الهجومات الصاروخية على معسكر التاجي: حرب إستنزاف جديدة في العراق

بينما كان العالم كله منشغلاً بأخبار انتشار فايروس الكورونا وتهاوي أسعار النفط، فاجأتنا الأخبار بقيام الفصائل العراقية المدعومة من إيران في مساء يوم الأربعاء 11 آذار 2020، بقصف معسكر التاجي (27 كم شمال بغداد) بأكثر من 10 صواريخ كاتيوشا عيار 107 ملم، تسبب ذلك الهجوم بمقتل جنديين أمريكيين وجندي بريطاني، فضلاً عن إصابة 12 من العسكريين العراقيين والأجانب. معسكر التاجي هو قاعدة عسكرية عراقية تضم جنوداً أجانب من قوات التحالف الدولي في العراق الذي تقوده الولايات المتحدة، والمهمة الرسمية (المعلنة) للجنود الأجانب في هذه القاعدة، هي المساعدة في تدريب وتوجيه قوات الأمن العراقية ضمن إطار مكافحة الإرهاب والحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي

تصاعدت المواقف بعد ذلك الهجوم الصاروخي، الولايات المتحدة وبريطانيا توعدتا بمحاسبة المسؤولين عن ذلك الهجوم، وصرح وزير الدفاع الأمريكي "مارك إسبر" يوم الخميس 12 آذار " بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منحه كامل الصلاحيات للرد على الهجوم الذي استهدف قاعدة التاجي". الجنرال "كينيث ماكنزي" قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي اتهم فصيل "كتائب حزب الله في العراق" المدعوم من إيران بتنفيذ الهجوم على معسكر التاجي، إذ قال الجنرال ماكنزي خلال جلسة إستماع في الكونغرس الأمريكي"إننا ما زلنا نحقق في الهجوم، ولكننا متأكدين بأن كتائب حزب الله هي الفصيل الوحيد التي يمكن أن ينفذ مثل هذه الهجمات". رئاسة الجمهورية في العراق أصدرت بياناً أدانت فيه هجوم التاجي ووصفته بـ"الإعتداء الإرهابي". قيادة العمليات المشتركة(أعلى قيادة عسكرية عراقية ترتبط برئاسة الوزراء) أصدرت بياناً وصفت فيه هجوم التاجي بـ"تحدياً أمنياً خطيراً جداً وعملاً عدائياً"،  كما أعلنت قيادة العمليات المشتركة بأن القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي (حالياً يُعد رئيس حكومة تصريف أعمال بعد إستقالته) أصدر أوامره باعتقال منفذي هذا الهجوم. رئيس البرلمان العراقي "محمد الحلبوسي" أيضاً أدان هجوم التاجي، وطالب بحماية القواعد العسكرية العراقية التي تضم قوات التحالف الدولي، وطالب بإتخاذ إجراءات صارمة ضد الجهات التي تستهدف هذه القواعد والمعسكرات.

تصريحات الرئاسات الثلاث في العراق حول هجوم التاجي عكست تصعيداً في مواقفها تجاه الهجمات التي تنفذها الفصائل المدعومة من إيران،  لكن كتائب حزب الله في العراق أصدرت بياناً حول هذا الهجوم، وصفت هذا الهجوم بأنه عمل بطولي، وانها تدعو "الجهات المجهولة" التي نفذت هذا الهجوم إلى الكشف عن نفسها، وان كتائب حزب الله في العراق ستؤمن الحماية لتلك الجهات، ومن  الواضح أن بيان كتائب حزب الله في العراق هو محاولة مكشوفة لنفي علاقتها بهجوم التاجي، كذلك أصدرت بعض الفصائل المدعومة من إيران بيانات  حول هجوم التاجي، مشابهة  لمضامين بيان كتائب حزب الله في العراق، مثل "حركة النجباء" و"حركة عصائب أهل الحق".

بعد ساعات من هجوم التاجي في 11 آذار، تعرضت مواقع الفصائل المسلحة المدعومة من إيران في منطقة "البوكمال" على الحدود العراقية-السورية لقصف جوي من طائرات مجهولة، نتج عنه مقتل أكثر من 26 عنصر من تلك الفصائل، لكن قوات التحالف الدولي في العراق الذي تقوده الولايات المتحدة نفت  علاقتها بذلك الهجوم الجوي، وانه لم يكن ردها على هجوم التاجي كما روجت له بعض وسائل الإعلام، وأن ردها على هجوم التاجي قادم.

في فجر يوم الجمعة 13 آذار شنت طائرات مقاتلة أمريكية هجوماً على مواقع تابعة للفصائل المسلحة المدعومة من إيران في محافظات (بابل، كربلاء)، أشارت بعض المصادر إلى مشاركة  طائرات بريطانية في هذا الهجوم، وأكد  البنتاغون في بيان له بأن الولايات المتحدة نفذت ضربات جوية فجر الجمعة ضد مواقع ومنشآت ومخازن تابعة لـ"كتائب حزب الله في العراق"، كرد على الهجوم الذي تعرضت له قاعدة التاجي، بينما ذكر بيان قيادة العمليات المشتركة العراقية حول تلك الضربات الجوية، بأن هنالك مواقع تابعة للجيش والشرطة العراقية، ومواقع مدنية مثل مطار كربلاء (قيد الإنشاء)، قد شملتها تلك الضربات الأمريكية.

في صباح يوم 14 آذار تعرض معسكر التاجي لهجوم جديد بـ33 صاروخ كاتيوشا، فأصدرت قيادة العمليات المشتركة العراقية ياناً شديد اللهجة حول هذا الهجوم الجديد، ذكرت فيه بأن هذا الهجوم الصاروخي قد وقع على وحدات دفاع جوي تابعة للجيش العراقي في معسكر التاجي، وقد أوقع هذا الهجوم إصابات في صفوف أفراد الجيش العراقي، وتوعدت قيادة العمليات المشتركة بمحاسبة منفذي الهجوم وداعميهم من الجهات السياسية-المسلحة التي تشجع مثل هذه الهجمات، ومن جهة أخرى طالبت قيادة العمليات المشتركة الجانب الأمريكي بعدم الرد على هذه الهجمات، لأن قيادة العمليات المشتركة ترى بأن الرد العسكري الأمريكي على هذه الهجمات، سيصعد من هذه الهجمات ولن يمنعها.  كما طالبت قيادة العمليات المشتركة بتسريع انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق، وهذه هي المرة الأولى التي تطالب فيه المؤسسة العسكرية العراقية بانسحاب قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من العراق، ففي السابق كانت المؤسسة العسكرية العراقية ترفض انسحاب القوات الأمريكية من العراق، لأنها كانت ترى بأن العراق ما زال بحاجة للدعم العسكري الأمريكي لمواجهة مخاطر الإرهاب، وبخاصة تنظيم داعش الإرهابي.

بعد هجوم التاجي الثاني، صدر بيان من فصيل مسلح يسمع عنه لأول مرة، أطلق على نفسه "عصبة الثائرين"، تبنى هذا الفصيل في بيانه الأول تنفيذه لهجومات التاجي. هنالك إفتراضين لظهور هذا الفصيل فجأة بعد هجومات التاجي، الأول هو أن هذا الفصيل هو عبارة عن تشكيل جديد يجمع مفارز الصواريخ التابعة للفصائل المسلحة المختلفة المدعومة من إيران في فصيل واحد، والإفتراض الثاني أن هذا الفصيل الجديد هو وحدة صاروخية جديدة تتبع كتائب حزب الله في العراق، علماً أن الوحدة الصاروخية المعروفة لكتائب حزب الله في العراق هي "سرايا الدفاع الشعبي". أما الغاية من ظهور بيان هذا الفصيل الجديد فهي واحدة، إبعاد تهمة تنفيذ هجومات التاجي عن الفصائل المسلحة المعروفة، بخاصة بعد سقوط جنود عراقيين في تلك الهجومات.

    بعد استعراضنا للخارطة الزمنية للأحداث والمواقف المتعلقة بالهجمات الصاروخية على معسكر التاجي، من المفيد إستعراض الخارطة التحليلية لتلك الأحداث والمواقف. بالرغم  من وجود أكثر من 60 فصيل مسلح مدعوم من إيران في العراق، لماذا يركز الأمريكان على كتائب حزب الله في العراق؟ يصنف الأمريكان الفصائل المدعومة من إيران في العراق إلى نوعين:

*  النوع الأول: هي الفصائل التي تخضع لأعلى سلطة قرار سياسي-أمني إيراني، وهذه الفصائل تتحرك وفقاً لأوامر القيادة الإيرانية المباشرة ضمن إطار تطورات المواجهة الأمريكية- الإيرانية، دون الإكتراث بأوضاع العراق السياسية والأمنية والإقتصادية، هذه الفصائل هي الوحيدة المخولة بإستخدام تقنيات الصواريخ (القصيرة والمتوسطة المدى)، والطائرات المسيرة الإيرانية في الساحة العراقية، كما أن هذه الفصائل هي الوحيدة المخولة بتنفيذ الهجمات الدقيقة التي تهدف لإيقاع خسائر بشرية في صفوف القوات الأمريكية في العراق، تأتي في مقدمة هذه الفصائل كتائب حزب الله في العراق. حتى باقي الفصائل التي يمكن تصنيفها-أمريكياً- ضمن النوع الأول مثل "حركة النجباء" و"حركة العصائب" و"كتائب سيد الشهداء"، فانها تستعين بالقوة الصاروخية لكتائب حزب الله في العراق عند تنفيذ هجماتها. ذكرت القيادة المركزية للجيش الأمريكي في بيان لها مؤخراً، بأن كتائب حزب الله في العراق نفذ أكثر من 12 هجوم صاروخي ضد المواقع الأمريكية في العراق خلال الـ6 أشهر الأخيرة.

*  النوع الثاني: من الفصائل المدعومة من إيران-بحسب التصنيف الأمريكي-، فهي باقي الفصائل المنضوية في الحشد الشعبي، هذه الفصائل تحاول الموازنة (قدر الإمكان) بين التوجهات الإيرانية والأوضاع السياسية والأمنية في العراق، هذه الفصائل تحصل فقط على الأسلحة الإيرانية التقليدية، وقد تقوم بعض هذه الفصائل بشن هجمات ضد أهداف أمريكية في العراق، ولكنها عادة تكون هجمات غير دقيقة ولا توقع خسائر بشرية في صفوف الأمريكان، وتُنفذ  بصواريخ غير متطورة محلية الصنع.

لتفسير توقيت هجومات  التاجي، يجب أن نلاحظ أن إيران تمر حالياً بأسوء أوضاعها، فمن جهة أن حملة الضغط القصوى الأمريكية مستمرة في خنق الإقتصاد الإيراني، ومن جهة أخرى أن الهبوط الأخير لأسعار النفط أضاف تحدياً جديداً لإيران، ثم يأتي التفشي الكارثي لفايروس كورونا في إيران، الذي يضع حالياً النظام الصحي في إيران أمام حافة الإنهيار. أمام هذه التحديات الخطيرة وجدت إيران أنه من الضروري إرسال رسائل لخصومها، بأنها لن تستسلم للضغط الأمريكي، وأنها ما زالت تمتلك وسائل مقاومة وضغط ضد الأمريكان، لتُشعر  خصومها ومؤيديها بأنها ما زالت متماسكة، فوجدت إيران في العراق ساحة مثالية لإرسال هذه الرسائل، علماً أن "علي شمخاني" الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني قد زار العراق في يوم 8 آذار، قبل هجوم التاجي بثلاثة أيام!

يبدو إن إيران قررت حالياً التحول إلى مرحلة جديدة في صراعها مع الولايات المتحدة، وهي مرحلة إستنزاف الفصائل العراقية المرتبطة بها، في حرب مفتوحة مع القوات الأمريكية الموجودة في العراق، وهذه هي المرحلة التي تسبق المواجهة العسكرية المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران. نجاح إيران في مرحلة حرب إستنزاف الفصائل المسلحة في العراق تعتمد على 4 عوامل: صمود تلك الفصائل وثبات ولائها لإيران؛ إنش غال الأمريكان بالإنتخابات الرئاسية؛ إ نشغال العالم بمواجهة تفشي فايروس كورونا؛ إنشغال  العالم بتداعيات هبوط أسعار النفط وتراجع الإقتصاد العالمي وهبوط مؤشرات البورصات العالمية.

يبدو أن الولايات المتحدة هي أيضاً قد قررت التحول إلى مرحلة جديدة في مواجهتها مع إيران، وهي مرحلة (التجريد التدريجي) لقوة الفصائل المدعومة من إيران في العراق، وهي المرحلة التي قد تسبق استخدام الأمريكان لقوات برية خاصة في مواجهتها مع تلك الفصائل، للقيام باستهداف المقرات والشخصيات القيادية لتلك الفصائل. ففي السابق نفذت القوات الأمريكية ضربات جوية ضد مواقع الفصائل المدعومة من إيران، فقط في الحدود العراقية- السورية وفي مناطق نائية بعيدة عن مراكز المدن العراقية، أما بعد هجوم التاجي فأن الأمريكان نفذوا ضربات جوية ضد مواقع تلك الفصائل في داخل مراكز المدن العراقية. نجاح الأمريكان في مرحلة(التجريد التدريجي) لقوة الفصائل المدعومة من إيران في العراق يعتمد 4 عوامل أيضاً: تراجع الدعم الشعبي والسياسي في العراق لتلك الفصائل؛ ض عف قدرة إيران على استمرار دعم تلك الفصائل؛ ح دوث تغيير سياسي في العراق يكون لصالح الأمريكان، أو على الأقل يكون محايداً بين طرفي الصراع إيران والولايات المتحدة؛ اس تمرار حياد المؤسسة العسكرية العراقية في هذه المواجهة، وعدم وقوفها(رسمياً) إلى جانب الفصائل المدعومة من إيران.