معالم السياسة الخارجية الحالية للجزائر: البراغماتية مع الغرب والشرق

قال الرئيس الصيني السابق دينغ شياوبينغ Deng Xiaoping في أحد المرات: "لا يهم لون القط هل هو أبيض أو أسود، المهم أن يأكل الفأر". شياوبينغ يعد أب النهضة التنموية للصين الحديثة، ومقولته هذه تعبر عن مفهوم البراغماتية، ومن هنا، يلاحظ المتابع للشأن الدولي أنه لا يمكن الفصل بين الوضع الداخلي والسياسة الخارجية للدول.

فالوضع الداخلي المستقر يساهم في بث مبدأ الثقة بين الإدارة الحاكمة والناخب، وهذا يساعد على تعزيز مبدأ الشرعية والمشروعية في تصرفات الإدارة السياسية أثناء فترة حكمها. وبالتالي، تتجلى أهمية الاستقرار الداخلي في تحقيق تناغم واستقرار في السياسة الخارجية للدول.

تعكس الدبلوماسية الجزائرية الحالية تحولًا نوعيًا منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون الحكم في ديسمبر/ كانون الأول 2019، بعد حراك شعبي سلمي استمر لمدة تسعة أشهر. فالجزائر تُعَدُّ في الوقت الحاضر من الدول ذات السياسة الخارجية النشطة، بعدما شهدت تراجعًا غير مسبوق في أداء السياسة الخارجية على مدى ثلاثة عقود، مما أدى إلى شبه اختفاء لصوتها ومكانتها في محيطها الإقليمي، وشبه الإقليمي، وجوارها الجغرافي المضطرب شرقًا وجنوبًا وغربًا.

قامت إدارة الرئيس تبون بتحرُّك حاسم لإخراج الجزائر من حالة العزلة بعد انتخابه، من خلال تعيين رمطان لعمامرة وزيرًا للخارجية والجالية بالخارج عام 2021، وذلك بعد عامٍ من تعيين صبري بوقادوم في نفس المنصب، ما أدى إلى تبلور عقيدة جديدة للدبلوماسية الجزائرية تحت مبدأ "الدبلوماسية النشطة والاستباقية".

يهدف هذا التحول الدبلوماسي إلى إعادة إحياء دور الجزائر في المحافل الدولية وتعزيز مكانتها الإقليمية. حيث تسعى إدارة الرئيس تبون جاهدةً لاعتماد نهج دبلوماسي متميز، يتمثل في الاستجابة المبكرة للتحديات والفرص التي تطرأ. وعلى ضوء هذا النهج، تطمح الجزائر إلى تعزيز تواجدها ودورها في المنطقة، والمساهمة الفعالة في حل المشكلات الإقليمية، وتعزيز علاقاتها مع مختلف دول العالم. كما يهدف هذا النهج الجديد للدبلوماسية الجزائرية إلى تحسين مكانة البلاد في الساحة الدولية وتعزيز التعاون مع دول العالم، ما سيعود بالنفع على الشعب الجزائري ويساهم في بناء عالم أكثر استقرارًا وتعاونًا.

عقيدة دبلوماسية جديدة
يمكننا القول بأن الثنائي تبون-لعمامرة قد تمكنوا من تأسيس وتبني إستراتيجية واضحة المعالم لسياسة الجزائر الخارجية، تستند على البراغماتية في التعامل مع التوتر والاضطراب الذي يشهده النظام الدولي عموماً، والفوضى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا والساحل الأفريقي على وجه الخصوص.

تحكم سياسة تدوير الزوايا مؤثرات السياسة الدولية والإقليمية، مما يجعل العوامل الخارجية دائماً حاضرة ومؤثرة، وهذا ما سمح للجزائر في عهد الرئيس تبون بأن تنخرط بفاعلية في السياسة الدولية والاقليمية، بخاصة بعد التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية-الأوكرانية على دول الإتحاد الأوروبي، التي قدمت للجزائر فرصة لتوظيف ورقة غازها الطبيعي لتصبح محدداً جديداً في السياسة الخارجية الجزائرية. مع ذلك، يجب ألا يتم اعتبار الغاز الطبيعي وحده العامل الوحيد الذي يوجه الدبلوماسية الجزائرية البراغماتية بين الغرب والشرق.

أثبتت الدبلوماسية الجزائرية هذه المعطيات من خلال الزيارات التي قام بها الرئيس تبون خلال الأسابيع الأخيرة، إلى كل من البرتغال وروسيا وقطر والصين وتركيا، والتي تظهر بوضوح تموقع السياسة الخارجية الجزائرية بين الغرب والشرق، فبعدما أحرزت الجزائر تقارب مهم في دول منطقة اليورو مع كل من البرتغال وإيطاليا، عززت أيضاً تقاربها الإستراتيجي مع حلفاءها التقليديين روسيا والصين، مع استمرار رغبة الجزائر بالانضمام لمنظمة البريكس BRICS، التي يتوقع لها أن تشكل بعد جديد في معادلة الصراع بين القوى الكبرى من أجل نظام دولي جديد.

وفي منطقة الشرق الأوسط، تظل قطر وتركيا الدولتين المحوريتين التي تسعيان إلى لعب دور الوسيط في حل مشاكل وأزمات المنطقة، السياسية والاقتصادية والأمنية. وفي هذا السياق، تسعى الجزائر أيضًا إلى تحقيق تموقع قوي في محور الدوحة-أنقرة كدولة ثالثة في المنطقة، تتسم بالتوازن والفاعلية في التدخل لتسوية النزاعات المستعصية في المنطقة، بما يتعلق بالملف الليبي والسوداني واليمني والفلسطيني. وفي الوقت نفسه، يمكن للجزائر اليوم أن تلعب دور الوسيط الموثوق في مسار التقارب السوري-التركي بسبب مصداقيتها بين البلدين المتخاصمين (سوريا وتركيا).

من أجل عالم متعدد الأقطاب
تُعَدُّ قضايا انهاء نظام الأحادية القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ومساعي إصلاح منظمة الأمم المتحدة، والمطالبة بإعادة تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، من بين أهم القضايا الدولية التي تتفق فيها الجزائر مع الصين وروسيا، وحتى مع تركيا. فالجزائر تراقب عن كثب التغيرات التي تطرأ على النظام الدولي والإقليمي، وهنالك مؤشرات على وجود قناعة قوية لدى الرئيس تبون بضرورة دفع النظام الدولي نحو التعددية القطبية. ولكن الحرب الروسية-الأوكرانية كشفت عن ضعف العديد من الدول العربية والدول الأفريقية، التي تعتمد في غذائها وسلاحها على روسيا، لذلك فأن الجزائر استخلصت من تداعيات هذه الحرب ضرورة تنويع وارداتها وشركائها في القطاعات العسكرية لتعزيز أمنها. وبالتالي، لا يمكن أن تعتمد الجزائر فقط على روسيا كشريك وحيد، بل تربطها علاقات أيضًا الأمريكان والأوروبيين، مع إبقاء الجزائر على حذرها وتحفظها في تعاملها مع دول الاتحاد الأوروبي.

وبهدف تعزيز علاقاتها مع الشرق، تتجه الجزائر نحو روسيا والصين، فهنالك تميز تاريخي عميق في علاقة الجزائر معهما منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي. وقد تم ترجمة هذه العلاقة إلى شراكة استراتيجية تشمل مجموعة واسعة من المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.

من جانب آخر، تشعر الجزائر بالقلق من التقارب المغربي- الإسرائيلي مؤخراً، في خضم استمرار توتر العلاقات بين الجزائر والمغرب من جهة، وموقف الجزائر المعروف بمناهضته للتطبيع مع إسرائيل من جهة ثانية. لذلك تتجنب الجزائر أن تكون مجرد متفرجة على هذه التغيرات والتقلبات الدولية والإقليمية، وتعمل بدلاً من ذلك على إعادة النظر في سياستها الخارجية والدفاعية بناءً على هذا الواقع المتغير. وفي هذا السياق، ربما كانت الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري الجديد أحمد عطاف إلى طهران، بعد عقود من الفتور في العلاقات بين الجزائر وإيران، وحديثه عن تفاهمات جزائرية-إيرانية لتطوير العلاقات بين بلديهما، هي ردة فعل على التقارب المغربي-الإسرائيلي، وهذا مؤشر آخر على براغماتية السياسة الخارجية الجزائرية.