العلاقات التركية-السعودية: هل حان الوقت لتجاوز الخلافات؟

خلفية تاريخية للعلاقات التركية-السعودية المعاصرة
شهد الربع الاول من القرن العشرين سقوط الدولة العثمانية وتقلص أراضيها إلى ما يعرف اليوم بحدود الجمهورية التركية، التي تأسست في عام 1923. وفي ذات المدة أصبح "عبد العزيز آل سعود" ملكاً على "مملكة نجد والحجاز وملحقاتها" عام 1926، وقد كانت تركيا في مقدمة الدول التي اعترفت بالمملكة، ونشأت على إثر ذلك علاقات دبلوماسية بين الطرفين منذ آذار 1926 ، إذ افتتحت تركيا قنصلية في مدينة جدة، كان القنصل العام فيها "باي محي الدين"، وبالمقابل افتتحت المملكة قنصلية لها في أنقرة أدارها "توفيق حمزة"، ولتعزيز العلاقات عقدت معاهدة صداقة بين الطرفين في مكة المكرمة في 13 آب/أغسطس 1929. قي تلك المدة كانت العلاقات مقتصرة على جوانب بسيطة نذكر منها استعانة الملك "عبد العزيز آل سعود" بالجيش التركي لتصليح بعض المدافع التركية والألمانية التي كان يملكها الجيش السعودي الناشئ.

بعد اعتراف تركيا بإسرائيل في 28 آذار/ مارس 1949، ومن ثم الموقف السعودي الرافض لتأسيس حلف بغداد في 1955 (تركيا كانت عضو مؤسس في ذلك الحلف)، فضلاً عن تداعيات التصعيد التركي-السوري عام 1957، كل هذه الاحداث كانت سبباً في جمود العلاقات بين البلدين في تلك الأعوام، إلا انها لم تصل الى مرحلة القطيعة.

شهد عام 1964 تحولاً ايجابياً في مسار العلاقات التركية –السعودية، ولاسيما بعد وصول الملك "فيصل بن عبد العزيز" الى سدة الحكم في المملكة العربية السعودية، إذ كان الملك فيصل راغباً في تطوير العلاقات مع تركيا في المجالات السياسية والاقتصادية، لذلك وقفت المملكة العربية السعودية إلى جانب تركيا في الأزمة القبرصية الأولى عام 1964، وكان من نتائج هذا الموقف رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين الى مستوى سفارة عام 1966، ومنذ ذلك التاريخ تم تبادل الزيارات الرسمية بين الطرفين وعلى أعلى المستويات. ثم شهدت حرب تشرين 1973 موقفاً تركياً ايجابياً، إذ منعت تركيا الولايات المتحدة من التزود بالوقود واستخدام التسهيلات أثناء الجسر الجوي الذي أقامته واشنطن لمساندة إسرائيل، وغضت تركيا الطرف عن الامدادات السوفيتية للعرب منذ عام 1972، حيث انها فتحت مضيق البسفور امام السفن السوفيتية المحملة بالإمدادات العسكرية إلى الموانئ العربية. وبالمقابل قامت السعودية بإمداد تركيا بالنفط وتمويل بعض النشاطات الاسلامية في تركيا، ولاسيما ترميم وبناء المساجد، فضلاً عن موقف السعودية المساند لتركيا أبان تجدد إندلاع الأزمة القبرصية عام 1974، هذه المواقف جعلت تركيا تلبي دعوة السعودية للدخول الى منظمة المؤتمر الاسلامي واستضافت مؤتمرها عام 1976.

مثل عقد السبعينيات الانطلاقة الحقيقية للعلاقات التركية-السعودية، في المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، إذ أفادت تركيا بشكل كبير من مشاريع البناء والتطوير العمراني التي كانت تنفذها شركاتها في مكة المكرمة والمدينة المنورة، لأن الشريعة الإسلامية تحظر على غير المسلم دخول هذه المناطق، لذلك استعانت المملكة العربية السعودية بالشركات التركية لتنفيذ تلك المشاريع. وقد تعززت هذه العلاقات بعد موقف السعودية المساند لمأساة الأقلية التركية في بلغاريا عام 1989، وموقف تركيا المساند للسعودية ودول الخليج العربي في أزمة وحرب الخليج الثانية(1990-1991).

وخلال عقد التسعينيات من القرن العشرين شهدت العلاقات بين البلدين ازمتين دبلوماسيتين، ففي عام 1995 قامت المملكة العربية السعودية بإعدام أربعة مواطنين اتراك، فضلاً عن اقدامها على هدم قلعة تاريخية تعود للحقبة العثمانية عام 1998، مما حدا بالحكومة التركية إلى الاحتجاج، ومن الجانب التركي كانت الاتفاقية التركية-الاسرائيلية عام 1996 والتوتر الذي حصل مع سوريا عام 1998 سببا في استياء سعودي، إلا أن هذه الاحداث لم تكن لتؤثر تأثيراً مهماً على العلاقات التي تعمقت على مدى عقود.

ومع صعود حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى سدة الحكم في تركيا أواخر عام 2002، شهدت العلاقات السعودية-التركية تقدماً ملحوظاً، تمثلت بالزيارات الرسمية رفيعة المستوى، فضلاً عن دعم السعودية لتولي الدكتور "أكمل الدين احسان اوغلو" منصب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي في عام 2005، فضلاً عن تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وتوقيع عدد من الاتفاقيات والشراكات الاستراتيجية.

في تلك الأعوام، كانت الدبلوماسية النشطة قاسماً مشتركاً يجمع المملكة العربية السعودية وتركيا، ويميزهما في المنطقة، فقد كانت تركيا مؤهلة دوماً لأداء دور إقليمي مؤثر، تساعدها في ذلك امكاناتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والجغرافية المميزة، خاصة في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية لتركيا، إذ استطاع هذا الحزب في وقت قصير دفع تركيا نحو الأمام، خاصة في المجال الاقتصادي. أما المملكة العربية السعودية فقد أصبحت (شيئاً فشيئاً) تأخذ دور مصر على الساحة العربية والإقليمية، وبالتالي كان التشاور والتعاون والتنسيق التركي-السعودي استحقاقاً منطقياً في ذلك الوقت، لاسيما بعد تراجع مكانة العراق في المنطقة جراء التحولات والظروف المعروفة، بعد تدمير قدراته وبناه التحتية نتيجة الحصار والحروب التي انتهت باحتلاله سنة 2003. والتي جعلت تركيا تمثل ثقلاً يوازي ايران التي انفردت بمنطقة الخليج العربي بوصفها قوة إقليمية، كما إن تركيا تسعى الى علاقات اقتصادية متميزة مع السعودية، وبالمقابل فإن السعودية تسعى دوما الى جذب الدول الاسلامية لمكانتها الدينية بين المسلمين، والتي كانت دوماً عاملاً يشعرها بالقوة.

مرحلة الخلافات
الخلافات التركية-السعودية في السنوات الثلاث الأخيرة لم تحصل فجأة، وإنما كان هنالك تراكم للقضايا الخلافية بين البلدين في الأعوام الأخيرة، وهي التي دفعت العلاقات بين البلدين نحو الجمود، كما أن جوهر الخلاف بين تركيا والسعودية لا يتعلق كله بأسباب تخص العلاقات المباشرة بين الدولتين، إنما كانت هنالك أسباب خلاف تخص اختلاف وتقاطع في مواقف وسياسات البلدين تجاه قضايا إقليمية.  

ففي اعقاب الانقلاب الذي حصل في مصر ضد الرئيس المصري "محمد مرسي" عام 2013، اختلفت تركيا مع السعودية في التعاطي مع هذا الحدث، اذ عدت انقرة الانقلاب الذي حصل غير شرعي، وفتحت أبوابها لجميع من لجأ اليها من المعارضين المصريين وقدمت دعماً لهم. على عكس السعودية التي تعاطت بايجابية مع الحكم الجديد في مصر. ثم جاء الخلاف السعودي-القطري في عام 2017، ليلقي بظلاله أيضاً على العلاقات التركية-السعودية، إذ وقفت تركيا ضد الحصار الخليجي على دولة قطر، وقدمت يد العون لقطر.

أخذت الخلافات تتفاقم بين البلدين، والهوة تكبر بينهم يوماً بعد يوم، إلا أن الحدث الذي اخرج هذه الخلافات الى العلن، وإلى تبادل الحملات الإعلامية المضادة، كان اغتيال الصحفي السعودي (جمال خاشقجي) في القنصلية السعودية باسطنبول في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2018. فقد اتهمت أنقرة السلطات السعودية بتدبير هذه الجريمة، وتحرك الادعاء العام التركي لفتح ملف القضية وتوجيه اتهامات طالت بعض المسؤولين السعوديين. أما السلطات السعودية فكان رد فعلها على هذا الحادث هو إحالة ثمان من المسؤولين الحكوميين الى القضاء، إلا أن هذه الخطوة لم تكن متناسبة مع الهزة الكبيرة، التي أثارتها حادثة اغتيال خاشقجي، دولياً وإقليمياً، والتي أحرجت السلطات السعودية بشكل كبير.

ومن ثم جاءت قضية الصراع في ليبيا، الذي أضاف حملاً جديداً إلى الخلافات بين البلدين، إذ دعمت تركيا حكومة الوفاق، وأيدت السعودية الجنرال المتقاعد (خليفة حفتر)، وتخلل هذه المدة أيضاً تراشق إعلامي بين المنصات الاعلامية التابعة للطرفين، فضلاً عن تراجع العلاقات الاقتصادية. وقد استمرت الأمور على هذا المنوال قرابة السنتين، إلا أنها لم تصل حدود العداء.

بوادر تحسن العلاقات
هنالك العديد من التحركات والمؤشرات المعلنة، وغير المعلنة، توحي ان الخلاف بين البلدين أخذ طريقه نحو الحل، وان العلاقات بينهما من الممكن أن تعود الى سابق عهدها، حيث نجد أن قضية اغتيال خاشقجي قد انخفض زخمها الإعلامي نوعاً ما، وقد أبدت تركيا حرصاً كبيراً على كشف الحقائق وتحقيق العدالة في هذه القضية. وفيما يتعلق بملف الخلاف السعودي-القطري، هو الآخر قد أخذ طريقه نحو الحل والجلوس الى طاولة المفاوضات، بمبادرة كويتية – أمريكية، وأصبحنا نتلمس رغبة جادة في انهائه، خاصة بعد مشاركة أمير قطر "الشيخ تميم بن حمد" في القمة الخليجية في مدينة العلا السعودية، التي عقدت في 5 كانون الثاني/ يناير 2021، والحفاوة التي استقبل بها، فضلاً عن فتح الحدود البرية والجوية بين البلدين. كذلك هناك مؤشرات حول إنهاء القطيعة بين مصر وقطر، وفي هذا المجال يخبرنا التاريخ في أحداث مشابهة، بأن السيسي وأركان حكمه أصبحوا أمراً واقعاً، ولاسيما بعد أن عزز دعائم حكمه داخل مصر، أمنياً واقتصادياً، وبالتالي لن يكون التعاطي مع حكومة مصر بوصفها حكومة انقلاب إلى ما لا نهاية، إذ من الممكن أن تحصل تفاهمات تعيد علاقات مصر مع كل من قطر وتركيا الى مسارها السابق، بخاصة إذا امتنعت مصر من الإنخراط بالمشاريع التي تستهدف المصالح التركية، والتي يروج لها خصوم تركيا من وقت لأخر. كل هذه التحولات في المشهد، فضلاً عن بوادر الاتصالات الرسمية بين المسؤولين الاتراك والسعوديين، تؤشر بأن الخلاف التركي-السعودي سيأخذ طريقه نحو الحل في المستقبل القريب.  

ينبغي أن نعي حقيقة مفادها إن السعودية وتركيا يعيشان حالياً استحقاقات القوة، ومن تجليات هذا الاستحقاق التنافس الإقليمي، وفي بعض الأحيان الصراع الإقليمي، ومحاولات بسط النفوذ في المناطق الرخوة، فضلاً عن حماية الأمن القومي. وهذا الأمر من حقائق حركة التاريخ، اذ تعد تركيا الآن دولة محورية في الشرق الاوسط تمتلك أسباب القوة، وبالمقابل فان السعودية ومنذ عام 1970، الذي شهد انطلاقة التطور الاقتصادي في السعودية التي عاشت تراكم النمو والتنمية، والارتكاز على مكانتها الإسلامية، فضلاً عن سياسة الملك "سلمان بن عبد العزيز" الذي غير استراتيجية السياسة الخارجية السعودية من "المكانة" الى "الدور"(مبدأ سلمان)، لذلك فان الاختلاف في ملفات المنطقة بين تركيا والسعودية أمر وارد حالياً، وفي المستقبل، لذلك نعتقد أن البلدين سوف يتعاملان في المستقبل مع هذه الملفات بحكمة وهدوء أكثر. إذ مهما تطورت الخلافات سوف يبقى خيط رفيع يربط البلدين، يحرصان كلاهما على أن لا ينقطع، وذلك لان البلدين يملكان جهاز إداري واستشاري مختص بالشؤون الخارجية يتمتع بخبرة ممتازة، على الرغم من أن الأداء الدبلوماسي السعودي قد تراجع بعد وفاة "عراب" السياسة الخارجية السعودية الأمير (سعود الفيصل).