العلاقات الجزائرية-الفرنسية: هل حان وقت القطيعة بين البلدين؟

لم يجف حبر أقلام محللي العلاقات الجزائرية-الفرنسية بخصوص التأزم المستمر بين البلدين، حتى اندلعت مرحلة جديدة من التوتر الدبلوماسي بين البلدين. توتر قد يدفع هذه المرة بالعلاقات غير الطبيعية بين الجزائر وباريس للانتقال من إدارة أزمة معادلة التوتر الدائم إلى القطيعة الحتمية. هذه المرة كان سبب توتر العلاقات بين البلدين قضية أُنتجت على طريقة سيناريوهات الكاتب البريطاني جون لوكاري، و"بطلته" المعارضة أميرة بوراوي، وهي ناشطة سياسية اشتهرت بجمعية "براكات/ كفاية" في عام 2014، كما كانت تنشط ضد ترشيح الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رابعة، ثم جاء الحراك الشعبي السلمي في شهر شباط / فبراير عام 2019، حينها سطع نجم السيدة بوراوي مع بعض الأسماء وأصبحوا يمثلون وجه هذا الحراك الشعبي السلمي لدى الإعلام الغربي عموما والفرنسي خصوصا. ولكن مؤخراً غادرت الناشطة أميرة بوراوي الأراضي الجزائرية بصورة غير شرعية، وأثار ذلك غضب الجزائر لوجود شبهات بوجود دور فرنسي في تلك الحادثة، مما دفع بالرئيس عبد المجيد تبون إلى استدعاء سفير بلاده لدى فرنسا "للتشاور"، ووصف الرئيس تبون مغادرة بوراوي الجزائر بتلك الطريقة بأنها "عملية إجلاء "سرية" تمّت بمساعدة دبلوماسيين وأمنيين فرنسيين!

مرّت أربع سنوات على الحراك الشعبي السلمي الذي أبهر المتتبع للشأن الجزائري على الصعيدين الإقليمي والدولي بخصوصيته السلمية، التي اتسمت بها مسيراته الأسبوعية على مدار إحدى عشرة شهراً كاملةً، إلى غاية انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون يوم 19 كانون الأول / ديسمبر 2019. لتنتهي بذلك قصة الحراك الشعبي السلمي الذي أسقط منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والذي كانت أميرة بوراوي تناضل بدورها من أجل اسقاطه.

السيدة أميرة بوراوي، طبيبة نسائية وناشطة سياسية ومقدمة برنامج براديو "آم / مغرب إميرجنت"، حكم عليها بالسجن لمدة عامين في الجزائر بتهمة الإساءة إلى تعاليم الإسلام والإساءة إلى رئيس الجمهورية. قضت جزءاً من عقوبتها بين شهري حزيران/ يونيو وتموز / يوليو عام 2020.

مرحلة الحراك والعراك
لقد غيّرت نتائج الحراك الشعبي السلمي لعام 2019 طبيعة ومسار العلاقات الجزائرية-الفرنسية، اذ كانت باريس طيلة عقدين من الزمن عرّابة أوليغارشية منظومة الرئيس الراحل وأخيه سعيد بوتفليقة. وبينما كانت باريس في المحطات الانتخابية السابقة، دائما من أوائل المهنئين بنتائج الانتخابات، حتى قبل صدورها في التلفزيون الرسمي، بل حتى قبل أن تأتي التهاني من عائلة الرئيس نفسه. وأما في هذه المرة فلم تأت مكالمة التهنئة من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الا بعد أكثر من أسبوعين من انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون.

لقد جاءت قضية بوراوي في وقت انتشر فيه التفاؤل بطي صفحة التوتر وفتح صفحة الانفراج في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، بعد حراك دبلوماسي كثيف في عام 2022 بين مسؤولي البلدين، حيث تكلل هذا الحراك بزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر. صاحبت هذه الزيارة أصداء إيجابية رغم الحذر من الجانب الجزائري. هذا الحراك الدبلوماسي بين البلدين جاء في ظل ظروف إقليمية ودولية متوترة، تمر فيها فرنسا بأزمة اقتصادية خانقة بسبب أزمة الطاقة الدولية الناتجة عن الحرب الروسية-الأوكراني، وانكسار دبلوماسي وعسكري فرنسي في المنطقة المغاربية والساحل الافريقي.

وقد قارن المحللون زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون للجزائر في صيف 2022 بزيارة الرئيس جيسكار ديستان للجزائر عام 1975 في شدّة الاحتراز والقيمة الرمزية، تبعتها زيارة رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيت بورن في الخريف الماضي، فضلاً عن زيارة وزير الداخلية الفرنسي جيرارد دارمنين للجزائر، ومن ثمة زيارة الفريق أول سعيد شنقريحة قائد الجيش الجزائري لباريس في شهر كانون الثاني/ يناير 2023، تم استقبال الفريق الأول شنقريحة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه، وكانت هذه الزيارة أول زيارة رسمية لقائد جيش جزائري إلى فرنسا منذ 17 عاما، وذلك تلبية لدعوة من نظيره الفرنسي الجنرال تييري بوركا. وكان القائدان الجزائري والفرنسي قد التقيا خلال زيارة ماكرون إلى الجزائر في آب/ أغسطس 2022 والتي أعادت العلاقات بين البلدين إلى مسارها الـ"طبيعي". وقد أتت زيارة الفريق الأول سعيد شنقريحة إلى فرنسا قبل زيارة مرتقبة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس في أيار/مايو المقبل.

بعد الحذر، هل وجب الحظر؟
ظنّ المتتبعون أن تلك الزيارات المتبادلة سوف تجسّد فعلا ما أتفق عليه في إعلان الجزائر المشترك بين البلدين، الذي نصّ على تعزيز التبادلات رفيعة المستوى بين البلدين وفق عقيدة جديدة قوامها الندّية، احترام سيادة الدولتين، والنأي عن سلوكات التدخّل في الشؤون الداخلية. استؤنفت العلاقات القنصلية بين الجزائر وفرنسا في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2022، وعاد منح التأشيرات إلى المواطنين الجزائريين إلى معدّله الطبيعي (كان قد خُفّضَ بنسبة 50% في أيلول/ سبتمبر 2021)، فضلاً عن انعقاد اجتماعات ولقاءات بين رجال الأعمال والمستثمرين من البلدين، بالأخصّ في مجالات الطاقة والتعليم والرياضة، وبرمجة لقاءات أخرى في المستقبل ضمن ما يعرف باللجنة الجزائرية-الفرنسية الاقتصادية المختلطة.

ولكن لماذا تحوّل هذا الحراك الدبلوماسي "الواعد" فيما بعد إلى حرب خطابات بين مسؤولي البلدين؟ ومن هي الجهة وراء حادثة بوراوي؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟

لم تتردد السلطات الجزائرية في التحرك السريع، حيث استدعت سفيرها بباريس للتشاور. وهذه هي الأزمة الثانية التي يواجهها سفير الجزائر الجديد بباريس، بعد أزمة حظر التعاون مع الحكومة الإسبانية عام 2022، حيث كان هو نفسه سفيراً للجزائر بمدريد عندما فرضت الجزائر حظر تجاري على الحكومة الإسبانية، وتعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، بعد تغيير مدريد موقفها من قضية الصحراء الغربية.

العلاقات الجزائرية-الفرنسية لم تكن يوماً ما طبيعية، ولا تحكمها مبادئ وأعراف الدبلوماسية التقليدية. فرنسا لم تهضم أبدا هزيمتها السياسية والعسكرية وإنهيار الإمبراطورية الفرنسية في جبال الأوراس والونشريس والأطلس البليدي، وإعترافها بإستقلال الجزائر عام 1962، وبالتالي الدولة الفرنسية مستمرة بكل إصرار في حالة نكران، ومعها النخب الفرنسية من السياسيين والإعلاميين، بخاصة من أحزاب اليمين واليمين المتطرف وجماعة الحنين للجزائر“الفرنسية" Algeria-France nostalgic clans . هذه الجماعة فرضت تعيين النائب البرلماني جوزي ڤنزالز من الحزب اليميني المتطرف "حزب التجمع الوطني الفرنسي - حزب آل لوبان-" في لجنة الـ"صداقة" الجزائرية-الفرنسية، هذا النائب محسوب على تيار الحنين للجزائر"الفرنسية"، كون هذا الشخص ولد وعاش بمدينه وهران الجزائرية. هذه الجماعة/ التيار لم تتقبل منطق الندّية الذي وضعته الجزائر كشرط في تعاملها مع فرنسا من جهة، وانعدام عامل الثقة من قبل التيار الوطني الثوري بالجزائر تجاه فرنسا بسبب تعنّت وغطرسة الجهات السابق ذكرها من جهة ثانية.

وجود هذا البرلماني العنصري الحاقد على الجزائر المسلمة المستقلة في هذه اللجنة مثلا، قد يصعّب من تفكيك لغز قضية أميرة بوراوي، والتي لا تمثل الا مجرد عنصر آخر من المعادلة. هذا ردا على من يظن أن الرئيس إيمانويل ماكرون لم يكن على علم بحادثة بوراوي. إذا كان ماكرون شخصياً لم يكن على علم وهذا أمر وارد، لكن كادر الكيدورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية) وكذلك مستشاريه في قصر الإليزيه (مقر الرئاسة) وأجهزة المخابرات الخارجية الفرنسية La DGSE كانوا على إتصال مع بطلة سيناريو جون لوكاري.

رغم أن الرد الجزائري قد أتى هذه المرة بلغة قوية، بما دفع بالمتتبع للعلاقات الجزائرية-الفرنسية للحديث عن قرار الجزائر عام 1967 مع واشنطن، حين إعلان الرئيس الراحل هواري بومدين قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، بسبب دعم واشنطن لإسرائيل في حرب 5 حزيران / يونيو 1967. وقد دامت تلك القطيعة سبع سنوات، ثم استأنفت العلاقات بين البدلين عام 1974 من جديد.

هل سيفعلها الرئيس تبون مع فرنسا كما فعلها الرئيس هواري بومدين مع أمريكا؟
عرفت الدبلوماسية الجزائرية فترة فتور وتراجع على الساحتين الإقليمية والدولية لأكثر من عقدين، جعل المتتبع للسياسة الخارجية الجزائرية يتساءل عن أسباب هذا الركود الدبلوماسي. ولكن يبدو في الوقت الحاضر أن الدبلوماسية الجزائرية اخذت نهجًا جديدًا، ومحددات جديدة قابلة للتّكيف مع ضرورات المنطقة والدفاع عن مصالحها وأمنها القومي، بخاصة في مرحلة ما بعد الموجة الثانية للثوارت العربية في عام 2019.

على عكس التوقّعات التي رجّحت مزيداً من التهدئة وابتعاداً عن منطق التوتر والتشنج الذي ساد العلاقات بين الجزائر وباريس إثر أزمة تشرين الأول/ أكتوبر 2021، يتّجه منحى العلاقات بين الجزائر وفرنسا نحو التصعيد منذ حادثة بوراوي، قياساً إلى ردّ فعل الرئاسة الجزائرية التي استدعت سفير الجزائر لدى باريس للمشاورة، فكان رد باريس بعيدا عن تحاليل المتتبعين. اذ قرّرت فرنسا إحالة سفيرها الحالي في الجزائر على التقاعد وشطبه من سلك الخارجية، اعتبارًا من تاريخ 31 آب/ أغسطس القادم، بحسب موقع وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية بتاريخ 17 شباط/ فبراير 2023. 

وفي هذا السياق، لا يجب أن نغفل أنّ حادثة بوراوي وانعكاساتها على تطور العلاقات بين الجزائر وباريس، جاءت مباشرة بعد الزيارة الأخيرة لقائد أركان الجيش الجزائري الفريق الأول سعيد شنقريحة إلى فرنسا، والتي يبدو أنّ مخرجاتها جاءت في صالح الجزائر وحساباتها الجيوسياسية، مغاربياً وفي منطقة الساحل الأفريقي، كما تحدثت أنباء صحفية عن أن حالة الإرباك التي أصابت المخابرات الفرنسية بعد رفض الجزائر عرض فرنسي لشراء مقاتلات الرافال. وإن كان هذا الخبر صحيحا إن حادثة أميرة بوراوي توصف باللاحدث. ولا داعي للطرف الجزائري أن يغضب من باريس، جزائر اليوم يريدها شعبها وقيادتها قوية مستقلة، إذا كان سلوك الجزائر تغيّر وأصبح يربك الدولة الفرنسية التي تشهد حالياً أزمة ثلاثية الأبعاد: إقتصادية، جيو-سياسية، وهوياتية، وأخرى سياسية تلوح في الأفق.

 أنّ صرامة رد فعل الجزائر تجاه هذه المشكلة، هو دليل على أن الجزائر اليوم ترفض الإستفزاز والابتزاز، والضغط بورقة المعارضين مزدوجي الجنسية والترويج لهم، أنهم معارضون على نموذج المعارضة الكوبية بميامي والمعارضة الفنزويلية ببوسطن.

أخيرا، على فرنسا أن تصحح مسارها وتعترف بأن جزائر اليوم، ليست بجمهورية الموز أو بورتو ريكو، بل هي دولة ذات سيادة، ومن حق الجزائر أن تمضي في حماية مصالحها الوطنية وأمنها القومي باستخدام فن السياسة الحديث وطريقة الدبلوماسية التي تسمح لها بأن تكون بلدا فاعلاً ومؤثرا في الساحة الإقليمية والدولية، من خلال سياستها الخارجية المتوازنة.

بالتالي يمكن لجزائر اليوم أن تستمر في تطبيق عقيدة سياستها الخارجية الثابتة التي تستند على عدم التدخل في سياسات الدول، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تنسيق كامل بين القنوات الرئيسية لصناعة القرار في السياسة الخارجية في البلاد، والتي تتسع في الوقت الحاضر، لتشمل إستراتجية شاملة في سياسة الطاقة، التي أصبحت محددا للسياسة الخارجية الجزائرية، حيث إن الغاز يمثل بالنسبة للجزائر قوة استراتيجية ودبلوماسية وسياسية، هذا ما لوحظ مؤخرا في التقارب الإستراتيجي الجزائري-الإيطالي، والأزمة الدبلوماسية الجزائرية مع إسبانيا، وتغيير السياسة الجزائرية للرئيس إيمانويل ماكرون في عهدته الثانية، والذي كان فيها ملف الغاز أهم نقاط سياسة تلطيف الأجواء بين البلدين.

لكن في الوقت نفسه الدبلوماسية هي بحاجة إلى دبلوماسيين يتمعتون بالمهارة والكفاءة، لكي تستطيع أن تحافظ على مصالحك وتحترم سيادة شركائك.