أزمة التقاضي الدستوري في العراق

يعاني العراق اليوم من أزمة سياسية خانقة، غير مسبوقة، تتمثل بعجز كافة فواعل النظام السياسي عن التوصل إلى حل لأزمة تشكيل الحكومة على الرغم من مرور 10 شهور على الإعلان الرسمي لنتائج الانتخابات المبكرة 2021. هنالك عدة عوامل ومولدات للأزمات السياسية المتكررة في العراق، منها عوامل دستورية وقانونية، من أهمها: ضبابية بعض نصوص الدستور وغموضها، وحالة عدم اليقين في طبيعة العلاقة بين الهياكل الدستورية والقضائية للنظام والسلطات التشريعية والتنفيذية والفواعل السياسية في البلد. وقد يكون قرار المحكمة الاتحادية العليا الأخير برد دعوى حل البرلمان، هو آخر تفاعل قضائي يؤكد الأزمة البنيوية للنظام السياسي في العراق.

نصت المادة 93/ثانياً من الدستور العراقي للعام 2005 النافذ حالياً على: "تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي وفقهاء القانون، يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب". ولكن لغاية وقتنا الحاضر لم يتم تشريع قانون المحكمة الاتحادية العليا كما نصت عليه هذه المادة الدستورية، لأسباب تتعلق بالأزمة السياسية وطبيعة الصراع على آلية وفلسفة عمل المؤسسات في العراق وهويتها، ومساعي الهيمنة على قراراتها بما لا يُخل بموازين القوى في البلد.

لذلك فأن المحكمة الاتحادية العليا الحالية، ما زالت تمارس مهامها بوصفها مؤسسة مؤقتة تعمل بموجب قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية رقم 30 لسنة 2005، والذي توقف العمل به بعد تشريع الدستور العراقي النافذ حالياً. بمعنى أن المحكمة الاتحادية العليا لا تحظى بغطاء قانوني راسخ يتيح لها الفصل في المنازعات بعد الاحتكام لها واتخاذ القرارات الحيوية ضمن اختصاصاتها المنصوص عليها دستورياً.

تمارس المحكمة الاتحادية العليا في العراق مهامها وصلاحياتها اليوم، بعد إجراء مجلس النواب في دورته السابقة تعديلاً على نصوص القانون رقم 30 لسنة 2005، تم تمريره بالأغلبية البسيطة لكونه تعديلاً قانونياً وليس تشريعاً جديداً يتطلب "ثلثي أعضاء المجلس" كما نصت عليه المادة 93 من الدستور، ومَنحَ التعديل مجلس القضاء الأعلى صلاحية اختيار قضاة المحكمة بمشاركة مؤسسات قضائية أخرى، بما يخالف الدستور العراقي الذي فصل بوضوح ما بين المؤسستين "مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية" بموجب المادة 89 من الدستور التي نصت على: "تتكون السلطة القضائية الاتحادية من مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام وهيئة الاشراف القضائي والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون". تجدر الإشارة إلى أن التعديل في القانون رقم 30 كان لضرورة انتخابية، وأهداف سياسية، ولإكمال متطلبات إجراء الانتخابات المبكرة 2021، وتمكين المحكمة الاتحادية العليا من إنجاز مهمة المصادقة على نتائج الانتخابات.

رفع التيار الصدري في آب/أغسطس المنصرم دعوى قضائية أمام المحكمة الاتحادية العليا لحل البرلمان بعد تغريدة لزعيم التيار مقتدى الصدر تدعو إلى حل مجلس النواب وإجراء انتخابات مبكرة، وبعد تأجيلات متكررة لجلسات النظر في الدعوى أصدرت المحكمة حكمها في مطلع أيلول/ سبتمبر بما هو آتٍ:

1- إن أعضاء مجلس النواب بعد انتخابهم لا يمثلون انفسهم ولا كتلهم السياسية وانما يمثلون الشعب ولذا كان من المقتضى عليهم العمل على تحقيق ما تم انتخابهم لأجله وهي مصلحة الشعب لا أن يكونوا

سبباً في تعطيل مصالحه وتهديد سلامته وسلامة الشعب بالكامل.

2- إن استقرار العملية السياسية في العراق يفرض على الجميع الالتزام بأحكام الدستور وعدم تجاوزه ولا يجوز لأي سلطة الاستمرار في تجاوز المدد الدستورية الى ما لا نهاية لأن في ذلك مخالفة للدستور وهدم للعملية السياسية بالكامل وتهديداً لأمن البلد والمواطنين.

3- إن الجزاء الذي يفرض على مجلس النواب لعدم قيامه بواجباته الدستورية هو حل المجلس عند وجود مبرراته.

4- إن دستور جمهورية العراق لعام 2005 قد رسم الآلية الدستورية لحل مجلس النواب وفقاً لأحكام المادة (64/ اولاً) منه.

5- إن اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا محددة بموجب المادة (93) من الدستور والمادة (4) من قانون المحكمة الاتحادية العليا وليست من ضمنها حل البرلمان.

6- إن دستور جمهورية العراق لعام 2005 لم يغفل عن تنظيم أحكام حل البرلمان ولذلك فلا مجال لتطبيق نظرية الإغفال الدستوري.

حمّلت المحكمة الاتحادية "ضمناً" وفي الفقرتين الأولى والثانية، طرفا الأزمة الإطار التنسيقي والتيار الصدري مسؤولية تعطيل تفاقم الأوضاع في البلاد، ورفضت في حكمها أعلاه وبشكل صريح "الاستمرار في تجاوز المدد الدستورية إلى ما لا نهاية" دون أن تعلن حكماً واضحاً في هذه المخالفة الدستورية، لأنها عملياً لا تمتلك النص القانوني أو الدستوري الجزائي قبالة المخالفة المذكورة، وأنها لا تجد أن ذلك الانتهاك يستوجب جزاءً، بل تشترط "حل البرلمان عند وجود مبرراته"، الأمر الذي قد يُفسر أن مجرد تجاوز المدد الدستورية ليس كافياً لحل البرلمان، وهي ترسخ بذلك لعُرف قانوني جديد قائم على فكرة "أن انتهاك الأحكام الدستورية لا يترتب عليه أي جزاء".

تضمنت المادة 93 من الدستور العراقي ثمانِ فقرات فصلت فيها باختصاصات المحكمة الاتحادية، منها (الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وتفسير النصوص الدستورية، والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية). وهنا نتساءل ألا يعد خرق البرلمان للمدد الدستورية والقوانين النافذة وعجزه عن الاستمرار في عقد جلساته خروجاً عن المشروعية الدستورية التي تعتبر رقابتها وتشخيصها جزءً من اختصاص المحكمة الاتحادية العليا كما نص عليه الدستور؟

هنالك من يرى بأن الإدعاء بعدم اختصاص المحكمة الاتحادية العليا في قضايا من قبيل "حل البرلمان" ربما لا ينسجم مع واجباتها الدستورية والقانونية المنصوص عليها في المادة 93، كما أن غياب نصوص العقوبات الرادعة والإجراءات الجزائية إزاء تلك الخروقات يعضد حجة المحكمة الاتحادية، الأمر الذي يحيلنا مرة أخرى إلى أن "أزمة النظام السياسي"، وهو التوصيف الدقيق لكل المشكلات التي تعجز أركان النظام عن حلها.

يمكن وصف غياب العقوبات الجزائية القانونية تجاه الخروقات الدستورية في نصوص وصلاحيات المحكمة الاتحادية العليا، بأنها جاءت في سياق منهجية متعمدة نحو تأسيس منظومة قضائية دستورية لا تمتلك مقومات التأثير في صنع القرار السياسي والاستراتيجي، وتستجيب لإرادات الفاعل السياسي الأقوى وأدواته في إدارة السلطة.

إن غياب المعيارية في حسم المنازعات الدستورية والقانونية وسياسة مسك العصا من الوسط بقرارات ونصوص إنشائية قابلة للتأويل، لا يمكن معها إنقاذ البلاد وهي تعيش أزمة خانقة ستكون لها تداعياتها الاجتماعية والأمنية والاقتصادية، فلا حل للخروج من هذه المعضلة إلا بخيار التوافق السياسي على حل البرلمان ضمن السياقات الدستورية بطلب رئيسي الجمهورية والوزراء أو أن يحل البرلمان نفسه والذهاب نحو انتخابات مبكرة بإشراف أممي قبل وقوع الكارثة.