حرب التيغراي في إثيوبيا: مهدّدات وحدة الدولة المركزية وتأثيراتها على الإقليم

دخلت الحرب الأهلية في إثيوبيا  مراحل غير مسبوقة. بعد تزايد وتيرة الحرب في ثمان جبهات متفرقة، بل أصبحت الحرب تمثل خياراً وتهديداً وجودياً لطرفي الصراع، يعكس إستحالة التعايش السياسي المشترك، وأن الوسائل العسكرية باتت هي الخيار الوحيد لحسم المعركة مهما بلغت الكُلفة،  لأن الهدف ليس مجرد الاستيلاء على السلطة والانتصار العسكري، بل الشعور المتنامي لدى الطرفين بضرورة استئصال الطرف الأخر، مما أدى إلى  تبادل الإتهامات بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي مع إرتفاع خطاب الكراهية، وتوعد كل طرف بدفن الاَخر في التراب إلى الأبد. حيث يقول تحالف قوى المعارضة الإثيوبية المُكون بالأساس من قوات دفاع التغيراي وجيش تحرير أورومو إنه بات على مقربة من بوابات العاصمة أديس أبابا، ولم يفصله منها سوى 173 كم، بعد هجوم شاق وطويل أنطلق من "مِيقلي" عاصمة إقليم التغيراي في شمال إثيوبيا في يوليو/حزيران الماضي وشمل مناطق في إقليمي "أمهرا" و"عَفر".

في العاصمة أديس أبابا يرتبك المشهد أمنياً وسياسياً، في الوقت الذى أعلن فيه رئيس الوزراء آبي أحمد محاولته الأخيرة لحشد جميع الإثيوبيين القادرين على خوض ما أسماه بـ"الحرب الوجودية"، أعلن آبي أحمد أنه ذاهب إلى جبهة القتال لتوجيه الجيش وقيادة المعارك، وهي خطوة دراماتيكية تعيد إلى الذاكرة سلوك الأباطرة الأثيوبيين القدماء، حيث بثت الحكومة الإثيوبية صوراً لرئيس الوزراء في جبهة القتال، في حين مازالت المعارك مستمرة في أغلب الجبهات ضد قوات التيغراي والفصائل المتحالفة معها، في وقتٍ حذرت فيه الأمم المتحدة بأن أكثر من 9 ملايين شخص باتوا يواجهون الجوع كنتيجة مباشرة للصراع، فيما يعاني ما لايقل عن 13 مليون آخرين من انعدام الأمن الغذائي. وفي هذا السياق دعت الأمم المتحدة الأطراف المتحاربة إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق النزاع في إطار مكافحة أزمة الجوع.

وسياسيا مايزال آبي أحمد يرفض جهود الوساطة التى تبذلها الولايات المتحدة والإتحاد الأفريقي سعياً لوقف إطلاق النار وبدء المحادثات. وقد دعت العديد من السفارات الغربية والولايات المتحدة رعاياها بسرعة مغادرة العاصمة أديس ابابا تحسباً لتطورات أمنية باتت وشيكة على حد وصفها.

هل يؤدى طموح آبي أحمد إلى تمزيق إثيوبيا؟
كان إنتخاب البرلمان الإثيوبي للسياسي المناضل الشاب آبي أحمد علي (47 عاماً) المنحدر من إثنية "الأورومو" رئيساً لوزراء إثيوبيا في أبريل /نيسان 2018 نقطة مفصلية في مسيرة السياسة والحكم في إثيوبيا. تسلم آبي أحمد رئاسة الحكومة في مناخ سياسي يشوبه التوتر والصراع السياسي الظرفي المزمن، حيث كان يحمل مشروعاً وحلماً بالتغير مستنداً إلى تجربة إرثه الشخصي في دهاليز السياسية من المعارضة إلى المناصب القيادية. وذخيرة علمية وشهادة دكتوراه كان موضوعها (النزاعات المحلية في إثيوبيا) بالإضافة إلى شخصيته الصارمة والقوية.

كان مشروع آبي أحمد السياسي يعبّر عن التناقضات العرقية والإثنية لتحقيق شعارات الوحدة والعدالة والرخاء وحلّ النزاعات الداخلية والخارجية. وهو مشروع تماهى فيه ومعه معظم الإثيوبيين، حيث بدى برّاقاً مع مُنجزات كانت لافتة. وعلى الصعيد الخارجي، استطاع أن يضع حداً للحرب مع إرتيريا بتوقيع اتفاق سلام ومصالحة، كافأته لجنة نوبل على إثره بمنحه جائزة نوبل للسلام لعام 2019.

ولكن بعد أقل من ثلاث سنوات فقط يجد آبي أحمد نفسه في خِضم واحدة من أعقد وأخطر الأزمات التى تهدد وحدة إثيوبيا وتعصف به وبتاريخه كصانع للسلام. فالحرب في التيغراي تتوسع وتدخل عامها الثاني، وسرعان ما انفتحت النيران على صاحب (جائزة نوبل)، واهتزت أركان مشروعه السياسي وصورة (صانع السلام) جراء احتجاجات شعبية واسعة في كثير من الأقاليم لأسباب مختلفة. بينها تلك التى أعقبت مقتل المغني الشهير "هاتشالو هونديسا"  في يوليو /تموز  2020 والنزاعات الانفصالية المتجددة، وتوترات في بعض الأقاليم، وإشتعال الحرب في إقليم التيغراي في نوفمبر/ تشرين الثاني  2020 والتى أصبحت عنواناً للصراع في كل الدولة الإثيوبية. يُضاف إليها اتهامات بارتكاب جرائم حرب وبانتقادات واسعة لآبي أحمد بالمسؤولية عنها وهو الذى بنى مشروعيته على تحقيق السلام والوحدة والرخاء.

تأثيرات الحرب في إثيوبيا على دول الجوار والإقليم
تجاور دولة إثيوبيا ستة دول إفريقية هى السودان وإريتريا وجنوب السودان والصومال وكينيا وجيبوتي،  وتمتد الحدود السودانية الإثيوبية على مسافة 800 كيلومتر من مثلث الحدود الإثيوبية الإريترية إلى مثلث أخر بين السودان وجنوب السودان وإثيوبيا. وعلى هذا الامتداد يقع إقليم "التيغراى" المشتعل بالحرب منذ عام، وإقليم "أمهرا" الذى اشتدت به المعارك منذ أغسطس/أب 2021، إضافة إلى إقليم "بني شنقول" الذى وقع فصيله السياسي على ميثاق (الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية) في واشنطن في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، وهو تحالف يضم 9 فصائل تقاتل مع جبهة تحرير التيغراي ضد حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد، ويهدف هذا التحالف للاطاحة بهذه الحكومة وتقديم مسؤوليها للمساءلة القانونية. ويصل عدد سكان هذه الأقاليم الثلاثة نحو 40 مليون، فإقليم التيغراي يبلغ عدد سكانه حوالي 7 ملايين نسمة وأمهرا حوالي 28 مليون وبني شنقول حوالي 4 ملايين نسمة. ومع انتشار حدّة القتال جغرافياً فإن مايزيد عن 40 مليون اثيوبي سيكونون عرضةً للنزوح واللجوء، وهو الأمر الذي يهدد إثيوبيا بالإنهيار. وفي ظل تدهور الوضع الأمني أعلنت الأمم المتحدة أنها باتت تقدم المساعدات الغذائية لنحو 20 مليون إثيوبي منهم 7 ملايين متأثرين بالحرب مباشرة، بالإضافة إلى تزايد هذه الحاجة أيضا بعد أن فقد إقليم الأمهرا هذا العام حوالي 400 ألف فدان في منطقة "الفشقة" التى استعادها الجيش السوداني في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 كانوا يقومون بزراعتها سنوياً، لذا فإن الأوضاع في الدولة التى يسكنها 115 مليون شخص ستكون معقّدة ومهددة لكل المنطقة.

التدخلات الدولية في حرب التيغراي
تحدثت الكثير من الجهات وألقت العديد من التقارير الضوء في الفترة الأخيرة على إحتمال مشاركة مرتزقة آجانب في الحرب في إثيوبيا. ورغم تأكيدات الحكومة الإثيوبية في أكثر من مناسبة على أن الصراع الدائر شأن داخلي لا تسمح بتدخل أحد فيه، إلا انه كشفت التقارير مشاركة الجيش الإريتري وبعض الفصائل الصومالية إلى جانب القوات الإثيوبية الحكومية، كذلك وجه رئيس الوزراء الإثيوبي إتهامات مماثلة لجبهة تحرير التيغراي بأنها تستعين بالكثير من الأجانب في الحرب ضد قوات الحكومة من بينهم (رجال بيض) بحسب وصفه. كما رجح غيتاتشو رضاء المتحدث بأسم جبهة تحرير التيغراي، أن المرتزقة الأجانب الذين يقاتلون إلى جانب الحكومة ربما ينتمون إلى الصين أو اسرائيل أوالإمارات، وذلك في تصريحات أدلى بها لوكالة رويترز في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.  

ما هي السيناريوهات المستقبلية للدولة الإثيوبية؟ 
بات واضحاً أن إثيوبيا ما بعد حرب التيغراي لن تكون هي ذات إثيوبيا ما قبلها، مهما كانت نتائج الحرب. فالتحالف الذى يقود الحرب ضد آبي أحمد يطرح فكرة الفيدرالية والكونفدرالية لملامح الدولة الإثيوبية القادمة، التى قد تسير على درب الإتحاد اليوغسلافي من حيث التفكك والأنهيار، أو تشكيل كيان سياسي أكثر تحضراً، على غرار الإتحاد الأوربي، اذا ما إستطاعت القوميات المتحالفة أن توقف القتال فيما بينها. وجبهة تحرير التيغراي لن تستطيع العودة إلى الحكم حتى ولو إنتصرت في الحرب نظراً لتاريخها الدموي ضد القوميات الأخرى إبّان سنوات حكمها الـ27 الماضية منذ عام 1991 إلى 2018. ولن يتمكن جيش تحرير الأورومو غير المجهز بمفرده من إدارة الفراغ السياسي والأمني، وهو أمر محفوف بالمخاطر في ظل بيئة متصارعة ومنقسمة. وستكون إثيوبيا حينها دولة عصية على الحكم المركزي وربما تنزلق إلى حرب أهلية تستمر لعقود قادمة.

أمّا إذا مافشلت المعارضة في تحقيق إختراق عسكري وإنتصر آبي أحمد في الحرب وعاد إلى العاصمة بطلاً قومياً، فإن حالة من الجمود السياسي سوف تسيطر على المشهد في البلاد وربما تستمر لسنوات. ولكن التكلفة البشرية لهذا السيناريو ستكون هائلة ومؤلمة سواءً بالنسبة لإقليم التيغراي الذى يعانى من آثار الحصار ونقص الغذاء والخدمات الأساسية، أو في المناطق المجاورة التي تعيش آثار الحرب وانتشار العنف. حيث أن جميع الفرقاء يوجّهون مواردهم حالياً لصالح الحرب، مما يعني أن ذلك سيؤثر على الإقتصاد وستزداد معاناة السكان. وتنشأ حالة من الاضطرابات الاجتماعية في جميع الاقاليم والمناطق، وهو ما يدفع إلى تأسيس حركات تمرد متعددة.

يبقى السيناريو الأصعب وهو تحقيق الوفاق السياسي ووقف إطلاق النار بعيداً في هذا الوقت، بعد ما شعرت الحكومة بأنها حققت بعض التقدم والإنتصار على الأرض. ولكن أطراف دولية كثيرة تخشى إنهيار الدولة الإثيوبية تضغط من أجل الوصول إلى اتفاق شامل، تفادياً لإستمرار الحرب وتكلفتها الأمنية والإنسانية الباهظة.