الانسداد السياسي الحالي في العراق: أزمة سياسية أم أزمة نظام سياسي؟

لم تكن الأزمة الحالية التي سُميت بـ"الانسداد السياسي" أو "الانغلاق السياسي" وليدة اللحظة أو هي نتاج انتخابات2021 المبكرة، بل هي صفة أصبحت شبه مُلازمة للحياة السياسية في عراق ما بعد 2003، وهي جزء من أزمة النظام السياسي العاجز عن إيجاد حلول لأزمة تسمية رئيس الجمهورية، والخالي أيضا من أي صفة إلزامية للمؤسسات والجماعات والأفراد لاتخاذ التدابير البديلة لأي جمود يمكن أن يمر به المشهد السياسي، كما هو حاصل حالياً.

مرت 6 شهور على إجراء الانتخابات وظهور نتائجها ولم تر الحكومة الجديدة النور حتى اللحظة، بل يعتقد أن أزمة تسمية رئيس الجمهورية فقط دون الحديث عن الأزمة المحتملة لتكليف رئيس الوزراء، ستستمر لشهر آخر دون التكهن بمستقبل وأفق حلها، بسبب تمسك كلا الفريقين اللذين يتزعم أحدهما "الكتلة الصدرية" والآخر "الإطار التنسيقي الشيعي" بمشروعيهما، فالصدر مصمم على مبدأ حكومة "الأغلبية الوطنية"، أو بمصطلح أدق (الحكومة الائتلافية)، بينما يصر فريق الإطار التنسيقي على ضرورة التئام الأغلبية الشيعية النيابية لتشكيل الكتلة الأكبر وتمرير رئيس الوزراء والتوافق مع بقية الأطراف (الكردية والسنية) على رئيس الجمهورية.

النظام السياسي في العراق رهينة التوافقية السياسية من جهة، ومزاجية الفاعل السياسي الأقوى من جهة أخرى، فلا يمكن أن يمر مرشحو الرئاسات الثلاث إلا بهذين المبدأين، وبالرغم من تضمن دستور 2005 المعتمد حالياً لمهل زمنية واضحة لانتخاب تلك الرئاسات، إلا أنه ليس هنالك قوة إلزام لتلك المهل على شكل إجراءات عقابية لمن يخرق تلك المهل الزمنية الدستورية ويخالف قواعدها، بل تُرك الحبل على الغارب بانتظار تنازل أحد الطرفين أو ضعفه، أو إصدار مجموعة قرارات تفسيرية "غير حاسمة" من السلطة القضائية، تدفع أطراف النزاع نحو التسوية التوافقية، وهذا ما يوصل النظام نحو الشلل التام في تسيير شؤون الدولة ومواطنيها، بإطالة مدد حكومات تصريف الأعمال.

يعد تكرار اللجوء إلى المحكمة الاتحادية لإثارة قضايا هي في الأساس خصومات سياسية وليست إشكالات قانونية، من أبرز معضلات النظام السياسي في العراق، حيث أن هذا النهج يبين لنا بأن عملية المراقبة القانونية والقضائية للعملية السياسية، تعتمد على مبدأ تحريك الشكوى إزاء المخالفات الحاصلة حتى يتم النظر فيها، ولا تعتمد على المبادرة في رصد تلك المخالفات والخروقات الدستورية واتخاذ قرارات ومواقف تجاهها، وإن لم يتم تحريك شكوى أو طعن تجاه أية خطوة سياسية، فأننا لم نشهد (لحد الان) مبادرة من السلطة القضائية المعنية بمتابعة مدى تطابق الشأن السياسي والممارسات السياسية مع الدستور والقوانين النافذة، وبخاصة مع غياب أي دور واضح وفعال للادعاء العام في العراق. إن تحريك القضايا والشكاوى والطعون خاضع للارادات السياسية وليس لاستحقاقات حفظ النظام وعلوية الدستور كعقد سياسي بين الحاكم والمحكوم، لذلك صارت مؤسسات الفصل في الخلافات الدستورية جزء من الأزمة وليست جزءً من الحل.   

منح مقتدى الصدر الإطار التنسيقي مهلة 40 يوماً تنتهي بانتهاء عيد الفطر القادم، كفرصة للانفراد بتشكيل الحكومة وجمع الأغلبية العددية اللازمة لتمرير مرشحه لرئاسة الجمهورية فيكلف رئيس الوزراء الذي يرشحه الإطار بعد ذلك، وهو يعلم مسبقاً بصعوبة الأمر في ظل الحاجة إلى حضور 220 نائباً لعقد الجلسة البرلمانية المخصصة لترشيح رئيس الجمهورية، لذلك رد الإطار بإنه لن يمضي إلى أي خيار دون التيار الصدري، حفاظاً على وحدة البيت الشيعي، وهذا ما يجعل المشهد يمضي نحو التعقيد لا الحل، فماذا بعد انتهاء مهلة الـ40 يوما؟

إن انقضاء مهلة مقتدى الصدر دون أن ينجح الإطار بتثبيت نفسه ككتلة نيابية كبرى، ودون تمرير مرشحهم لرئاسة الجمهورية، ودون تشكيل حكومة، سيحتم عليهم التعامل مع أحد السيناريوهين: إما القبول بفوز التحالف الثلاثي (الصدريون، إئتلاف سيادة للعرب السنة، الحزب الديمقراطي الكردستاني)  والجلوس في صف المعارضة النيابية، أو إطالة أمد الجمود السياسي الحالي، والذي يعني بالضرورة استمرار حكومة مصطفى الكاظمي لتصريف الأعمال لأشهر أخرى تكون كفيلة بتمرير المشاريع وإدارة السلطة بعيداً عن تأثيرات قوى الإطار، لاسيما بعد أن جرب الإطار خسارة جولة لجان البرلمان والتي ذهبت برمتها إلى أطراف التحالف الثلاثي (تحالف وطن).

قد يكون الصدر وحلفاؤه الطرف المستفيد من تعطيل تمرير رئيس الجمهورية والاتفاق على رئيس وزراء، لاسيما وأن التعطيل مكّن التحالف الثلاثي من السيطرة على جميع اللجان النيابية المهمة، وأبرزها لجان القانونية والمالية والأمن والدفاع، وبات للتحالف الثلاثي كامل الصلاحية لصياغة نظام داخلي لمجلس النواب قد يكون محرجاً وضاغطاً على قوى الإطار وحلفائه، في حال قرروا الاستمرار في منهج مقاطعة الجلسات لمنع تحقيق النصاب. إن هذا الاستحكام على مفاصل صناعة القرار التشريعي داخل مؤسسة البرلمان سيبعد فكرة حلّ البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة جديدة عن أي حوار مستقبلي، على الأقل خلال السنتين القادمتين.

استمرار مصطفى الكاظمي رئيساً لحكومة تصريف الأعمال سيكون في صالح التحالف الثلاثي وبعض المستقلين، فعلى الرغم من أن الحكومة منقوصة الصلاحيات (حكومة تصريف أعمال)، إلا أن الأغلبية المريحة للبرلمان الحالي ستوفر للكاظمي التشريعات اللازمة التي يجعلها بمثابة حكومة تامة الصلاحية، ولاسيما على صعيد الملفات المالية والأمنية والاتفاقيات الإقليمية والدولية. وهذا ما يرجح أن تقوم الأغلبية النيابية التي يمثلها التحالف الثلاثي (تحالف وطن) بالتصويت على تعديل وزاري يضمن السيطرة على السلطة التنفيذية كما تم ذلك في سيناريو السيطرة على اللجان النيابية.

تمثل هذه الاستراتيجية التي يمكنها وصفها بـاستراتيجية "الاحتواء السياسي" للمؤسسات والسيطرة عليها من لدن الصدريين وحلفائهم في فترة "الانسداد" وعدم التوافق بين الإطار والتيار على صيغة ما، إحدى وسائل الضغط على الإطار وحلفائه أيضاً للرضوخ لمعادلة السلطة الجديدة، فإذا استطاع التحالف الثلاثي استمالة أفراد وحركات من خلال عامل الوقت، فيمكن حينها إعلان تحقيق نصاب 220 نائباً اللازم لضمان تمرير رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الوزراء ربما في ذات الجلسة.

لن يسكت ساسة ومسلحو الإطار التنسيقي عن أي سيناريو لا يضمن تمثيلهم السياسي والأمني في السلطة لديمومة مصالحهم ومكتسباتهم الاستراتيجية، إلا إذا أجبرتهم طهران على القبول بحكومة ينفرد الصدر وحلفاؤه في العراق بتشكيلها ولن يكونوا ضمنها، وهذا ما يتطلب من الصدر منح المزيد من الضمانات والتطمينات لإيران لتمرير صفقة تشكيل حكومة الأغلبية.

تتعرض بعض المحافظات ومراكزها إلى حملات إعلامية وأمنية في حال تمسك ممثلوها وفواعلها السياسيون بخياراتهم مع الصدر، وقد لاح ذلك في الآونة الأخيرة تجاه الأنبار مراراً، ولا يمكن أيضا استبعاد قصف أربيل بالصواريخ الباليستية الإيرانية عن ذات السياق، فكلا الطرفين المتحالفين مع الكتلة الصدرية يمثلان الخاصرة الرخوة في المعادلة السياسية، والتي يسهل الضغط عليها، لتجنب مواجهة مباشرة مع الصدر، والتي إذا ما حصلت ستعد بدايةً لحرب أهلية شيعية-شيعية، فالأفضل ضمن حسابات قوى الإطار هو تفتيت مشروع الأغلبية، باستهداف حلفاء الصدر من السنة والكورد، وهذا ما ينبغي للصدريين الانتباه له وفرض وسائل رادعة لحماية حلفائهم، إن كانوا مصرين على الاستمرار في مشروع تحالفهم الثلاثي.

إن الخلاف المُعلن ما بين التيار والإطار على مبدأ التوافقية أو صراع الكتلة الأكبر أو تسمية رئيس الوزراء، ما هو إلا تسطيح لحقيقة الأزمة الناشبة بين الطرفين، فالأزمة الحقيقية ما بين الطرفين هي "أزمة ثقة"، تتضمن مخاوف الطرف الخاسر على مستقبل سلاح الفصائل ومصالحهم المالية المتغولة في جسد ومؤسسات الدولة، وتأثير ذلك كله على صنع القرار السياسي والأمني والاقتصادي التنفيذي والتشريعي، بمقابل أن طرفا آخر يرى أنه أمام فرصة تاريخية تحققت عبر الانتخابات تمنحه الحق في رسم خارطة جديدة لإدارة السلطة، وهذا هو ملخص "الانسداد السياسي" الحالي في العراق.