بينها، لكن في مثل هذه الظروف والسياقات، كان هذا السلوك يعد مستفزاً للجزائر.

هل وصلت حدة التوتر بين البلدين إلى نقطة اللاعودة؟ 
كان ممثل المغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، قد وزع مؤخراً وثيقة على ممثلي الدول الأعضاء في منظمة دول عدم الانحياز، دعا فيها إلى ما سماه "حق تقرير المصير للشعب القبائلي"، وهي الحادثة التي تسببت في سحب الجزائر لسفيرها من المغرب، ومطالبة المغرب بتقديم توضيحات عن خطوة ممثلها في الأمم المتحدة، يضاف الى ذلك فضيحة برنامج التجسس "بيغاسوس"، مما يوحي بأن العلاقات الجزائرية-المغربية قد تكون فعلاً قد تجاوزت نقطة اللاعودة، بالرغم من سياسة اليد المدودة للمغرب، المتمثلة في المطالبة بفتح الحدود البرية مع الجزائر (المغلقة منذ عام 1994)، وبإعادة بناء العلاقات الثنائية المتأزمة، غير أن  الأمور تسير في طريق الانسداد، كما تبّين من تصريح الرئيس تبون خلال لقائه الأخير مع وسائل الإعلام الجزائرية، اذ لم يتجاوب مع العرض المغربي، الذي جاء في شكل مبادرة معزولة عن السياق العام للعلاقات المتوترة بين البلدين السائد حالياً.

أضيف إلى كل ما سبق، الأحداث الأليمة التي عاشتها مؤخراً ولايات شمال شرقي الجزائر وبعض ولايات وسط وشرق البلاد، جراء الحرائق التي حصدت آلاف الهكتارات من الغابات وأكثر من مائة ضحية، ليظهر معها عنصر جديد قديم في معادلة الصراع بين البلدين، الا وهو "الحركة الانفصالية القبائلية" MAK التي تتخذ من باريس مقراً سياسياً لها، وهي المنظمة التي صنفتها الحكومة الجزائرية بأنها إرهابية . كون هذه المنظمة دخلت على خط التوتر بين الجزائر والمغرب كورقة ضغط وعدم استقرار تستعملها الاستخبارات المغربية لإرباك الأوضاع في الجزائر، فهذا مؤشر آخر على نقطة اللاعودة، غير أنه من المهم التنويه، بأن الورقة العرقية في الجزائر قد باتت حدثاً عابراً "احترقت" في لهيب حرائق منقطة "القبائل"، ولم يبق لمشروع الحركة الانفصالية العنصرية تأثيراً كبيراً في المجتمع الجزائري.

في ظل هذه التطورات، قررت الجزائر إعادة النظر في علاقاتها مع المغرب، كما جاء في البيان الرئاسي الصادر عقب الاجتماع الاستثنائي للمجلس الأعلى للأمن الجزائري، الذي أعلن فيه أن الأعمال العدائية المتواصلة التي ترتكبها المغرب ضد الجزائر تتطلب إعادة النظر في العلاقات بين البلدين وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود الغربية. ويأتي ذلك بعد  أيام من تصريحات وزير خارجية اسرائيل "مائير لابيد" في الدار البيضاء خلال زيارته الرسمية للمغرب، بأن تحالفا جزائرياً-إيرانياً سيكون مقلقاً للمنطقة المغاربية. مما دفع الجزائر الى النظر حتى في إغلاق المجال الجوي الجزائري أمام المغرب وقطع جميع العلاقات بين البلدين.

الإعلان الرسمي  الأخير للجزائر عن قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب هو الثاني منذ إستقلال الجزائر، حيث جاء في تصريح  وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية للإعلام الجزائري: ”الجزائر كانت صبورة فيما يتعلق بالأعمال المغربية التي ادت لقطع العلاقات، فالجزائر برهنت انها قادرة على ان تصبر وتدق ناقوس الخطر لييس مع المغرب فقط. كنا نظن ان المغرب سيراجع سياسته الممنهجة وكنا نأمل ان يلتزم بالسلوك الايجابي“.

تبقى ورقة الغاز، الورقة الرابحة الأهم في يد الجزائر، وإصرار قيادتها الجديدة المدنية والعسكرية على حد سواء، على ان دبلوماسية اليد المدودة التي تستمر فيها المغرب، تبقى يداً قصيرة أمام حجم التهديدات الأمنية التي تواجهها الجزائر من كل الجبهات، فالحكومة الجزائرية الجديدة على عكس منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لا تؤمن بدبلوماسية الأقوال بقدر ما تؤمن بدبلوماسية الأفعال.

 مسألة الأزمة الجزائرية-المغربية عاملاً معرقلاً  أمام الدفع بعجلة التنمية في إطار تكاملي بين الجزائر والمغرب وهما بلدين محوريين في المنطقة، وبالتالي فان مصير استقرار المنطقة وازدهارها بات رهينة حسابات إقليمية من جهة، وإنشغالات أمنية من جهة ثانية، في حين تبقى شعوب المنطقة تعيش تحت كابوس البحث عن حياة أفضل  خارج بلدانهم.