قراءة للأزمة السياسية والدستورية في تونس

مفارقة التأسيس الدستوري
كان من الطبيعي والمتوقع أن يحمل الدستور التونسي لعام 2014 أفكار القوى السياسية الصاعدة بعد الثورة، وعلى رأسها تقليص صلاحيات رئيس الدولة واعتماد نظام سياسي أكثر ميلاً للنظم البرلمانية، لكن المفارقة كانت قد حدثت في تلك اللحظة بالذات، فقد تم الإبقاء على انتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر من الشعب، فاستوى في ذلك من حيث مصدر السلطة مع البرلمان الذي ينبثق كذلك عن الإرادة المباشرة للشعب، ولكن مع تباين في الصلاحيات تميل كفته لصالح البرلمان، ولما كانت نزاهة الانتخابات من أبرز إفرازات التحولات الكبرى التي شهدتها تونس، فإن هذا الاختلال التأسيسي الذي حدث في لحظة كتابة الدستور، لم يكن ليعمر طويلاً، فبالنهاية تنتمي تونس لعالم الشرق الذي يميل إلى الزعيم والقائد والرئيس بدل المجالس النيابية المنتخبة.

ينصح خبراء الدساتير الذين لديهم إلمام بالجغرافيا السياسية بتبني النظم البرلمانية في الديمقراطيات الناشئة، وتبني النظم الرئاسية عندما تستقر الديمقراطية وتكون للدولة تطلعات لأداء أدوار إقليمية ودولية أكبر، وقد كان الخيار الأول هو خيار النخب التونسية غداة الثورة، غير أن عدم تعديل طريقة اختيار الرئيس هي الثغرة التي نفذت من خلالها الأزمة الدستورية والسياسية المتصاعدة حالياً، ويبدو أن تأثير نموذج النظام شبه الرئاسي الفرنسي كان حاضراً بقوة وأثر على إخراج دستور 2014 بالشكل الذي هو عليه الآن.

شكلت أحداث 25 يوليو/ تموز 2021 في تونس بداية لسلسلة من الإجراءات والتدابير اتخذها الرئيس قيس سعيد، انطلقت بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، ووصلت قبل أيام إلى حل المجلس الأعلى للقضاء، ويبدو أن هذه الإجراءات سوف تتواصل إلى غاية إدخال تعديلات جوهرية على الدستور الحالي، بحيث يتم تركيز جميع السلطات في يد رئيس الجمهورية ويتم من خلالها إضعاف دور البرلمان وحل الرابطة بينه وبين الحكومة، وإلحاقها مباشرة  بالرئيس، وسوف تزداد بموجبها تدخلات الرئيس في عمل السلطة القضائية.

الاتجاه نحو السلطوية  
هذه التحولات إذا استمرت بهذا الشكل، فهي لن تقود تونس إلى النظام الرئاسي – كما صرح بذلك الرئيس قيس سعيد-، فالفصل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في النظم الرئاسية هو فصل مطلق ويراعي التوازن بين هاتين السلطتين بشكل جيد، ولذلك، فأن الإجراءات الحالية ستقود تونس إلى نظام هجين يطلق عليه بعض من فقهاء القانون الدستوري تسمية "النظام الرئاسوي"، وهذه ليست تكهنات مرسلة، وإنما مسار الأحداث والتدابير التي أقدم عليها قيس سعيد تُؤشر على ذلك، حيث أن إجراء تجميد البرلمان يُؤشر على أنه لن يُمرر دستور جديد للبلاد دون أن يكون فيه فصل ينص على صلاحية حل البرلمان من طرف الرئيس، كما أن إجراء حل المجلس الأعلى للقضاء وقبل ذلك تولي قيس سعيد للنيابة العامة بنفسه يُدلل على أن هكذا صلاحيات تتدخل في عمل السلطة القضائية ستظهر كذلك في الدستور القادم.

تشير القراءة المتأنية للمشهد التونسي خلال الأشهر المنصرمة إلى توجهات لصياغة نظام سياسي يُماثل إلى حد كبير الجارة الغربية لتونس: الجزائر، حيث يستأثر رئيس الجمهورية في الجزائر بصلاحيات واسعة تتيح له التحكم التام بالسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا يخفى الحضور الجزائري في التأثير على المشهد التونسي، فقد تدخلت الجزائر مراراً لإقراض تونس كلما اشتدت أزماتها المالية، وكان آخر هذه المساعدات قرض بقيمة 300 مليون دولار في منتصف شهر كانون الأول من العام الماضي.

التدابير الاستثنائية بين الشرعية والمشروعية
بالعودة إلى مسألة شرعية التدابير والإجراءات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد والمتمثلة في تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وترؤسه للنيابة العامة مباشرة، وإقالة رئيس الحكومة، وتشكيل أخرى جديدة عَيَّنَ هو رئيستها، وحل المجلس الأعلى للقضاء، واعتزامه تعديل الدستور عبر الاستفتاء الشعبي دون المرور عبر البرلمان، فمن الواضح أن الدستور التونسي ساري المفعول حالياً لا يقر بهكذا تدابير وبالتالي فإن مبدأ الشرعية قد تم إهداره، ولذلك تستند أغلب التبريرات المؤيدة لما قام به الرئيس على مبدأ المشروعية وهو المبدأ الذي يرتكز على روح القانون بدل القانون المكتوب ذاته، غير أن مبدأ المشروعية إذا لم يستند إلى أغلبية شعبية تفرزها انتخابات حرة ونزيهة تنظم في شكل استفتاء يستشار فيه الشعب حول القضايا الراهنة، أو إلى ثورة شعبية عارمة، لا يمكن الاعتداد به.

لقد عولج الخلل الدستوري البنيوي - الذي أشرنا إليه مسبقاً – بطريقة غير دستورية، فلا يمكن إعادة التوازن للعلاقة بين مؤسسة الرئاسة والسلطات الأخرى عبر خرق الدستور وفرض الأمر الواقع باستخدام قوى الأمن الحكومية، لأن الرد على مسار تنامي السلطوية في البلاد سيكون بمزيد من الحشود في الشوارع، وقد عبر أحد فقهاء القانون الدستوري في تونس عن ذلك بقوله: " من لم يخف من نظام بن علي فلن يخاف من تدابير قيس سعيد"، ويبدو أن هناك شبه إجماع بين القوى السياسية المتضررة من الإجراءات الأخيرة على أن الشارع بالنهاية سيكون الحكم بين المتخاصمين.

مخاوف التصعيد ومآلات الصراع
هنالك مخاوف من اضطرابات قد تشهدها تونس بسبب خروج الأزمة السياسية عن المسار الدستوري، بسبب انقسام الشارع التونسي بين مؤيد لقيس سعيد ومؤيد للقوى السياسية المعارضة وعلى رأسها حركة النهضة، ودخول بعض الأطراف الأجنبية على خط الأزمة بالأموال والخدمات الاستخباراتية، ولعل الطرف الذي سيحسم هذه المعركة هو الطرف سوف تسنده أجهزة الأمن وحفظ النظام، ويعتبر التكهن بالمسلك الذي ستسلكه هذه الأجهزة أمراً بالغ التعقيد، وهو مرتبط بمجموعة عوامل متداخلة مثل كثافة الحشود في الشارع وميلها إلى طرف من الأطراف، وما إذا حدثت صدامات بين أنصار كل طرف، فضلا عن أن أجهزة حفظ النظام ليست كياناً واحداً، فهناك مؤسسة الجيش، وجهاز الاستخبارات، ومؤسسة الشرطة.

وإذا كانت هذه المؤسسات تبدو للوهلة الأولى بأنها في صف الرئيس، فإنه ليس من المضمون أن تبقى كذلك إذا ارتفعت وتيرة التصعيد عبر الشارع، على الأقل بالنسبة للجيش، حيث يرى تيموثي هازن  أستاذ العلوم السياسية في جامعة إلمهيرست الأمريكية: " أن هناك حداً معينا للدعم الذي سيحصل عليه قيس سعيّد من الجيش" ولا يعتقد هازن أن الجيش التونسي سيظل على ولائه لسياسي واحد بعينه إذا تدهور الوضع وذلك استناداً إلى تاريخ المؤسسة العسكرية في تونس والطريقة التي تعمل بها، وذلك بخلاف جهاز الشرطة بماضيه الذي يعرفه التونسيون كجهاز قمعي شكل اليد الضاربة لنظام بن علي في السابق، فيحتمل بشكل كبير أن تكون علاقة هذا الجهاز بقيس سعيد أوثق وأن يذهب معه بعيداً في فرض الحل الذي يراه على الأطراف الأخرى.

وبإدخال عامل قوة كل جهاز ودرجة جاهزيته وتسليحه في المعادلة، تتراجع كفة الجيش التونسي بشكل كبير بالمقارنة مع جهاز الشرطة، وهو اختلال قديم يعود إلى بدايات قيام الجمهورية التونسية، ولعل هذا الاختلال هو ما أثر على موقف الجيش عند اندلاع الثورة التونسية ودفعه لتبني موقف الحياد، وهو في الحقيقة مكسب يحاول قيس سعيد تجاوزه وتوريط مؤسسة الجيش بشكل أكبر في الأزمة السياسية المتصاعدة، والتي يمكن أن تتطور وتصل إلى الوتيرة التي عرفتها الثورة التونسية في أيامها الأولى.