أزمة تشكيل الحكومة في لبنان

إن كان اتفاق الطائف 1989 قد وضع حدا للنزاع اللبناني المسلح، إلا انه لم يكن مرضيا لجميع الأطراف، وما انفكت الدعوات لتعديله خاصة من قبل الأفرقاء المسيحيين، بغية إعادة توزيع الصلاحيات ما بين السلطات الثلاث. - فالمحاصصة المذهبية تطال كل وظائف الدولة في لبنان - معتبرين أن اتفاق الطائف قد نزع من رئيس الجمهورية المسيحي، جزء من صلاحياته لصالح رئيس الحكومة السني[1]. وهي دعوات ستكلف لبنان غاليا، اذ يكفي النظر بمآلات إعتماد مبدأ النسبية في القانون الانتخابي الأخير التي نجمت عنه.

اليوم ورغم الستاتيكو القائم، الا ان البلاد تدخل عند كل استحقاق دستوري في أزمة مختلفة، من فراغ في سدة الرئاسة استمر لسنتين ونصف، الى تأجيل موعد الانتخابات النيابية بتمديد البرلمان لنفسه مرتين منذ 2009، وصولا لتعطيل تشكيل الحكومة الجديدة.

وقد كلف سعد الحريري بتشكيل الحكومة منذ أواخر أيار/مايو 2018، ولم يتمكن من تحقيق ذلك حتى الآن. وبات يمكننا القول: إن الأصل في النظام السياسي الطائفي للبنان هو التعطيل وعرقلة مسار سلطات ومؤسسات الدولة بشكل منتظم. فما هي أسباب هذا التأخير؟

لطالما كان لبنان ساحة تتصارع فيها القوى الإقليمية، وليس بغريب في ظل موجة من الأزمات تطال المنطقة أن تتعرقل ولادة الحكومة الجديدة. ومما لا يخف على أحد ارتباط اغلب الزعماء والمراجع السياسية اللبنانية بمشاريع خارجية، تجعل من الحياة السياسية في البلد ومن الدولة ومؤسساتها ومقدراتها وقودا في صراعات إقليمية ودولية. بل تعمل أغلب هذه القوى على محاربة وإسقاط كل مشروع وطني أو مستقل.

وفي هذا السياق، ترى مهى حامد، مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت أنه" ثمة عامل يساهم بدوره في مفاقمة حالة الاستقطاب، وهو إعادة تأكيد النفوذ السوري في سياسات البلاد، في الوقت نفسه الذي تزداد فيه ضغوط حزب الله وحلفاؤه على الحكومة لتطبيع العلاقات مع دمشق"... وربما هذا سيدفع حلفاء النظام السوري، إلى أحد أمرين: إما العمل لقيام حكومة قصيرة الأجل، أو تأخير تشكيلها بهدف ضمان بروز قيادات أكثر إذعاناً لاحقاً، قد تقبل بإحياء الهيمنة السورية وتحويل لبنان إلى منفذ ومتنفّس تستطيع عبره سوريا الانخراط مع العالم من جديد.

كما لا يمكننا إغفال تأثير الصراع السعودي الإيراني على لبنان. حيث يعتبر لبنان أول وأقوى ساحة خارجية للنفوذ الإيراني، وكذلك ترعى المملكة العربية السعودية ممثل المسلمين السنة في لبنان "تيار المستقبل". ومن هذا الباب رأينا سابقا الضغط السعودي على سعد الحريري لتقديم استقالته من الرياض في بيان هاجم فيه إيران وحزبها في لبنان أي حزب الله، قبل أن يعود ويتراجع تحت مظلة حفظ السلم الأهلي وتجنيب البلاد صراعا لا تُحمد عقباه.

في المقابل، يتضح أن حزب الله يحتاج إلى حكومة وحدة وطنية يرأسها الحريري، لتحصينه ضدّ الضغوطات الدولية المتنامية ضده، خاصة مع عقوبات اقتصادية أمريكية جديدة على طهران وعلى حزب الله. مما قد يرفع احتمال توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية للبنان، كانت قد لاحت في الأفق عقب استقالة الحريري من الرياض.

لكن المفارقة أنه على أرض الواقع لم يقتصر الصراع على تحديد المقاعد الوزارية ما بين السنة والشيعة، بل شمل الصراع تحالفات وتكتلات سياسية حليفة لهذه المحاور، عززها وأخرجها القانون الانتخابي الجديد أيضا (قانون النسبية).

فظهرت عدة عُقد عرقلت مسار تشكيل الحكومة الجديدة منها: الصراع المسيحي المسيحي بين أكبر حزبين مسيحيين في لبنان، التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية، وحزب القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع. كذلك العقدة الدرزية ما بين الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط وغريمه التقليدي رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان.

أما الخلاف المسيحي، أو ما اطلق عليه عقدة "القوات اللبنانية" تتمثل في أن هذا الحزب كان يطالب بحصة أكبر في الحكومة الجديدة تتوافق وحجمه التمثيلي في البرلمان، بعد أن أحرزوا تقدما فارقا في تاريخهم السياسي. وقد إستندت القوات في ذلك إلى دعم سعودي يعزز موقفها عند الحريري لكن يبدو أن الأزمات الأخيرة التي تمر بها السعودية ستخفف من هذا الزخم لهم.

خصوم القوات اللبناني أي التيار العوني يرفض التخلي عن مقعد وزاري للقوات معتمدين على مبدأ النسبية نفسه. ويصرحون أن القوات تطالب بحصة أكبر من حجمها، فلا يحق لها أكثر من ثلاثة وزراء على عكس ما هي تريد أي أربعة منها حقيبة سيادية. إلى أن تم حل الأزمة بأربع وزارات دون واحدة سيادية بمقابل منصب نائب رئيس الحكومة. في حين يحظى الممثل الأكبر لمسيحي لبنان (التيار العوني) بسبع وزراء له، وثلاث وزراء لرئيس الجمهورية نفسه.

بالإضافة لما واجهه سعد الحريري في مشاورات التشكيل، كان هناك خلاف بين الزعمات الدرزية. أي ما بين الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط الذي يتمسك بحصرية التمثيل الدرزي في الحكومة (ثلاث وزارات)، استنادا إلى أنه يحوز الأغلبية النيابية التي تفرض ذلك، والحزب الديمقراطي اللبناني بقيادة طلال ارسلان، حليف رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر الذي يضغط رئيسه جبران باسيل لتوزيره من حصة الحزب التقدمي الاشتراكي..

بعد الانتخابات وبعد ان حصد الحزب الاشتراكي على 7 مقاعد من أصل 8 للدروز، رفع الصوت عاليا: بــ "إن ما قبل الانتخابات ليس كما بعدها"، وأنه يريد حقائب وازنة ولن يقبل بالفتات. كما يطالب بالوزراء الثلاثة في حكومة ثلاثينية. مؤكدا بتصريح لجنبلاط: "أن لا يوجد شيء اسمه عقدة درزية،  ففي السياسة التي هي علم التسوية ليست هناك عقدة درزية بل مطالب محددة مقبولة ولا بد من تسوية".

في الشهر الماضي، وبعد الانفراج في الأزمة المسيحية، كان تشكيل الحكومة الجديدة قاب قوسين او أدنى إلى أن ظهرت مجددا، أزمة ما يعرف بــ "السُنة المستقلين"، وهم عشرة نواب دخلوا البرلمان بعد خسارات تيار المستقبل  للكثير من مقاعده بسبب القانون النسبي وشكل التحالفات التي أدت لفوز هؤلاء الذين يدعون أنهم مستقلون في حين أنهم وصلوا البرلمان في إطار تحالفهم مع محور المقاومة – سوريا.

يطالب عدد من النواب "السنة المستقلين" (ستة نواب) بوزارة واحدة من حصة السنة في الحكومة، وهو ما لا يقبله تيار المستقبل، فقد إعتبر الرئيس سعد الحريري توزيرهم من باب الانتحار السياسي له وهم الذين ما انفكوا يعلنون عن ولائهم لمحور المقاومة، والنظام السوري. وهو ما يؤكد عليه حزب الله بعد إصرار أمينه العام أن لا حكومة دون سنّة 8 آذار".

وتتأكد مساعي حزب الله في عرقلة ومنع تشكيل الحكومة الجديدة، عندما يلقي باللوم على الحريري الذي لا يتنازل لهم. ففي تصريح لنائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم قال: "في قناعتنا أن بوصلة التشكيل عند رئيس الحكومة، وسبيل المعالجة أن يوزر واحدا أو ما يرضى عنه اللقاء التشاوري من السنة المستقلين أو ما يرضيهم من حصة الوزراء السنة الستة. لا تضيعوا البوصلة وتضيعوا الناس، هذا هو الطريق الحصري للحل، وهو تمثيل السنة المستقلين في تشكيلة الحكومة".

وأضاف: "هؤلاء السنة الستة لهم خلفية شعبية حقيقية بالأرقام والأدلة، ومع وجود قاعدة اسمها تشكيل حكومة وحدة وطنية لا يمكن أن يكتمل عقد الوحدة الوطنية، إلا أن يكونوا ممثلين فيها. لا يمكن تجاوز السنة المستقلين في تشكيل الحكومة، والمعني الأول بسكة التشكيل هو رئيس الحكومة الذي يستطيع أن يأخذ الموقف الإيجابي في كيفية تمثيلهم، وأن يمهد للحل".

ورغم هذا ينفي حزب الله أنه يعرقل تشكيل الحكومة من خلال هذه المطالب، فهو يضع الكرة في ملعب الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية، الذي يمكن له العمل على حل هذه الأزمة من خلال توزير واحد من السنة المستقليين في حصته بالحكومة (وهي 3 وزارات).

مع كل أزمة سياسية تجمد مؤسسات ووظائف الدولة اللبنانية يتضح أن ثمة هدف يسعى له الفرقاء السياسيون وعلى رأسهم حزب الله، وهو تعزيز دوره وتمكينه أكثر من كل مقدرات، مخرجات، وسلطات الدولة من القضاء الى المؤسسة العسكرية بل حتى إملاء سياساته على حلفائه ومناؤيه لأبعد حد. وهو ما يؤكد أن لبنان الذي أخرج السوري عقب ثورة الأرز هو اليوم تحت الوصاية الإيرانية بشكل أعمق.

 

[1] عرفا: لا يوجد مادة في الدستور اللبناني لسنة 1926 تنص على مذهب القائم على أن يكون: رئيس الجمهورية مارونيا، ورئيس مجلس الوزراء سنيا، أو رئيس البرلمان شيعيا، لكنه العرف الذي جرت عليه العادة بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي عام 1943. علماً بأن رئيسين من غير الموارنة توليا رئاسة الجمهورية إبان مرحلة الانتداب وبعد الاستقلال هم: بترو طراد (ارثوذكسي) وأيوب ثابت (بروتستانتي)، وشارل دباس (الأرثوذكسي) كما ترشح أحد النواب المسلمين لمنصب الرئاسة؛ هو الشيخ محمد الجسر، وكاد يصل للرئاسة لولا قرار تعليق العمل بالدستور الذي اصدره المفوض السامي الفرنسي هنري في 1932.