الصراع على النفط والغاز الطبيعي في سورية: حقيقة أم وهم

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الصراع الدولي على مصادر الطاقة في سوريا (النفط والغاز الطبيعي)، بشكل قد يكون مبالغ فيه، بل إن بعض التقارير الصحفية أشارت إلى احتمال نشوب حرب عالمية في سوريا بسبب الصراع على تلك المصادر، وبخاصة بين الولايات المتحدة وروسيا. هذا أمر مبالغ فيه بشكل كبير، فالقوى الدولية لم تتدخل في سوريا من أجل النفط أو الغاز، وإنما لأسباب عديدة أخرى. تحولت مصادر الطاقة في سوريا لاحقاً إلى أداة، تستخدمها بعض الدول لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لوجودها في سوريا. يناقش هذا المقال أسباب التدخل الأجنبي في سوريا، مع توضيح أن موارد النفط والغاز لم تكن الدافع الرئيس وراء ذلك التدخل.

 تنتشر حقول النفط السوري في الشمال الشرقي من هذا البلد، في حين تتركز حقول الغاز في الوسط، مع توقعات بوجود احتياطي كبير في المياه الدولية السورية المطلة على البحر المتوسط، ويبلغ حجم الاحتياطي من النفط في سورية نحو 2.6 مليار برميل. وكان الإنتاج قد انخفض إلى أقل من 400 ألف برميل يومياً قبل بدء الثورة. ومنذ اندلاعها عام 2011 وحتى الآن لا توجد إحصائيات موثوقة عن حجم الإنتاج، وقد أشارت بعض التقارير إلى أنه يتراوح بين 70-80 ألف برميل يومياً، وهو في معظمه من النفط الثقيل التي ترتفع فيه نسبة الكبريت، وهو من أدنى أنواع النفط من حيث السعر على مستوى العالم. أما بالنسبة للغاز الطبيعي فهو يستهلك محلياً، ولا توجد دراسات مؤكدة عن حجم الاحتياطي الموجود في المياه الإقليمية.

 لا يوجد شيء مما سبق ما يجذب الدول الثلاث (إيران، الولايات المتحدة وروسيا) الأكثر تدخلاً في الشأن السوري، والتي توجد قواتها في مناطق مصادر الطاقة في سوريا، فهي من أكثر دول العالم إنتاجاً للنفط والغاز الطبيعي وتمتلك احتياطيات كبيرة منهما.

بدأت إيران بالتدخل في الشأن السوري منذ اندلاع الثورة عام 2011، وساندت النظام بطرق عديدة: الحرس الثوري، والدعم العسكري، والمرتزقة، والدعم المالي، كما أرسلت له العديد من شحنات النفط عبر البحر. وبعد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحد على النفط الإيراني، لم تعد إيران قادرة على بيع النفط، وهي في ذات الوقت تمتلك ثاني احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا. يشير ذلك إلى أن إيران لم تتدخل في سوريا من أجل النفط، بل لتحقيق أهداف أخرى تتعلق بفرض سيطرتها على المنطقة، ومد النفوذ الشيعي الفارسي، وتحقيق أحلامها المتعلقة بإعادة بناء الإمبراطورية الفارسية. لقد سمحت الحرب لإيران بالتدخل بشكل كبير في سوريا، وكانت الفرصة مناسبة أمامها لفتح الطريق باتجاه البحر المتوسط مروراً بالعراق. لكن يبدو أن هذه الطموحات تراجعت بفعل الوجود الروسي في سوريا، حيث إن روسيا حدت من توسع النفوذ الإيراني في البلد من أجل فرض هيمنتها.

وجاء تدخل الولايات المتحدة في سوريا بشكل مباشر عقب إنشاء التحالف الدولي للقضاء على داعش في سبتمبر 2014 وقيادتها لهذا التحالف، واتخذت من ذلك ذريعة لدعم حلفائها، قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وتأسيس مجموعة من القواعد العسكرية لها داخل سوريا. لقد كان وجود القوات الأمريكية في سوريا ضمانة للولايات المتحدة بسير الحرب وفقاً للإيقاع الذي تريده، ولم تكن لتسمح لدولة أخرى (روسيا أو إيران تحديداً) بفرض واقع لا توافق عليه، ومن ثم جاء دعمها الكبير لقسد من أجل إشغال تركيا بقضايا خارجية تؤثر في صعودها كقوة إسلامية كبرى تدافع عن حقوق المسلمين في كل مكان. ويبقى الحفاظ على أمن إسرائيل أهم الأسباب الداعية للوجود الأمريكي في سوريا.

لقد أعلن الرئيس ترامب في ديسمبر عام 2018 عن سحب القوات الأمريكية من سوريا وهزيمة داعش، ولكن لم يبدأ سحب القوات إلا عقب إعلان ترامب الثاني في أكتوبر 2019 عن سحب القوات الأمريكية من سوريا بأسرع وقت ممكن. ويبدو أن الولايات المتحدة أعادت حساباتها بعد خيبة الأمل التي تعرض لها حلفاؤها الأوروبيين جراء الانسحاب، ووجدت أنها ستخرج من سوريا خالية الوفاض، وستفسح المجال أمام روسيا وإيران للسيطرة على المشهد السوري، وسيتعرض حلفاؤها قسد إلى هزيمة مدوية من قبل تركيا والجيش الوطني السوري. لذلك قررت الولايات المتحدة إبقاء بعض من قواتها (حوالي 600 جندي) في سوريا بذريعة حماية حقول النفط من داعش. لقد قال ترامب في أحد تصريحاته في أكتوبر 2019 بعد بدء الانسحاب من سوريا ما يلي:

"هناك كميات كبيرة من النفط (في سوريا) ونحن نحميها لأسباب عديدة:

  1. نحن نحمي النفط من داعش الذي حصل على ثروة هائلة منه.
  2. قد يدعي أحد ما أحقيته في النفط، وعلينا في هذه الحالة أن نتفاوض مع من يدعي ذلك للوصول إلى صفقة إذا وجدنا أنها عادلة."

وقد يكون السبب الأول واهياً لأن الولايات المتحدة نفسها أعلنت القضاء على داعش، في حين أن السبب الثاني هو السبب الحقيقي لسيطرة القوات الأمريكية على حقول النفط، وهو يمثل ضمانة لحماية مصالحها الاستراتيجية ومصالح شركائها في المنطقة وتوفير مصدر دخل لهم، ومن أجل استمرار الضغط على النظام وروسيا لعدم مهاجمة قسد.

كانت قسد قد عقدت عدة اتفاقيات مع النظام بخصوص النفط الموجود في الشمال الشرقي، وتضمنت بعض تلك الاتفاقيات حصول قسد على 75 برميل مازوت من النظام مقابل إعطائه 100 برميل نفط خام (باعتباره يسيطر على مصافي التكرير في حمص وبانياس). وأشارت تقارير إلى أن النظام يحصل على 65% من عائدات النفط مقابل حصول قسد على 35% إضافة إلى الكهرباء والخدمات وتيسير التبادل التجاري. وبموجب هذه الاتفاقيات أعاد النظام تفعيل مؤسساته الرسمية في الحسكة ودير الزور والرقة وما يزال يحتفظ بقوات عسكرية في مراكز بعض المدن هناك. وتجدر الإشارة إلى أن عراب الاتفاقيات بين الجانبين هو حسام قاطرجي، أحد أعضاء البرلمان السوري، وهو أحد الشخصيات التي فرضت عليها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عقوبات صارمة عام 2018 بسبب شرائه النفط من داعش.

كل ذلك يجري تحت أنظار الولايات المتحدة وبمعرفتها، بالإضافة إلى قيام قسد بإرسال بعض النفط السوري إلى كوردستان العراق، حيث يكرر هناك ويعاد تصديره عبر خط (كركوك-جيهان) على أنه نفط عراقي. وكانت الولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على قطاع النفط السوري بعد عام 2011 مما دفع بالشركات الأجنبية المستثمرة لمغادرة سوريا. يمكننا القول هنا إن الولايات المتحدة لا تقوم بحماية النفط السوري كما تدعي، بل إنها تقوم بحماية عملية سرقته وتقوم بتسهيلها.

بدأت روسيا باستخدام قوتها العسكرية لدعم النظام في سوريا في عام 2015، وساعدت بشار الأسد في البقاء في الحكم ولو بشكل أسمي، وذلك بعد قتل عشرات الآلاف من المدنيين. ثم ما لبثت روسيا أن بدأت بتقليص دور إيران في سوريا، وبدت هي الحاكم الفعلي، ولم يبق أي دور للنظام خاصة على الصعيد الدولي. وتعمدت روسيا إهانة بشار الأسد عدة مرات خاصة خلال الزيارة التي أجراها بوتين إلى قاعدة حميميم في ديسمبر 2017 لتظهر أنها الحاكم الفعلي لسوريا.

لقد شكلت الحرب في سورية فرصة ممتاز لروسيا من أجل السيطرة على جغرافية سوريا، الأمر الذي حقق لها فوائد عديدة، منها التدخل في شؤون سوريا والشرق الأوسط بشكل مباشر، والحفاظ على توازن النفوذ مع الولايات المتحدة في إطار الحرب الباردة في الشرق الأوسط، كما أنها تمكنت من الحصول على موطئ قدم لها في المياه الدافئة (البحر المتوسط)، وهو أمر مهم جداً للقوات البحرية الروسية نظراً لتجمد السواحل الروسية لفترة طويلة من السنة. أضف إلى ذلك أن السيطرة على جغرافية سوريا تعني قطع الطريق أمام أي محاولة لمد الغاز الطبيعي من منطقة الشرق الأوسط باتجاه أوروبا. وبالنظر إلى الدور الروسي في ليبيا، يبدو أن روسيا تحاول إحكام الطوق حول أوروبا لجعلها في يوم ما تحت رحمة الغاز الروسي فقط. ولا ننسى أن الحرب في سوريا كانت مجالاً لتجريب مئات الأنواع من الأسلحة الروسية وتدريب القوات الروسية على أرض الواقع على حساب دماء الشعب السوري.

وبدأت روسيا تعمل على ترسيخ وجودها في سورية لعشرات السنين، وبدا ذلك واضحاً من خلال الاتفاقيات التي وقعتها مع النظام مثل تلك الخاصة بإدارة ميناء طرطوس والتي تمتد لمدة 49 عاماً والتي تم توقيعها في عام 2019. وكانت روسيا قد وقعت مع النظام اتفاقيات عديدة في السنوات الأخيرة، تسيطر بموجبها على النفط والغاز في سوريا وتتمتع بحقوق حصرية لإنتاجهما. وتنص الاتفاقيات على حق روسيا في إعادة تأهيل آبار النفط والبنية التحتية، وتقديم الدعم الاستشاري في مجال الطاقة وتدريب الكوادر الفنية. وتبلغ قيمة بعض هذه الاتفاقيات حوالي 40 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك توجد اتفاقية تم توقيعها مع شركة حماية روسية عام 2017 تتضمن حماية المنشآت النفطية والغازية من داعش مقابل الحصول على 25% من الأرباح.

لقد ضمنت روسيا بموجب تلك الاتفاقيات سيطرة شبه كاملة على قطاعي النفط والغاز في سورية مستقبلاً، وستكون هذه الاتفاقيات حملاً ثقيلاً على الشعب السوري في السنوات القادمة لأنها شرعية من حيث الإطار القانوني، فالنظام ما يزال يمثل الدولة السورية على الصعيد الدولي، مما يعني أن الاتفاقيات ملزمة لأطرافها – روسيا وسوريا. ومع ذلك، توجد عوائق أمام سيطرة روسيا على النفط السوري في الوقت الحالي، أهمها:

  • سيطرة الولايات المتحدة وقسد على حقول النفط السوري. لقد حاولت القوات الروسية التقدم باتجاه الحقول الموجودة في دير الزور في شباط 2018، إلا أن القوات الأمريكية دمرت جميع القوات المتقدمة. وصرحت روسيا حينها بمقتل 5 عناصر من قواتها، إلا أن تقارير أشارت إلى مقتل أكثر من 200 عنصر. وهذه هي المرة الوحيدة التي حدثت فيها مواجهة مباشرة بين القوات الأمريكية والروسية في سوريا.
  • العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على قطاع النفط في سوريا. وهذا يعني أن روسيا لن تكون قادرة على بيع النفط السوري في الأسواق الدولية.
  • الاتفاقيات المبرمة سابقاً مع شركات عالمية والتي قد ما تزال سارية المفعول.

لذلك من المرجح أن تركز روسيا في المستقبل القريب على قطاع الغاز الذي يتم استهلاكه محلياً في القطاع المنزلي وتوليد الطاقة الكهربائية، وعلى عمليات التنقيب في المياه الإقليمية والبادية السورية.

ويبدو أن الولايات المتحدة ستقوم بمفاوضة روسيا على حقول النفط من أجل الحصول على مكاسب لها سواء في سوريا أو في أي منطقة أخرى في العالم حيث يدور الصراع بالوكالة بين الدولتين (أوكرانيا مثلاً)، أو أن الولايات المتحدة ستجعل من حقول النفط ورقة ضغط بيد قسد في مفاوضاتها مع النظام من أجل الحصول على مكاسب سياسية مستقبلاً. وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستخرج من سوريا عاجلاً أم آجلاً بعد الحصول على مكاسب استراتيجية لها أو لحلفائها سواء ارتبط ذلك بالنفط والغاز أم لا، وستسيطر روسيا على قطاعي النفط والغاز، وستبقى في سوريا وستتحكم فيها لفترة طويلة من الزمن.