هيئة تحرير الشام بين الانشقاقات والسيناريوهات المستقبلية المتوقعة

سيطرت هيئة تحرير الشام على إدلب في منتصف 2017، مما دفع الفصائل المعتدلة الأخرى لمغادرة المنطقة، وبعد ذلك سعت الهيئة لتثبيت حكمها من خلال حكومة الإنقاذ التي أسستها، لكن بين الفينة والأخرى كان يظهر انشقاقات عن الهيئة من طرف بعض ما يسمى "القضاة الشرعيين" والقيادات التابعة لهذا التنظيم، فماهي الأسباب التي تدفع لذلك ومن هم أهم المنشقين.

  •  أسباب الانشقاقات:

  تختلف أسباب الانشقاق عن الهيئة من شخص لآخر، وحسب خلفية الشخص ومكانته في الهيئة، ويمكن حصر بعض تلك الأسباب على الشكل التالي:
- الخلاف على السيطرة والنفوذ داخل الهيئة.
- قلة اهتمام الهيئة بالشعارات الجهادية وكسب الأنصار في الفترة الأخيرة، وخاصة أن الهيئة بدأت تعرض نفسها ليكون لها دور في مستقبل المنطقة.
- تغير الهيئة وهيكليتها، حيث أصبحت أشبه بشركة إدارية واقتصادية فقط، تدير بعض المعابر وبعض المنظمات وحكومة موالية لها.
- مطالبة الهيئة بإسقاط اسمها من قوائم المنظمات الإرهابية، لذلك تحاول إبعاد الصفة الجهادية عنها، وتحاول أن تظهر نفسها على أنها جزء من الشعب السوري ومكوناته.
-  العلاقة مع تركيا، والموقف من الاتفاقات الأخيرة، ومسألة فتح الطرق الدولية، والدوريات التركية الروسية المشتركة.
- ظهور فيروس كورونا، والقرارات التي تم أخذها من حكومة الإنقاذ لمنع انتشار الفيروس وخاصة إغلاق المساجد.

 أهم المنشقين عن الهيئة:
- أبو اليقظان المصري
: جاء لسوريا مطلع 2013، وعمل كشرعي في صفوف حركة "أحرار الشام الإسلامية"، وفي أيلول 2016 أعلن انشقاقه عن "أحرار الشام" وانضم إلى "هيئة تحرير الشام"، وأفتى بجواز قتل مقاتلي أحرار الشام خلال القتال مع الهيئة، ثم أعلن استقالته من الهيئة في شباط 2019، بعد إدانته وإنذاره، لكنه تذرع بتساهل الهيئة في بعض القضايا لتسويق نفسها إقليمياً لتخفيف الضغوط عنها.

- طلحة الميسر (أبو شعيب المصري): نُشِرَ في تموز 2019 بيان بفصله لمخالفاته المتكررة لسياسات الهيئة.

- عبد الله المحيسني: سعودي من القصيم، وكان عضو في اللجنة الشرعية بهيئة تحرير الشام، وأعلن استقالته من الهيئة في أيلول 2019.

- مصلح العلياني (أبو خالد الجزراوي): سعودي الجنسية، وعضو سابق في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ثم انتقل لسوريا وانضم للنصرة وصار شرعياً لها، ثم استقال منها في أيلول 2017.

- أبو العبد أشداء: انضم لهيئة تحرير الشام بعد انشقاقه عن حركة أحرار الشام نهاية عام 2016، وكان قد شارك بكل معارك الهيئة مع النظام أو مع الجيش الحر، ونشر في أيلول 2019 تسجيل مصور اتهم فيه الهيئة بالفساد المالي والإداري، فاعتقلته الهيئة، وفصلته، وأحالته للقضاء العسكري التابع للهيئة قبل إطلاق سراحه في 30 كانون الثاني 2020.

- أبو مالك التلي (جمال زينية): من بلدة تل منين في ريف دمشق، وكان يعمل بالتهريب قبل الثورة، ثم اعتقله النظام، وحكم عليه بالسجن 20سنة، وبعد بدء الثورة أُطلق سراحه بالعفو الرئاسي بعدما أمضى 7 سنوات في السجن، وأصبح أميراً لجبهة النصرة في القلمون الغربي، ثم انتقل لإدلب بعد اتفاق حزب الله مع الجبهة سنة 2017 ، وعُرف التلي في وسائل الإعلام سنة 2014 خلال أزمة راهبات كنائس معلولا، واللواتي أسرتهن جبهة النصرة، وأطلق سراحهن بعد ذلك بعد صفقة مع النظام، ، ويحظى التلي بتأييد في صفوف تحرير الشام، وخاصة من عناصر كتيبته التي قدمت معه من القلمون، ومجموعات أخرى من الغوطة في ريف دمشق، وهم لايخفون رغبتهم في أن يتولى التلي قيادة الهيئة.

 يبدو أن انشقاق التلي كان لعدة أسباب، ومنها كما أعلن هو "عدم علمه ببعض سياسات الجماعة أو عدم قناعته بها"، ومنها اعتراضه على قرار حكومة الإنقاذ بتعليق صلاة الجماعة في ادلب لمنع انتشار فيروس كورونا، أو خلافات مع مقربين من الجولاني، حيث ترددت أخبار عن خلاف مع القيادي "مظهر الويس" حول ملف العدل وتعيين قاضٍ يأتمر بأمره، وتهميشه بالفترة الأخيرة، بالإضافة إلى ما أعلن عنه "التلي" من رفضه للاتفاق الروسي التركي حول ادلب، ومايتبعه من الناحيتين الإدارية والعسكرية، حيث لا يرغب التلي بتوقف الحرب، وهو يعادي أحرار الشام، ولايرغب بتوسعها في مناطق الساحل وريف ادلب على حساب التنظيمات السلفية، لكن "التلي" عاد للهيئة بعد استقالته بعدة أيام، بعد لقائه مع الجولاني، ويمثل التلي والفرغلي والمصري التيار المتشدد بالهيئة.

-بسام صهيوني: هو رئيس مجلس الشورى التابع لهيئة تحرير الشام، وكان قد شغل عام 2017 منصب رئيس الهيئة التأسيسية التي شكلت خلالها "المؤتمر السوري العام"،  وكان لها دور بارز في تشكيل حكومة الإنقاذ التابعة للهيئة في أيلول 2017 ، وفي شباط/فبراير 2019، دعا صهيوني بتوجيهات من "تحرير الشام" إلى مؤتمر عام، تم عقده بالفعل في معبر باب الهوى، ونتج عنه تأسيس "مجلس الشورى العام، الذي أعلن عنه في آذار، برئاسة صهيوني أيضاً، وكان له دور في الترويج للهيئة، واستقطاب كثير من الشخصيات المعارضة وشيوخ العشائر للمشاركة في المجالس التي تؤسسها الهيئة، وكان من أشد المدافعين عنها على الرغم من كل الانتقادات الموجهة للهيئة من الأوساط الشعبية، واستقال دون الإفصاح عن أسباب الاستقالة، ويبدو أن السبب هو عدم إعطائه أي منصب مهم، أو الخلاف حول مستقبل الإدارة المدنية في ادلب، وتوحيد الحكومتين المعارضتين، ولم يكن للمجالس والهيئات السياسية والتشريعية أي دور، وكل الأمور تدار من خلال السلطة العسكرية، وهناك خشية من انشقاقات أخرى بصفوف المدنيين الموالين للهيئة.

- مستقبل الهيئة في ظل الانشقاقات والتطورات الأخيرة:
أغلب الانشقاقات التي عصفت بالهيئة كانت من التيار المتشدد، حيث يبدو أن هناك تيارين بالهيئة الأول يتعامل مع الموقف بشكل براغماتي خشية تفكك الهيئة، والثاني متشدد يرفض أي اتفاق، ويرفض حل الهيئة أو اندماجها، والهيئة أمام تحديات كبيرة هذه الأيام، فأما الحل نهائياً، أو الاندماج في فصائل المعارضة المعتدلة الأخرى لتجنب تصعيد جديد من الروس، وخاصة أن الغضب من الهيئة ازداد بعد تراجع قواتها في المعارك الأخيرة، وخرجت مظاهرات ضد الهيئة، واتُهِمت بعدم وضع كامل قواتها في المعارك الأخيرة، حتى وصلت الشعارات لحد وصف الجولاني بالعميل والخائن، فالهيئة لم تزج بثقلها العسكري في معارك أرياف حماة وحلب وإدلب، خصوصاً سلاحها الثقيل، وهي تملك أكثر من 70 دبابة، حتى لا تفقد كامل قوتها، في تحسّب لمرحلة مقبلة ربما يلجأ فيها الجانب التركي إلى الخيار العسكري المباشر لتفكيكها، بينما كانت تزج بكل قواتها في المعارك الجانبية مع الفصائل المعتدلة.

من المحتمل أن تستمر الانشقاقات وتشمل شخصيات شرعية أخرى، نتيجة التحديات التي تواجهها الهيئة، أو من خلال الرغبة في إبعاد بعض الشخصيات المتشددة، فيما يبدو أنه رغبة لدى الهيئة لإظهار نفسها بمظهر فصيل معتدل.

 ويبدو أن الانشقاقات التي حدثت حتى الآن لن يكون لها تأثير كبير على الهيئة، وإن أجبرت الهيئة على تغيير بعض شعاراتها الجهادية، والقبول بالاتفاقات، ولاسيما انشقاق حراس الدين، وأعضاؤه يملكون المال والانتحاريين، وتكمن الخطورة في استمرار تلك الانشقاقات مما يحذر من تبعات كارثية عليها، وربما ينضم المتشددون منهم لتنظيم حراس الدين أو يشكلون تنظيم لهم، ويتحصنون بمكان معين وينشرون أفكارهم، ويحاولون كسب الاتباع، وربما يقومون ببعض الحركات ليلفتوا الانتباه لهم.

اختلفت الأوضاع في ادلب اليوم عن ماقبل اتفاق 5 آذار/ مارس2020، فالاستعدادات أصبحت كبيرة من الأطراف الموجودة، سواء من طرف النظام أو الإيرانيين، أو من الجانب التركي الذي صار له نقاط لايمكن حصرها في المنطقة مع مايقارب 30 ألف مقاتل من القوات الخاصة التركية.

هيئة تحرير الشام ..إلى أين؟:
يبدو أننا أمام احتمالين:
الأول: تعاون الهيئة في تطبيق الاتفاق الروسي التركي، حيث تحاول الهيئة إثبات أنها قادرة على ضبط وقف إطلاق النار، وبذلت قياداتها جهوداً كبيرة لإقناع عناصرها بذلك، وربما نشهد مرونة أكثر لهيئة تحرير الشام وقياداتها، وربما تتنازل عن بعض أيدولوجياتها نتيجة الضغوط التي تتعرض لها، والهيئة اليوم تختلف عن جبهة النصرة التي تشكلت 2012، حتى نظرتهم للدولة التركية والجيش التركي تغيرت، وربما الهيئة اليوم جاهزة للقيام بمهمة إخراج المجموعات المتطرفة من ادلب، مقابل السماح لهم بالالتحاق بقوى المعارضة المعتدلة، وربما ينشب خلاف بين حراس الدين وهيئة تحرير الشام في معركة لحسم النفوذ في المنطقة، والكفة غالباً ستميل لصالح الهيئة، وستخرج منتصرة، وتنجح بالاستمرار لفترة، فالهيئة تتعامل مع التطورات بشكل واقعي، وربما ستكون مستعدة للقيام بعمل عسكري للقضاء على المجموعات الأكثر تشدداً، والرافضة للاتفاق الروسي التركي بالمطلق.

فبالنسبة لتركيا وفي ظل كل الحشود العسكرية التي أرسلتها، يبدو أنها لن تتعامل بالمنطق السابق الذي تعاملت به مع الهيئة، وخاصة في ظل الضغوط الروسية لمحاربة الهيئة والتي لن تنتهي، فهي تعتبر كل من يقاتل ضد النظام السوري إرهابي، وهناك احتمال تصعيد عسكري تركي ضد الهيئة، وهي المواجهة المؤجلة حتى الآن، ومن المحتمل أن يكون هناك تنسيق روسي تركي حسب التطورات العسكرية والميدانية، والبديل أن يكون هناك وعي لدى قيادات الهيئة بأنها تدخل معركة خاسرة، مما يدفعها للقيام بتغييرات جذرية بها، والسماح للراغبين المعتدلين في صفوف الهيئة للالتحاق بالفصائل المعتدلة الأخرى.

وتركيا حتى الآن لاتريد مواجهة مع هيئة تحرير الشام لأن ذلك سيؤدي لفوضى عارمة، ومن الممكن أن يؤدي لهجمات انتقامية في الداخل التركي، وكذلك الهيئة لاتريد ذلك، وخاصة أنها لم تتأسس لمحاربة الأتراك.

يبدو أن سيتم حصر صفة الإرهابية بجزء صغير من هيئة تحرير الشام، وليس بأكملها، وستكون المقاتلين الأجانب على الأغلب، لكن روسيا ستصر على محاربة هيئة تحرير الشام، وأن محاولات إعادة تسمية هيئة تحرير الشام لن تنفع.

الثاني: رفض الهيئة التعاون في تطبيق الاتفاقات، حيث ظهر بعض عناصرها يمارسون بعض الأفعال الاستفزازية، ويهددون القوات التركية، ويبدو أنه ضمن السياسة الممنهجة للهيئة، نعم هي انقلبت على كل مواقفها السابقة، وصارت من أكثر المدافعين عن الاتفاقات، إلا أنها تقوم بين الحين والآخر بعمليات فوضوية، دون حساب لنتائجها، حتى أن الهيئة خسرت بعض كوادرها التي فضلت القتال ولم يسمعوا لقياداتهم ورفضوا الاستسلام.

وفي هذه الحالة ربما ستشهد المنطقة تصعيد أكبر، من المتوقع أن يتم تأجيله الآن بسبب الانشغال بمواجهة فيروس كورونا، وهو مايريده الإيرانيون والنظام السوري، وسيكون له تبعات كارثية على الهيئة.