الميراث السياسي لحسني مبارك

توفي حسني مبارك الزعيم المخلوع الذي ظل في السلطة لأطول فترة في تاريخ مصر، في 25 فبراير/ شباط عن عمر يناهز 92 عاماً. ولد مبارك عام 1928 في أسرة فقيرة بمحافظة المنوفية في مصر، وتخرج من الأكاديمية الحربية عام 1949. ثم بدأ نجمه في الصعود من خلال الانضمام إلى سلاح الجو المصري. وعندما كان مبارك ضابطاً شاباً تابع عن كثب الانقلاب الذي نفذه جمال عبد الناصر مع الضباط القوميين الذين كانوا يعرفون باسم "الضباط الأحرار" عام 1952 إضافة للتحوّل اللاحق في البلاد. تسببت الهزيمة التي تلقتها مصر أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967 في دخول السياسات القومية في أزمة كبيرة، وأدّت هذه الهزيمة إلى إضعاف دور مصر الريادي ونفوذها في المنطقة.

بعد وفاة عبد الناصر تولى أنور السادات الحكم في أوائل السبعينات، ليقوم بتعيين حسني مبارك قائداً للقوات الجوية في عام 1972. لعب مبارك دوراً حاسماً في التخطيط للهجوم المفاجئ على إسرائيل في عام 1973، وبذلك استمر نجمه في البزوغ والتألق يوماً بعد يوم حتى أصبح في رتبة فريق طيّار. وسرعان ما عيّنه السادات نائباً للرئيس عام 1975. تخلى أنور السادات عن النهج المناهض للغرب الذي كان يتبعه الرئيس السابق عبد الناصر، وبدأ في اتباع طريقاً مؤيداً للغرب. حسني مبارك لم يؤيد التطبيع مع إسرائيل بشكل صريح كما هو الحال بشأن موقفه من معاهدة كامب ديفيد التي أبرمتها مصر مع إسرائيل، لكنه في نفس الوقت لم يعارض هذا التطبيع.

كان مبارك شاهداً على ردود الأفعال القاسية التي جاءت من شعوب المنطقة والدول العربية الأخرى تجاه مصر جراء الاتفاقية المبرمة مع إسرائيل. وعندما تم اغتيال الرئيس أنور السادات في عام 1981 نتيجة ردود الأفعال هذه، تولى نائبه حسني مبارك الحكم بعده ليواصل مبارك سياسات سلفه خلال فترة حكم بدأت في الثمانينات واستمرت لمدة 30 عاماً. لم يقم مبارك بإلغاء الاتفاقية مع إسرائيل وأقام علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. ونجح مبارك في إعادة مصر التي تم طردها من الجامعة العربية إثر معاهدة كامب ديفيد إلى الساحة السياسية العربية مرة أخرى وإن لم يكن بنفس الوضع السابق.

العلاقات السعودية المصرية التي كانت سيئة خلال فترة عبد الناصر بدأت بالعودة إلى طبيعتها في عهد السادات. لكن المملكة العربية السعودية كانت من ضمن المعارضين لمعاهدة كامب ديفيد وابتعدت قليلاً عن مصر. قام نظام مبارك بإعادة علاقاته مع العالم العربي إلى طبيعتها وسعى بقدر الإمكان إلى إنشاء علاقات وثيقة لاسيما مع المملكة العربية السعودية. أمّا أهم تطور إقليمي في عهد مبارك فكان الحرب الإيرانية العراقية في الفترة بين عامي 19801988. وفي هذه الفترة قامت مصر بتقديم الدعم العسكري والاقتصادي للعراق ضد إيران. وكان نحو مليون مواطن مصري يعملون في العراق في فترة حكم الرئيس صدام حسين في وقت كان فيه العراق متقدماً ومتطوراً للغاية. وفي عام 1983 اقترب مبارك من منظمة التحرير الفلسطينية وأولى أهمية ولو بشكل جزئي للقضية الفلسطينية. وعادت مصر إلى الجامعة العربية في عام 1989 إثر عودة العلاقات نوعاً ما إلى طبيعتها ولأهمية مصر التي لا يمكن إهمالها.

استغرق حكم مبارك وقتاً أطول من سابقيه من الرؤساء في التاريخ المصري الحديث. الإجراءات الأمنية الصارمة وأساليب المراقبة القوية التي كان يستخدمها مبارك هي أهم الأسباب التي ساهمت في طول فترة حكم الرئيس الذي نجا من العديد من محاولات الاغتيال. ولعبت مخاوفه من شعبه إضافة إلى خلفيته العسكرية واغتيال سلفه السادات دوراً هاماً في اتباعه ذلك النهج الأمني لحماية نفسه. لدرجة أن مبارك ليس له صورة مع شعبه. لقد كانت جميع الصور التي تم التقاطها دائماً في أوساط مسيطر عليها وعالية الأمن والمراقبة. وعلى عكس أنور السادات، تجنّب مبارك تعيين نائب رئيس خلال فترة حكمه التي امتدت 30 عاماً وذلك ربما لأنه كان خائفًا من انقلاب يأتيه من داخل قصره.

سنحت لمصر في عهد مبارك فرص هامة في فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة في التسعينات، ولعبت مصر أدواراً جادة في تشكيل الشرق الأوسط الجديد. ويأتي على رأس هذه الأدوار ما قامت به في حرب الخليج التي تم إعلانها ضد احتلال صدام حسين للكويت. مثال على ذلك، كانت الوحدات المصرية ضمن قوات التحالف هي من أوائل الوحدات العسكرية التي وصلت إلى المملكة العربية السعودية. وخرجت مصر من هذه الحرب بمكاسب مادية كبيرة حيث تلقّت مساعدات مالية من دول الخليج أثناء الحرب وبعدها، كما تم إلغاء ديونها البالغة 20 مليار دولار المستحقة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول الخليج. الخسارة التي مني بها صدام أدّت إلى إضعافه مما أسفر عن ضعف وتقهقر المعسكر القومي المعادي للغرب في العالم العربي وازدياد المعسكر المؤيد للغرب قوة.

ومن الأدوار غير المعروفة كثيراً التي أدتها مصر هي وساطتها مع بيل كلينتون بين سوريا وتركيا جراء تهديد تركيا لسوريا لاستضافة الأخيرة لتنظيم بي كي كي، إضافة لدورها الذي أدته في إخراج عبد الله أوجلان زعيم تنظيم بي كي كي من سوريا عقب توقيع اتفاقية أضنة في عام 1998. وعلى الرغم من التنافس والاختلاف مع صدام حسين، إلا أن حسني مبارك عارض الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003 على عكس دول الخليج، قائلاً إنه يجب أولاً حل القضية الفلسطينية.

الانتخابات الرئاسية عام 2005 كانت الأولى التي يدخلها الرئيس مبارك مع منافس آخر، إلّا أنه فاز بها بالإجراءات الأمنية، وألقى بمنافسه أيمن نور في السجن لمدة 5 سنوات. زيادة القمع وانتشار الفساد كانتا الصفتان التي اتسمت بهما فترة حكم مبارك. وعلى الرغم من إنشاء أحزاب سياسية بشكل صوري، إلا أن هذه الأحزاب سعت للبقاء كصورة فقط بدلاً من المعارضة الحقيقية. وفي هذه الفترة أصبحت مضايقات الشرطة والسجن بدون محاكمات خارج نطاق القانون بحق المعارضين الحقيقيين أمراً شائعاً. كما ازدادت الرقابة والوصاية على الإعلام والجامعات والمساجد. واستمر الفساد مشكلة كبيرة في مصر منذ القدم كما كان في الإدارات المغلقة والإدارات المركزية. كما أن عدم وجود آليات رقابة ديمقراطية مستقلة جعلت مكافحة الفساد أمراً مستحيلاً.

سياسات الانفتاح التي كان يتبعها أنور السادات ظهرت جلياً في مجال السياسة الداخلية: سمح لجماعة الإخوان المسلمين بالقيام بأنشطة والعمل رغم عدم اعترافه بها كجماعة مشروعة. نظام مبارك واصل هذا النهج مع الجماعة. لم يمنع مبارك الإخوان المسلمين من العمل في مجال المساعدة الاجتماعية والتعليم والأنشطة الدينية، وربما لم يتمكن من منعها. جماعة الإخوان المسلمين تمددت وانتشرت إلى القاعدة الاجتماعية وكانت فعالة في الأندية الطلابية والغرف المهنية ودخلت البرلمان في الثمانينيات على الرغم من جميع العقبات. قام مبارك بدعم الجماعات الصوفية وفتح الطريق أمام الجماعات السلفية غير السياسية وذلك من أجل كسر نفوذ جماعة الإخوان.

عدم تحرّر السياسة على الرغم من تحرّر الاقتصاد المصري خلال فترة مبارك تسبب في تشكل هيكل اقتصادي مشوه. جمّعت عائلة مبارك ورجاله مليارات الدولارات من الفساد والرشوة والأعمال المختلفة. على سبيل المثال، يقال إن مبارك أخذ رشوة كبيرة لبيع الغاز الطبيعي المصري لإسرائيل بسعر أرخص من السوق. عائلة مبارك حققت مكاسب مالية كبيرة من خلال الحصول على رشاوى من الشركات الناجحة أو إلزام هذه الشركات بجعل العائلة شريكاً لها. وتم إفلاس الشركات التي رفضت التعاون مع العائلة أو حققت نموًا بشكل لا يمكن السيطرة عليه. وبذلك واجه هذا النظام الذي لا يتبع القواعد صعوبة كبيرة في جذب الاستثمارات من الخارج. وبينما تسبب هذا الوضع الاقتصادي غير المتزن في زيادة البطالة في البلاد أبقى هذا الوضع العمال أيضاً تحت ضغوطات قانونية واقتصادية كبيرة. وبعد الثورة تم محاكمة مبارك وأولاده في محكمة القاهرة بتهمة الابتزاز.

عندما أسقطت المظاهرات التي اندلعت في تونس في نهاية عام 2010 نظام زين عابدين بن علي، بدأت احتجاجات قوية في مصر التي تواجه مشاكل مماثلة. مبارك الذي أراد سابقاً أن يجعل ابنه جمال مبارك رئيساً بعده لم يعد يدعم ابنه جمال جراء عدم انقطاع الاحتجاجات التي استمرت رغم مقتل 800 شخص. ورغم محاولة مبارك الذي لم يعيّن نائباً له قبل ذلك بكسب دعم الجيش إلى جانبه من خلال تعيين عمر سليمان نائباً له إلّا أن الجيش المصري قام بعزله جراء استمرار المظاهرات والاحتجاجات. وبهذا التصرف الذي يشبه الانقلاب نوعاً ما، فضّل الجيش إنقاذ السفينة (النظام) والتضحية بقبطانها. لكن النظام العسكري الذي فضّل حماية مبارك أيضاً منع مضايقته والتحرش به من خلال إبعاده عن الأنظار حتى وفاته.

أهم مسألتين في السياسة الخارجية لمبارك اعتمدتا على أولوية الأمن وحماية النظام. ظل مبارك قريباً من الولايات المتحدة والغرب من خلال التزامه بمعاهدة كامب ديفيد الموقعة مع إسرائيل. واستمر في التعاون مع إسرائيل دون أن يكون قريبًا جداً منها. وفي جانب آخر عزّز مبارك العلاقات الجيدة مع منظمة التحرير الفلسطينية وحاول التوسط في المفاوضات بين فلسطين وإسرائيل واتخذ موقفاً سلبياً تجاه حركة حماس. وإضافة إلى ذلك، اتخذ مبارك موقفاً سلبياً أيضاً تجاه الثورة الإسلامية في إيران واستضاف الشاه المخلوع في مصر وأقام علاقات وثيقة مع دول الخليج. مبارك كان يعتقد أن العلاقات مع الولايات المتحدة تمر من خلال علاقات جيدة مع إسرائيل. فضّل مبارك التغييرات الرمزية لتمرير مطالب الديمقراطية في الشرق الأوسط التي ظهرت نتيجة لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول.

هذا المقال تم نشره في موقع وكالة الأناضول للأنباء في 28 فبراير/ شباط، بعنوان "الميراث السياسي لحسني مبارك".