زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون للجزائر: الأجندة والأهداف!

حظيت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل يومين للجزائر باهتماماً خاصاً، حيث تأتي هذه الزيارة في ظل تحولات جيو-سياسية وإقتصادية مهمة، على الصعيدين الدولي والإقليمي. من المتوقع أن تتم مناقشة عدة ملفات خلال هذه الزيارة، تتراوح بين الطاقة والهجرة غير الشرعية ومسألة "الذاكرة الوطنية" والإرشيف الجزائري في فرنسا والتأشيرة بالنسبة للجزائريين الراغبين السفر إلى فرنسا، فضلاً عن الملفات الإقليمية والدولية المهمة. هذه ثاني زيارة للرئيس ماكرون إلى الجزائر منذ دخوله قصر الإيليزي في شهر مايو/ أيار 2017. يرافق ماكرون في هذه الزيارة وفد كبير، يضم عدد من الوزراء، كوزير الاقتصاد ووزير الداخلية جيرالد (موسى) دارمانان الذي ينحدر والده من أصول جزائرية، ووزيرة الشؤون الخارجية، وشخصيات مدنية وثقافية ودينية. مما يدل على أنها زيارة تهدف لإعطاء زخم جديد للعلاقات بين البلدين، بخاصة ان علاقاتهما تشهد نوعاً من البرود في الأونة الأخيرة.

عرفت العلاقات الجزائرية-الفرنسية خلال العهدة الأولى لماكرون فترة فتور إلى حد القطيعة بسبب الوضع السياسي الذي عاشته الجزائر في عام 2019، والذي أدى إلى سقوط منظومة الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة،  ووصول قيادة جديدة للحكم أقل توّدداً وتقارباً من فرنسا. على عكس علاقة الأوليغارشيا الجزائرية وبعض النخب السياسية في عهد منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة مع إدارة الرئيس ماكرون.

 أجندة الزيارة
تحمل هذه الزيارة آمالا جديدة لفرنسا في ظل أزمة الطاقة التي أفرزتها الحرب الروسية-الأوكرانية القائمة؛ باتت تداعياتها السلبية تهدد القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي بخاصة، والأوروبيين بعامة. أوروبا اليوم تعاني نقصاً في إمدادات الطاقة، مثل ألمانيا، أو إسبانيا التي تعيش أزمة دبلوماسية مع الجزائر بعد تغيير مدريد موقفها بشأن ملف الصحراء الغربية، وتأمل مدريد أن تكون زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر مساهمة في إقناع الطرف الجزائري في إعادة تلطيف العلاقات مع مدريد - بحسب تقارير إعلامية فرنسية. من المعتقد أن ماكرون لن يتطرق إلى قضية العلاقات الجزائرية الاسبانية بشكل مباشر، لحساسيتها بالنسبة للجزائر.

هنالك ملفات جيو-سياسية إقليمية أخرى مرشحة لطرحها وتداولها في هذه الزيارة. على رأسها الأزمة الأمنية في جمهورية مالي، واحتمال طلب فرنسا من الجزائر أداء دور الوسيط في الإفراج عن الصحفي الفرنسي أوليفييه دوبوا، المخطوف في مالي منذ سنة ونصف. ايضا هنالك القضية التونسية، ومحاولة إيجاد حل للانسداد السياسي الذي تشهده تونس منذ سنة. الوضع الأمني والسياسي في ليبيا؛ فضلا عن ملفات أخرى تتعلق بالجالية الجزائرية في فرنسا وأزمة التأشيرات بين البلدين والهجرة غير الشرعية.

من التوتر إلى الانفراج
طبيعة العلاقات بين فرنسا والجزائر في فترة ماكرون الرئاسية الأولى كادت أن تصل إلى مرحلة يتم فيها تعريفها بـ"فترة شبه القطيعة". على سبيل المثال، أخذ ماكرون وقتاً طويلاً حتى يهنيء الرئيس عبد المجيد تبون بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الجزائرية في كانون الأول / ديسمبر 2019 ، هنئه بعد أكثر من أسبوع.

الرئيس تبون تم انتخابه في ظل أوضاع سياسية وأمنية مقلقة عاشتها الجزائر، كان مخاضاً صعباً بعد الحراك السلمي الذي أنهى عقدين من حكم منظومة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. كان موضوع "الذاكرة الوطنية" ومحاولة الجزائر إستعادة إرشيفها من فرنسا، من أهم المواضيع التي ساهمت في توتر العلاقات بين الجزائر وباريس. هذه القضية تتعلق بفترة الاستعمار والسياسات القمعية التي قامت بها فرنسا في الجزائر، وهي قضية معقدة بسبب حساسيتها لكلا الطرفين واختلاف تقييمهما لتلك الفترة، الجانب الجزائري يركز على وجوب اعتذار فرنسا عن تلك الحقبة، وفرنسا تكتفي بالاعتراف بأخطاء تلك الفترة، فضلاً عن تصريحات ماكرون عن تاريخ الأمة الجزائرية، التي فيها وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، والتي أدت قيام الجزائر بسحب سفيرها من باريس. ان الحل المثالي لحل مشاكل مثل هذه القضايا التاريخية، هو ترك تقييمها وإصدار الحكم بشأنها للأكاديميين والمؤرخين النزيهين وذوي الاختصاص.

العلاقات الجزائرية-الفرنسية في عهد ماكرون كان يتوقع لها أن تشهد قفزة نوعية، كون ماكرون يعد من الجيل الفرنسي الثالث، بالنسبة للفرنسيين الذين عاصروا ثورة التحرير الجزائرية، الثورة التي لم تعترف بها فرنسا في مناهجها الدراسية حتى عام 1991. كما أبدى ماكرون خلال حملته الانتخابية الأولى عن نواياه "الحسنة" عندما زار الجزائر في شتاء عام 2017، حيث صرّح من الجزائر بخصوص الأرث الفرنسي الاستعماري وقال بأن "الاستعمار ارتكب جرائم ضد الإنسانية"، وأقرّ بعدها الرئيس إيمانويل ماكرون بمسؤولية بلاده عن إقامة نظام تعذيب الجزائريين خلال فترة الاستعمار التي انتهت بحرب تحرير كامل التراب الوطني واسترجاع السيادة الوطنية عام 1962، واعترف ماكرون رسمياً بأن الدولة الفرنسية سمحت باستخدام التعذيب خلال حرب 1954-1962 في الجزائر.  

قبل ماكرون، زار العديد من الرؤساء الفرنسيين الجزائر بعد استقلالها، بخاصة زيارة الرئيس جيسكار ديستان التاريخية عام 1975، التي حدثت آنذاك في بيئة دولية وإقليمية متوترة، تشبه كثيراً بيئتنا الحالية، فقد كانت تلك الزيارة بعد حرب أكتوبر/ تشرين عام 1973، وصدمة النفط العالمية، ودور الجزائر الريادي آنذاك في منظمة دول عدم الانحياز وفي الإقليم بشكل عام، مكانة الجزائر حالياً تقترب من مكانة الجزائر في تلك المرحلة. عقيدة الدبلوماسية الجزائرية الحالية تسير على نفس خطى ومبادئ دبلوماسية الرئيس الراحل هواري بومدين ووزير خارجيته النشط عبدالعزيز بوتفليقة. الرئيس عبد المجيد تبون استطاع مع وزيره لشؤون الخارجية والجالية بالخارج أن يقيما نموذج يستند على مبدأ رابح - رابح و تنوّع الشراكة مع القوى الإقليمية والدولية، ولا سيما تركيا وإيطاليا وروسيا والصين.

الاقتصاد سيكون حاضراً في الزيارة بقوة
من المتوقع أن تشمل زيارة ماكرون للجزائر التطرق إلى ملف الشباب والتعاون الاقتصادي بين البلدين، خاصة الدفع بعجلة التنمية الإقتصادية الرقمية وتقديم الخبرة والمساعدات للشركات الجزائرية الناشئة من الشركات الفرنسية. فرنسا بدأت تقلق بجدية من احتمالية ضياع امتيازاتها الاقتصادية في الجزائر، كون حجم المبادلات التجارية بين البلدين أنخفض بنسبة 60% حسب وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، نسبة المبادلات لعام 2021 وصلت إلى 7.95 مليار يورو، منها 3.6 مليار يورو صادرات فرنسية إلى الجزائر و 4.3 مليار يورو صادرات الجزائر إلى فرنسا (الجزء الأكبر منها صادرات طاقوية). أصبحت الجزائر، بفضل احتياطياتها الكبيرة من الغاز الطبيعي، محور اهتمام الاتحاد الأوروبي و من ضمنها فرنسا، بعد عزم الأوروبيين خفض واردات الطاقة من روسيا. هذا ما سيوضح لنا الهدف الرئيس من زيارة ماكرون للجزائر في هذا الوقت بالذات.

بالطبع هنالك قضايا مهمة أخرى بين البلدين غير الطاقة،  كموضوع الهجرة غير الشرعية التي طالما ما يجعلها وزير الداخلية الفرنسي ذو الأصول الجزائرية جيرارد (موسى)  دارمنان من أهم أولياته. أيضا هنالك قضايا إقليمية على غرار الوضع في الساحل الإفريقي بعد فقدان سيطرة فرنسا لنفوذها السياسي والعسكري في كل من مالي وبوركينافاسو لصالح روسيا وتركيا. الجزائر بوصفها وسيط موثوق به لدى السلطات في كل من مالي وبوركينافاسو والتشاد، مؤهلة لأداء دوراً فاعلاً في مسار المصالحة السياسية في مالي والتشاد.

 إلا أن فرنسا تبقى حريصة على الدفاع على نفوذها الثقافي المتوغل في المجتمع الجزائري وخاصة لدى الطبقة الوسطى المثقفة، تعتبر باريس اللغة الفرنسية أداة نفوذ ثقافي يعزز نفوذها السياسي والاقتصادي في الجزائر، وإن كانت اللغة الفرنسية ليست لغة رسمية في الجزائر، لكنها أيضا ليست غريبة تماماً، تستغل باريس هذه النافذة للتأكيد على "ادعائها" بأن الجزائر لا تزال "حديقتها الخلفية"، لحماية مصالحها و نفوذها في الجزائر خصوصا وأفريقيا عموماً.

ختاماً، إن مكانة فرنسا لم تعد كما كانت في السابق من حيث التأثير، الواقع كشف تراجعها على الساحة الإقليمية والدولية لمصلحة قوى إقليمية صاعدة، مثل التصاعد الحالي لنفوذ الصين وروسيا وتركيا في أفريقيا. فرنسا ليست كفرنسا الاستعمارية السابقة، ولا الجزائر كالجزائر السابقة التي كانت ترزح تحت الاستعمار الفرنسي. لذلك يجب أن تكون العناوين الرئيسة للعلاقات بين البلدين: الصداقة والشراكة والإحترام المتبادل.