وفاة آية الله محمد سعيد الحكيم في العراق: ما هو تأثيرها في العالم الشيعي؟

توفي آية الله السيد محمد سعيد الحكيم، أحد المراجع الشيعية الأربعة الكبرى في العراق، عن عمر يناهز 85 عاما نتيجة نوبة قلبية في النجف. وفي الوقت الذي أحدثت فيه وفاة الحكيم فراغا اجتماعيا ودينيا كبيرا في العراق والعالم الشيعي، أثارت هذه الوفاة النقاشات حول المنظومة الشيعية مرة أخرى. وذلك لأنه على الرغم من عدم إمكانية معرفة  نسب توزيع النفوس بين المسلمين بحسب المذاهب، إلا أن هناك ارتباطا كبيرا بالمذهب الشيعي بين المسلمين. وبالإضافة إلى إيران التي تعرف بأنها البلد الذي يعيش فيه العدد الأكبر من الشيعة مقارنة بغيرهم، فإن أكثر من نصف سكان العراق أيضا هم من الشيعة. إضافة إلى ذلك، فإن المذهب الشيعي قد انتشر من مدينة الكوفة التابعة لمحافظة النجف العراقية، وأن معظم الأماكن المقدسة بالنسبة للشيعة تقع في الأراضي العراقية، والأهم من ذلك فأن النجف هي المركز التعليمي الرئيس لطلبة العلوم الشرعية للمذهب الشيعي، لذلك فإن أي أدنى تطور يجري فيما يتعلق بالعالم الشيعي يُحدث صدى في العراق. وفي هذا السياق، من المؤكد أن يكون لوفاة آية الله الحكيم تداعيات هامة على كل من العراق والعالم الشيعي.

المنظومة الشيعية والنجف
يمكن القول إن كلمة شيعي أو الشيعة تعني لغةً "أتباع/ أنصار/ أعوان". ولهذا السبب، يمكن الإشارة إلى أن الشيعة من أتباع نسب سيدنا الرسول محمد وهم الذين يسلمون بأحقية ذرية سيدنا محمد بمقام خلافته ويتبعون تعاليم أهل البيت. وبتفسير أبسط، يمكن القول إن مصطلح الشيعة ظهر من خلال إيمان البعض بأن سيدنا علي هو الأحق بخلافة الرسول سيدنا محمد بعد وفاته، وأنهم تصرفوا بما يتماشى مع تعاليم سيدنا علي. وفي هذه النقطة، جدير بالذكر أن أهم ما يميز المذهب الشيعي عن المذاهب الأخرى هو مسألة التقليد. فوفقا للمذهب الشيعي، يجب أن يكون المسلم إما مجتهدا (لديه سلطة إصدار الفتاوى من خلال استكمال التعليم الديني الشيعي) واستنتاج الأحكام الدينية من الأدلة، أو مقلدا للمجتهد، باستثناء أحكام الدين القطعية. أي أنه يجب أن يتصرف وفقا لتوجيهات المجتهد، أو يواصل حياته اليومية مع التصرف بحكمة بطريقة تجعله متأكدا من أداء واجبه الذي يقع على عاتقه. لهذا السبب هنالك أهمية كبيرة للأشخاص الذين وصلوا إلى مستوى الإفتاء في العقيدة الشيعية، ويمكن لهؤلاء أن يوجهوا كل مجالات الحياة للأشخاص الذين يقلدونهم.

جدير بالذكر، أن طرح الخميني مفهوم "ولاية الفقيه" في إيران في العام 1979، ساهم في أن يصبح المذهب الشيعي قوة مؤثرة في السياسة وإدارة الدولة. وبذلك المفهوم، أصبح رجال الدين في موضع أقوى في قمة الهيكل الإداري وأصبحوا الصانعين الرئيسين للقرار في البلاد. لكن مع تحوّل هذه المسألة إلى شكل من أشكال إدارة الدولة في إيران، بدأت البلد تشهد انقسامات داخل الشيعة. وإضافة لذلك، كان لوصول حزب البعث إلى السلطة في العراق، ثم الحرب العراقية الإيرانية في الفترة بين عامي 1980 و1988 وتعرّض الشيعة العراقيين لضغوط النظام، دور في بدء فترة من الانطواء بالنسبة للشيعة العراقيين، كما أن معظم علماء الشيعة في النجف اضطروا للذهاب إلى حوزة قم العلمية في إيران. ولهذا السبب، ليس من الخطأ القول، إن حوزة قم العلمية أصبحت القوة الأكثر تأثيرا على الشيعة لفترة طويلة.

أن الفترة التي بدأت مع غزو الولايات المتحدة الأمريكية للعراق  في عام 2003  لعبت دورا في أن يصبح الشيعة الذين يشكلون الأغلبية في العراق في السلطة التنفيذية في هذا البلد، وبذلك عادت حوزة النجف إلى أخذ مكانتها مرة أخرى أو حاولت العودة لذلك. وبالطبع، أدى ذلك إلى بروز تنافس طبيعي بين حوزتي النجف وقم ضمن هذا الإطار، وبخاصة أن غالبية الشيعة في النجف يتبنون مواقف بعيدة عن مفهوم ولاية الفقيه وقريبة من المواقف الأكثر تقليدية (بقاء رجال الدين بعيدين عن السياسة). وعلى الرغم من أن التطورات في العراق حاولت جرّ النجف إلى السياسة، إلا أن المرجع الديني الشيعي في النجف يحاول البقاء بعيدا عن السياسة. ولكن حقيقة أن المؤمنين بالمذهب الشيعي يتصرفون وفق خطابات رجال الدين هو أمر مؤثر في إدارة الدولة والعملية السياسية في العراق. حيث بدا دور المرجعية الدينية الشيعية في النجف بوضوح في مراحل تشكيل الحكومة والمظاهرات الاحتجاجية التي وقعت في عام 2019. وبسبب هذا التأثير، فإن المرجعية الشيعية هي إحدى القضايا المطروحة باستمرار على الواجهة.

كانت هناك أربع مرجعيات دينية شيعية رئيسة مقبولة من الجميع في العراق. هؤلاء هم آية الله علي السيستاني الذي يعتبر أكبر مرجع ديني شيعي في العراق والمسؤول عن الحوزة، إضافة إلى المتوفى آية الله السيد محمد سعيد الحكيم، وآية الله إسحاق الفياض، وآية الله بشير النجفي. ويعتبر الشيعة رجال الدين هؤلاء بأنهم بمرتبة "آية الله العظمى". ويعرف بأن هناك غير هؤلاء الأربعة، أكثر من 20 رجل دين ارتقوا إلى مرتبة آية الله، أي أن هؤلاء في مرتبة إصدار الفتوى. لكنهم يقرون ببعدهم جدا عن الأربعة الآخرين من حيث المعرفة والخبرة وعدد المقلدين. من ناحية أخرى، تدار الحوزة التي يقدم فيها التعليم الديني في النجف تحت قيادة المرجع الديني الشيعي الأكبر آية الله علي السيستاني. لكن، المراجع الثلاثة الآخرين الذين يحملون مرتبة "آية الله العظمى" لهم رأي مؤثر أيضا. ورغم ذلك، فإن إدارة السيستاني لها أهمية كبيرة في وجهات النظر التي تنبثق من الحوزة.

آية الله السيد محمد سعيد الحكيم ونقاشات المرجعية
تعتبر مرحلة ما بعد آية الله السيستاني الذي يعد أكبر مرجعية دينية شيعية في العراق، من أكثر القضايا التي يتم التحدث حولها في العراق وبين صفوف الشيعة بالذات. حيث أن السيستاني كبير في السن ومصاب بأمراض مزمنة. ولهذا السبب أيضا، تتناقل أخبار مفبركة عن وفاة السيستاني أو إخفاء خبر وفاته من حين لآخر بين الناس. جدير بالذكر أن هناك حديث بشأن أن آية الله الحكيم كان أحد أهم المرشحين لقيادة حوزة النجف بعد السيستاني، بل كان أقوى المرشحين لخلافة السيستاني، لاسيما أن كلٍ من المرجعين الشيعيين الآخرين (الفياض والنجفي) يعانيان من أمراض مزمنة، وأنهما ليسا من أصول عربية أو عراقية وليسا من السادة (من نسل سيدنا الرسول محمد)، إضافة إلى أن هناك اعتقاد بأن الحكيم أفضل منهما في العلم والمعرفة بشكل عام. كما أن هناك عددا من العناصر الهامة التي تساهم في بروز الحكيم، وهي أنه من إحدى أكبر عائلتي العلماء الشيعة في العراق (الحكيم والصدر)، وأنه هو السيد الوحيد "ينتمي بنسبه إلى آل البيت" إضافة للسيستاني ممن يحملون مرتبة "آية الله العظمى"، وأن عائلة الحكيم تركز على هويتها العراقية بشكل قوي. وإضافة إلى ذلك فإن اعتقال آية الله الحكيم من قبل صدام ومكوثه في السجن في الفترة 1983–1991، وعدم قبوله مغادرة النجف رغم ضغوطات نظام صدام، يضع آية الله الحكيم في مكانة عالية في نظر الشعب العراقي.

من ناحية أخرى، فإن بقاء الحكيم بعيدا تماما عن السياسة وإيلائه أهمية لهويته العراقية وموقفه الواضح تجاه ولاية الفقيه، من أهم الخصائص التي ميّزت الحكيم عن غيره من آيات الله العظماء. وفي هذا الصدد، سيخلق موت الحكيم فراغا كبيرا بالنسبة للنجف والعالم الشيعي والعراق. وعلى الرغم من وجود أسماء في العائلة يمكنها أن تحل محل الحكيم، إلا أنه لن يكون من السهل ملء الفراغ الشاغر للحكيم. حيث لا تعتبر عائلة الحكيم جزء مهم من الناحية الدينية فقط، بل مهمة أيضا في السياسة العراقية. يعتبر عمّار الحكيم ومن قبله والده عبد العزيز الحكيم من أهم الفاعلين الرئيسيين في السياسة العراقية في فترة ما بعد 2003. وعلى الرغم من بقاء آية الله الحكيم بعيدا عن السياسة، إلا أن علاقات القرابة الوثيقة تجعل عائلة الحكيم قوية سياسيا في العراق.

لكن القضية الرئيسية هنا ليست كيفية سد الفراغ في عائلة الحكيم، بل من هي الشخصية التي ستبرز مع وفاة الحكيم لفترة ما بعد السيستاني. فقد انتشر مؤخرا بأن محمد رضا السيستاني نجل آية الله علي السيستاني بدأ يظهر كثيرا في الفترة الأخيرة وأنه يعد نفسه لفترة ما بعد السيستاني. جدير بالذكر أنه أقام علاقات وثيقة مع مؤسسة الإمام الخوئي التي افتتحت معهدا في النجف عام 2017، وتتخذ هذه المؤسسة من العاصمة البريطانية لندن مقرا لها. ومن المعروف أن آية الله أبو القاسم الخوئي كان زعيم النجف في الفترة بين 1970–1991 قبل السيستاني. وفي هذا النقطة، يعتبر تأثير الخوئي كبيرا على حوزة النجف. وإضافة إلى ذلك، تمتلك مؤسسة الإمام الخوئي مورداً اقتصادياً قوياً أيضا. لهذا السبب، يقال إن محمد رضا السيستاني يعد نفسه لمرحلة ما بعد والده من خلال الدعم الذي يتلقاه من مؤسسة الخوئي. لكن لا يمكن تجاهل الديناميكيات الداخلية للحوزة. وعلى الرغم من وجود صراعات من وقت لآخر، إلا أن هناك معايير خاصة بالحوزة لتحديد أعلى سلطة، وتحاول النجف الحفاظ على هذه القيم والمعايير. لكن النفوذ والضغط الإيراني المكثف الذي ظهر في العراق بعد عام 2003 واضح أيضا في النجف. وفي هذا الإطار، هناك حديث بأن إيران أيضا تعد اسما لخلافة آية الله السيستاني. وعلى الرغم من عدم وجود فكرة واضحة عن هذا الاسم الذي تدعمه إيران، إلّا أن من الواضح أن إيران لن تبتعد عن هذه المسألة. جدير بالذكر أن دفاع حوزة النجف عن التشيّع التقليدي واهتمامها بالسياسة العالمية في الفترة الأخيرة يشير إلى أنها تقدمت على حوزة قم. وعلى الرغم من أن زيارة زعيم الفاتيكان البابا فرنسيس كانت موضع انتقادات من بعض الأطراف، إلا أن لقاءه بآية الله السيستاني في النجف في مارس/ آذار 2021 تظهر أهمية النجف. وفي النتيجة، لن يكون من الخطأ القول إن تداعيات وفاة الحكيم لن تقتصر على عائلة الحكيم والنجف فقط.

هذا التحليل تم نشره في موقع وكالة الأناضول في 9 سبتمبر/ أيلول 2021 تحت عنوان "كيف تؤثر وفاة آية الله الحكيم في العراق على العالم الشيعي؟"