زيارة البابا فرنسيس إلى العراق

عندما أراد البابا يوحنا بولس الثاني إجراء زيارة مدينة أور العراقية في العام 2002، تعرض طلبه إلى عراقيل من الرئيس حينها صدام حسين وتم إلغاء الزيارة نتيجة لذلك. وبعد 19 عاما أصبح البابا فرنسيس الزعيم الروحي للعالم الكاثوليكي أول بابا يزور العراق من خلال الزيارة التي أجراها في 5 مارس/ آذار 2021. جدير بالذكر، أن البابا فرنسيس كان يرغب في زيارة العراق في وقت سابق، إلّا أن الظروف السائدة في البلاد ومن بعدها انتشار وباء كورونا العالمي تسببت في تأخير هذه الزيارة. تأجيل زيارة البابا كان حاضراً دائماً مراراً وتكراراً في الأشهر الأخيرة أيضا بسبب الضعف الأمني ​​في العراق، حتى أن هناك مزاعم بأن بعض الكرادلة في الفاتيكان ضغطوا على البابا للتخلي عن هذه الزيارة. إلا أن البابا أظهر إرادة شخصية قوية في هذا الصدد ولم يتخلّ عن الزيارة، وأجرى عددا من الاتصالات والاستعدادات من أجل اصطحاب وفد خاص معه من الفاتيكان إلى العراق.

بدورها رحبت السلطات العراقية بالزيارة التاريخية التي استغرقت أربعة أيام ورفعت التدابير الأمنية في البلاد إلى أعلى مستوى. وعلى نفس النهج، أعلنت جماعة "سرايا أولياء الدم"التي نفذت هجمات أربيل في شباط/ فبراير 2021، أنها علّقت أنشطتها من أجل هذه الزيارة. وفي هذا الصدد، تم ترميم وتنظيف الأماكن التي سيزورها البابا فرانسيس والطرق التي ستمر منها قافلته، وتزيينها وتعليق لافتات تحمل رسائل سلام ومحبة. وتابع قرابة 20 ألف شخص طائرة البابا التي هبطت في مطار بغداد في 5 مارس/ آذار في حدود الساعة الثانية بعد الظهر. وفي الوقت الذي استقبل فيه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي البابا فرنسيس على سلم الطائرة، قام الشباب العراقي الذي أكد على التنوع الثقافي للعراق وارتدى ملابس مختلفة، باستقبال البابا في المطار بالرقصات الشعبية. وبعد لقائه بالكاظمي في المطار، تم استقبال البابا وسط مراسم رسمية من قبل الرئيس العراقي صالح برهم في القصر الجمهوري. وهنا أدلى البابا بتصريحاته الأولى في العراق أمام عدسات الكاميرا. وأوضح البابا أنه جاء من أجل الحج، واصفا العراق بمهد الحضارات. وقال إن العراق تعرّض للحروب والإرهاب والصراعات الطائفية على مدار عشرات السنوات. كم أكد البابا أنه يدعو للعراق منذ سنوات، مشيرا إلى عدم وجود مكان بعد الآن للتطرف والعنف والتعصب بين العراقيين. وأوضح البابا أن العراق يحتاج إلى وحدة وأخوّة التنوع الديني والعرقي والثقافي من أجل بناء مستقبله.

عقد البابا فرنسيس عدة لقاءات في القصر الجمهوري مع بعض القادة السياسيين في العراق وزعماء منظمات المجتمع المدني، وعقب ذلك اختتم البابا يومه الأول لزيارته للعراق التي تستغرق 4 أيام بزيارة إلى كنيسة "سيدة النجاة" للسريان الكاثوليك في بغداد، والتقى هناك بعدد من رجال الدين السريان والكلدان. كنيسة سيدة النجاة هذه، كانت قد تعرضت لجهوم من قبل تنظيم القاعدة في العراق خلال مراسيم القداس يوم الأحد 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2010، وأسفر الهجوم عن مقتل 58 شخصا. ويعد هذا الهجوم نقطة تحول هامة في اتخاذ المواطنين المسيحيين قرارا بمغادرة العراق. لذلك قام البابا بزيارة أماكن ذات أهمية رمزية على هامش اتصالاته في العراق.

وبالفعل، ذهب البابا فرنسيس في اليوم الثاني من الزيارة إلى النجف وعقد لقاء مع آية الله علي السيستاني استغرق حوالي 50 دقيقة. في الواقع، شكّل اللقاء بين المرجعين أصعب خطوة في مرحلة التخطيط للزيارة. جدير بالذكر، أن آية الله السيستاني يتخذ مبدأ عدم مغادرة النجف ويرفض إجراء لقاءات مع زعماء سياسيين أجانب ويبلغ من العمر 90 عاما ويواجه صعوبة في الحركة بسبب حالته الصحية. لذلك هناك ادعاءات بأن السيستاني وافق على لقاء البابا بشرط أن يكون اللقاء في منزله. وبالفعل، البابا زار السيستاني في منزله بالنجف. وشهد اللقاء بين المرجعين العديد من اللفتات المتبادلة. دخل البابا المنزل المستأجر المتواضع للغاية الذي يقيم فيه آية الله السيستاني، وخلع حذاءه، في حين استقبل آية الله السيستاني البابا واقفاً. وشدد آية الله السيستاني خلال الاجتماع على حق المسيحيين في العيش كمواطنين متساوين في سلام وأمن مثل باقي العراقيين، فيما قدم البابا فرنسيس شكره للسيستاني، وأكد أنه رفع صوته في الأوقات الصعبة من أجل حماية شرائح المجتمع الضعيفة والتي تعرضت للظلم. ولاقت لقطات نهوض السيستاني على قدميه في نهاية الاجتماع لتوديع البابا ومسكهم أيادي بعضهم البعض خلال الوداع، صدى كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي.

بعد زيارة النجف، توجه البابا إلى مدينة أور التاريخية مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام، والتقى هناك عند معبد "الزقورة" التاريخي مع ممثلي أصحاب الأديان والثقافات المختلفة مثل المسلمين والمسيحيين والإيزيديين والبهائيين، وشارك في صلاة موحدة بين الأديان. وفي خطاب ألقاه في أور، أكد البابا رفضه للأعمال الإرهابية التي تتم باسم الدين، ووصف تغذية التطرف والعنف والعداوة، بأنها خيانة للدين. وأوضح البابا فرنسيس أن الإيمان انطلق من أور، ودعا إلى تعزيز الأخوة بين الأديان والثقافات المختلفة كأحفاد النبي إبراهيم. جدير بالإشارة أيضا، أن البابا استمع إلى القرآن الكريم في أور، حيث تُليت بعض الآيات العطرة من سورة إبراهيم. وعلى شرف اجتماع البابا فرنسيس وآية الله علي السيستاني ولقاء الأديان في مدينة أور، أعلنت الحكومة العراقية يوم 6 مارس/ آذار "يوم وطني للتسامح والتعايش".

بعد عودته إلى العاصمة بغداد قادما من محافظة ذي قار، ترأس البابا فرنسيس قداسا في كنيسة مار يوسف، لينهي بذلك اليوم الثاني من زيارته للعراق. وفي اليوم الثالث من الزيارة، وصل البابا فرنسيس إلى مطار أربيل قرابة الساعة الثامنة والنصف صباحا، حيث استقبله شبان يرتدون ملابس تقليدية ويحملون في أياديهم أغصان الزيتون، وسط ترانيم باللغة الآرامية. وكان في استقبال البابا في مطار أربيل، رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس الوزراء مسرور بارزاني ونائب رئيس الوزراء قوباد طالباني وعدد من الوزراء. جدير بالذكر، أن مسعود بارزاني أيضا حضر الاجتماع الذي جرى في الصالة الرئيسية لكبار الشخصيات بالمطار. وبعد لقاءاته في مطار أربيل، توجّه البابا بطائرة مروحية إلى الموصل، حيث أقام قداساً وأدى الصلاة على أرواح ضحايا الذين تعرضوا لمذبحة على أيدي تنظيم داعش الإرهابي في باحة كنيسة الطاهرة في العام 2014. وأكد البابا فرنسيس أن هجرة المسيحيين ومنتسبي الإثنيّات الثقافية الأخرى تضر بالنسيج الاجتماعي في العراق. مشددا على أن: "الأخوّة أقوى من الصراعات، والأمل أقوى من الكراهية، والسلام أقوى من الحرب". وعقب قداس كنيسة الطاهرة، أجرى البابا زيارة إلى بلدة الحمدانية (قره قوش) التي يعيش فيها عدد لا بأس به من المسيحيين، وأقام قداسا في كنيسة الطاهرة الكبرى التي تعرضت إلى تدمير جراء هجوم إرهابي نفذه تنظيم داعش في العام 2014 ثم أعيد ترميمها لاحقا. وعاد البابا إلى أربيل لحضور آخر فعالية جماهيرية خلال الزيارة التي استمرت أربعة أيام، حيث عقد قداسا جماهيريا في استاد "فرانسو الحريري" بمشاركة 10 آلاف شخص. وخلال الفعالية الجماهيرية الأخيرة له في العراق، أنهى البابا حديثه مؤكدا أن العراق سيبقى دائما في قلبه. وفي صباح اليوم التالي توجه البابا إلى بغداد من أجل مغادرة العراق والعودة إلى روما.

كان من اللافت للانتباه، العزيمة القوية التي أظهرها البابا فرنسيس البالغ من العمر 84 عاما ويعرج جراء إصابته بمرض "عرق النسا"، وذلك لتمكنه من زيارة خمس مدن عراقية مختلفة على مدار ثلاثة أيام، وبعثه رسائل سلام وأخوّة من مناطق مختلفة في البلاد. زيارة البابا ركزّت بشكل أساسي على رفع الروح المعنوية للأقلية المسيحية التي تعرضت لإرهاب داعش ويتضاءل عدد سكانها تدريجيا في البلاد. وعلى عكس كافة الصراعات في الماضي، أكد البابا أهمية الأخوّة بين منتسبي الأديان والأعراق المختلفة في العراق، وشدد على ضرورة عدم هجرة الأقلية المسيحية ودعاهم إلى ضرورة مواصلة العمل مع أشقائهم العراقيين في مرحلة إعادة بناء البلاد. من ناحية أخرى، كان لعدم وجود مشاكل أمنية في جميع أنحاء العراق أثناء زيارة البابا، مساهمة في تحسين صورة العراق أمام الرأي العام الدولي. وبالنظر إلى طبيعة الزيارة التي قام بها البابا، فمن الجدير بالذكر أنه زار 5 مدن مختلفة، وأحيانا ظهر في الشوارع، وأقام قداساً في استاد أربيل.

مما لا شك فيه، أن الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في الزيارة كان لقاء البابا فرنسيس مع آية الله علي السيستاني في النجف، لأن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يجتمع فيها البابا مع مرجع ديني أعلى للشيعة، وبعث رسائل سلام بين الأديان. في واقع الأمر، يمكن اعتبار هذا اللقاء الذي جمع بين مرجعين رئيسيين يُعرفان برسائل السلم الاجتماعي والحوار وينتقدان استخدام الدين كدافع للعنف، كان بمثابة رسالة رمزية في حد ذاته. ومع الزيارة، تبيّن للرأي العام الدولي أنه تم قبول آية الله السيستاني والنجف كمرجعيات للشيعة. وبالتالي، تعززت أهمية حوزة النجف في العالم الشيعي مع هذه اللقاء. وكما هو معروف، اشتد التنافس في الآونة الأخيرة بين النجف وقم (إيران) على المركزية الشيعية. النجف تحاول استعادة حوزة الفكر الشيعي التي تسيطر عليها إيران، وهذا الوضع له تأثير سلبي على السياسة العراقية. وفي واقع الأمر، فإن بعض الجماعات العراقية القريبة من إيران انتقدت بشكل ضمني زيارة البابا للعراق. ومن اللافت للانتباه في هذا الصدد، أن الرأي العام الدولي يشدد على مسألة "السيادة العراقية" منذ تولّي الكاظمي منصبه، كما أن الكاظمي يتطرق في كل تصريحاته وخطاباته تقريبا إلى مسألة "السيادة العراقية". وفي هذا النطاق، وبالنظر إلى أن العراق سيشهد انتخابات عامة في المرحلة المقبلة، فإن هناك تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الزيارة ستحقق منفعة سياسية للكاظمي في الانتخابات أم لا. وعلينا أن نقول، إن العراق يبذل جهودا حثيثة من أجل التدويل "التحوّل للساحة الدولية" بفضل مساعي الكاظمي والدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة والدول الغربية. العراق يسعى لتطوير آليات تعاون وحوار مع دول مؤثرة ولها ثقل في الشرق الأوسط مثل تركيا والمملكة العربية السعودية. من ناحية أخرى، يمكن اعتبار زيادة الناتو لعدد قواته في العراق بأنه جزء من جهود العراقي للتدويل. وفي هذه النقطة، من الواضح أن الولايات المتحدة تحاول تقاسم مسؤوليتها مع الأطراف الدولية. ولهذا السبب، لن يكون من الخطأ القول، إن زيارة البابا للعراق تدعم أيضا سياسة الولايات المتحدة هذه.