سوسيولوجيا التباعد الاجتماعي خلال جائحة الكورونا

 

انتجت ازمة كورونا الصحية واقعاً اجتماعياً جديداً في العالم تضمن ارساء تباعد اجتماعي في العلاقات اليومية، كما انتج تأثيراً عميقاً في البنى الاقتصادية من حيث التوقف شبه الكلي في منظومة الانتاج الوطنية. الواقع الانتقالي الذي افرزته أزمة كورونا دفعت الى تراجع ظواهر سوسيولوجية وبروز ظواهر اخرى لعب الاعلام الجديد –وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً-دوراً محورياً في انتاجها ونشرها. لقد اصبحت الازمة الصحية العالمية واقعاً عالمياً يختلف عما سبقه، وبدات سلوكيات جديدة تظهر في المجتمع الجزائري والمجتمعات العربية نتيجة للتحول القسري في نمط التفاعل الاجتماعي والتضامن الشعبي.

جائحة كورونا وسياسية التباعد الاجتماعي
مع تفشي وباء كورونا اتخذت السلطات في الدول العربية قراراً بإرساء تباعداً اجتماعياً قسرياً تبعا لتوجيهات منظمة الصحة العالمية، هذا التباعد انتج واقعاً سوسيولوجياً جديداً يرتبط بتحقيق توقف مؤقت في انماط التفاعل الاجتماعي "الاعتيادية". يشير مصطلح التباعد الاجتماعي أو التباعد الجسدي أو التباعد لأسباب صحية إلى بعض تدابير مكافحة العدوى غير الصيدلانية التي يتخذها مسؤولي الصحة العامة لوقف أو إبطاء انتشار مرض خطير جداً معدي، مثل الأمراض المعدية الناشئة التي تستوجب إلى إبعاد الأفراد عن بعضهم البعض.

الهدف من التباعد الاجتماعي هو تقليل احتمالية الاتصال بين الأشخاص المصابين بالعدوى وغيرهم من الأشخاص غير المصابين ، وذلك للحد من انتقال الأمراض والوفيات مما يساهم في الحد من المخاطر الصحية[1]. وهناك من يرى في اجراءات التباعد الاجتماعي بانها " جميع تدابير الصحة العامة التي ينفذها السكان للحد من الاتصال الجسدي المباشر وغير المباشر بين الأفراد وبالتالي وقف انتشار الأمراض المعدية"[2]. هذه الظاهرة الجديدة انتجت انماطاً أخرى من الاتصال تتسم بالعمق والقوة هي الاتصال الافتراضي الذي عمم ادوات التفاعل اللا مباشر بين الناس في العالم.

لكن اجراءات العزل الصحي والبقاء في البيوت ليس بالقرار السهل على المجتمعات وليس من السهل تطبيقه دون انتاج ردود فعل مجتمعية: "ان البقاء في البيت يبقى الحل الوحيد أمام الجائحة الراهنة، لكنه يدعم اللامساواة ويؤجج الغضب الشعبي، ويمكن أن يؤدي إلى احتجاجات و تمردات؛ لأن تفعيله إشكالي وليس بالأمر الهين. فالبقاء في البيت، لا يمكن أن ينجح في الدول الفقيرة، إلا إذا تم إقناع وإشراك الشرائح الاجتماعية الفقيرة بذلك المسلسل وفيه. فتلك الشرائح تكسب قوتها يوميا وبشكل غير منتظم بفضل نشاطها داخل اقتصاد غير مهيكل؛ معنى ذلك أن مطالبة أفراد تلك الشرائح بالبقاء في البيت يعني منعهم من العمل ومن البحث عن الكسب اليومي. فهل كل الدول الفقيرة قادرة على سد هذه الثغرة؟ هل تستطيع كل تلك الدول إعانة كل مواطنيها الفقراء المتواجدين خارج الاقتصاد المهيكل من أجل الاعتزال في البيت؟ [3]

لقد اتضح ان التباعد الاجتماعي والعزل الصحي أظهرا - ايضاً - نوع من الاشكاليات في التكفل بالفئات الهامشية والتي لا تملك الدخل الكافي لإعالة نفسها، وهنا ايضاً يتضح ان وباء كورونا لم ينتج نفس اساليب وقدرات التكفل بالمواطنين في العالم. فالدول التي تملك مناعة اقتصادية بإمكانها تخصيص مليارات الدولارات للتخفيف من وطأة الجائحة، على عكس المجتمعات التي تسمى نامية –أو في طريق النمو- والتي تعاني اصلاً من مشكلات متعددة في بنياتها الاجتماعية والاقتصادية، اضافة الى ضعف التوافقات السياسية داخلها وهو ما يؤثر على نوعية الجهود الجماعية لمكافحة الوباء.

جائحة كورونا و اللاتكافؤ العالمي في مواجهة آثاره
ان دول المركز –والتي تخص الدول القوية اقتصادياً-التي تقود العالم والمجتمعات ما تحت المركز والتي تسير في طريق النمو العالمي لديها من الامكانات التي تجعلها تخفف الى اقصى الدرجات التأثيرات الاقتصادية  للجائحة. وعلى الرغم من ذلك فان منظومتها الايدويولوجية الليبرالية قد تكبح اندراجها الكلي في تعميم مستويات التكفل، على عكس دول مثل الصين التي تتبنى منظومة ايديولوجية تضامنية تستمد اسسها من الاشتراكية والتضامن داخل المجتمع.

تأتي للدول التي لا تملك الامكانات الكافية للتصدي لهذه الأزمة ستكون جدا متاثرة بتبعاتها لأنها حتى اذا ارادت التكفل الاجتماعي بالفئات المهمشة او الفئات الهشة فإنها لا تستطيع فعل الكثير، بحسبان ان اقتصادياتها ضعيفة، لذلك فهي اما ستلتزم بقرار الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي لأكبر فترة ممكنة حتى يزول الوباء وهنا نكون امام سيناريو تفكك البنية الاقتصادية وازدياد مستويات الفقر وهو ما قد يؤدي الى ثورة اجتماعية وثورة ضد تلك الاجراءات.

أو نكون امام سيناريو مختلف تماما وهو التخفيف الجزئي لمستويات الحجر مما سيساعد اصحاب المهن بممارسة نشاطاتهم، وهو ما سيؤدي الى ارتفاع في معدلات الاصابات داخل المجتمع من الوباء وهو ما يقود ايضا الى تعرضها الى انتقادات قوية من الفئات الاجتماعية المختلفة لأسلوب ادارتها للازمة وتعريضها المجتمع للخطر.

تُشير سيكولوجيا الأوبئة إلى وجود طبيعة مزدوجة للسلوك الإنساني، حيث يغلف بقشرة من العقلانية تُخفي اتجاهات و تحيزات لا منطقية. وفي الأوقات الطبيعية، يتمكن غالبية البشر من الحفاظ على قدر من العقلانية بطريقة أو بأخرى، غير أنه في الأزمات تأخذ اللا عقلانية بزمام الأمور، ويدفع الخوف والقلق والارتياب الفرد نحو سلوكيات متناقضة غير منطقية تشبه في بعض الأحيان مطاردة الساحرات، ويستعيد الفرد نمطًا أشبه بالحياة البدائية غير المتحضرة التي تحركها المشاعر والاحتياجات البدائية حتى تسيطر على الفرد تماماً.[4]

لقد تعرضت الحكومات في العالم لورطة حقيقية نظرا لتغييب استراتيجيات التوقع و الانفاق اكثر فأكثر على البحث العلمي والرفع من مكانة العلماء والباحثين في المجتمعات. و الازمة تكون أكثر عمقا في الدول العربية حيث يتم تهميش العلوم الاجتماعية و الانسانية، وحتى الانفاق على البحث العلمي في العلوم التقنية والطبية لم يتمكن من تحقيق اكتشافات ذات معنى.

نظرة نحو المستقبل
ان صدمة وباء كورونا اعادت الوعي الجماعي العالمي الى نقطة الانطلاق وهي ضرورة التفكير في الانسان بمنظور اكثر انسانية.

ان طغيان التقنوية الزائدة على حياة البشر زعزعت منظومات القيم الجماعية التقليدية وولدت تباعداً اجتماعياً فردياً حتى قبل ازمة كورونا.

ان طغيان الفردانية ونمط الحياة المرتكز على الحياة الخاصة مقابل الحياة الجماعية اظهرت الان في هذه الازمة ان مستويات التضامن الاجتماعي في العالم يحتاج الى اعادة نظر وتفكير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء السياسة.

ان التباعد الاجتماعي المفروض في هذه الاونة هو فرصة للإنسانية الى اعادة التفكير في نفسها من جديد و اعادة ترتيب اولوياتها الحياتية.

 


[2] -distanciation sociale, http://gdt.oqlf.gouv.qc.ca/ficheOqlf.aspx?Id_Fiche=26557739

[3]عبد الصمد الديالمي، سوسيولوجيا جائحة الكورونا، مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث

https://www.mominoun.com/articles/%D8%B3

[4]هالة الحفناوي "سيكولوجيا الأوبئة":ماذا يحدث للمجتمعات عند تعرّضها لوباء مفاجئ؟

https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5379