تركمان العراق ودولة المواطنة

من المعروف أن احتجاجات تشرين الأول 2019 قد أفرزت واقعاً جديداً في السياسة العراقية، فقد كان هنالك تفاعلاً غير مسبوقاً من عموم الشعب العراقي مع مطالب وشعارات تلك الاحتجاجات، التي ركزت على نبذ الفساد والطائفية والمحاصصة، والتي دعت الى بناء نظام قائم على أساس المواطنة، ودولة تدار من قبل شخصيات كفوءة. تأثير تلك الاحتجاجات أرغم معظم السياسيين العراقيين على تغيير نهجهم وخطابهم، من الدفاع عن القوميات والمذاهب والمناطق والهويات الفرعية الأخرى، الى الخطاب الوطني الواعي، وتبني الهوية الوطنية الجامعة في طروحاتهم. هذا التحول السياسي يجعل العراقيين، وخصوصاً التركمان منهم، متفائلين بإمكانية الوصول إلى حالة الوطن الآمن الذي يشعر جميع أبنائه بالمواطنة، وظهور معالم الوطن الديمقراطي الحقيقي، المتمثلة بحكومة مركزية قوية تحفظ الخصوصية الثقافية لجميع المكونات، وتراعي المساواة في تعاطيها مع جميع ابناء الشعب العراقي، بعد عقود من التهميش والتجارب السيئة من السلطات المتعاقبة.

الأمة العراقية "مفهوم مفقود"
المعروف ان ترسيخ مفهوم الأمة يتعزز من قوة الدولة. ويعرف المفكر التركيُّ (إبراهيم قفس أوغلو) الأمة؛ "على أنها اتحاد اجتماعيٌّ يشارك أفراده في مقوِّمات الثقافة الوطنية، وهي مصدر الشعور والثقافة الموحدة، التي توفر التكامل والانسجام للمجتمع بأسره، وتخلق وتدعم مؤسساته الأصيلة".

إلا اننا نرى ان الهويات الفرعية المتشابكة في المجتمعات الشرقية، استمرت في فرض واقع اكثر تعقيداً مما هو عليه في المجتمعات الغربية، خصوصا في الدولة العراقية، التي لم تستطيع فيه الأنظمة المتعاقبة بإنشاء هوية وطنية جامعة، تعلو فوق كلِّ الولاءات والانتماءات الفرعية. لهذا يعد العراق وشعبه من أكثر الدول المتضررة في هذه الجغرافية المحتقنة، التي ساهمت في أستمرار التعصب والاضطهاد ضد بعضهم البعض.

فمنذ تأسيس الدولة العراقية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، باتت صياغة عقد اجتماعي جديد قائم على الهوية الوطنية، يجمع الهويات الفرعية للمكونات المجتمعية في هذه المنطقة، يمثل تحدياً كبيراً. وقد أشار ملك العراق الراحل فيصل الاول إلى ذلك في رسالة وجهها للعراقيين قبيل وفاته بأعوام، حينما قال: "أقول وقلبي ملآن أسى، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت".

ليس من الصحيح الجزم أن الهوية الوطنية في العراق مفقودة منذ تأسيس هذا البلد والى يومنا هذا، إنما هناك أحداث وظروف ساهمت في تقويتها، كما ساهمت أحداث وظروف أخرى في إضعافها أيضا.

حيث ان الاحداث السياسية والاجتماعية في السنوات التي أعقبت الغزو والإحتلال الأمريكي في 2003، أدت الى اضعاف فرص تشكل قوى سياسية وطنية عابرة للانتماءات الفرعية، وأصبح ينظر الى العراق باعتباره مجتمعاً يتكون من جماعات عرقية وطائفية تغيب عنها فكرة "الهوية الوطنية" الجامعة. وحتى اليوم نرى ان محاولات تشكيل الحكومات تواجه العديد من التحديات والتأخير، لأن تنافس الأطراف السياسية في العراق أصبح من أجل خدمة مكوناتهم وجماعاتهم، بدلاً من التنافس من أجل خدمة عموم المجتمع.

ضعف الهوية الوطنية في الدول العربية هي أرث الاستعمار الاجنبي
ان ضعف الهوية الوطنية في الدول العربية لم تكن بالصدفة، فبعد انهيار الدولة العثمانية، كان لدى بريطانيا وفرنسا اتفاقٌ على أن يكون شمال منطقة الشرق الأوسط تحت السيطرة الفرنسية ويكون الجنوب تحت السيطرة البريطانية. قبل اتفاقية سايكس-بيكو 1916 لم تكن دولُ المنطقة الحالية موجودة (سوريا، لبنان، الأردن، العراق، السعودية، الكويت، فلسطين)، وبعد استحداثها بقيت هذه الدول هشة وغير موحدة؛ والسبب هو أنهم استطاعوا تشكيل دول تحت مسميات عديدة ولكن لم يستطيعوا أن ينشئوا مفهوم الأمم داخل هذه الدول.

قسّم الاستعمار الأوروبي المنطقة ذات الأغلبية العربية الى دول تحكمها اقطاعيات عائلية، اهتمت بمصالح طوائفها وقومياتها، أكثر من اهتمامها بمصالح القوميات والمذاهب والأديان المغايرة لانتمائاتها. وعليه استمرت الاضطرابات والأزمات في اكثر هذه الدول. حتى الدول المستقرة منها استطاعت ان تصل الى الرخاء والازدهار، عن طريق وصاية الدول العظمى على موارد وقرارات وسياسات تلك الدول.

بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، كان الوضع في العراق متوترًا، وكان العراقيين ينتظرون تنفيذ الوعود البريطانية بالاستقلال، وعندما بدأت المؤشرات تنذر بعكس ذلك، تطورت المشاعر المعادية لبريطانيا في داخل المجتمع العراقي. وبعد فترة وجيزة عن مؤتمر سان-ريمو الذي عقد في ايطاليا في نيسان 1920 لتقسيم منطقتنا، شهد العراق انتفاضة شعبية ضد البريطانيين في أيار 1920، بسبب تراجع البريطانيين عن وعودهم بشأن الاستقلال.

استطاع الاحتلال البريطاني آنذاك السيطرة على الثورة بالقوة والقمع، والتوقيع على اتفاقية "سلام" شكلية مع الأمير فيصل بن الحسين (الملك فيصل الأول لاحقاً) بغية منح الاستقلال للعراق، ولكن في الأساس كان الحاكم الفعلي هم البريطانيين أنفسهم. وبهذه الطريقة تم حبس الشعب العراقي داخل حدود ليس هم من رسموها؛ بل رسمت وفرضت عليهم من قبل البريطانيين، كما عليه الحال في الدول المجاورة، سوريا وغيرها من دول المشرق العربي.

بمرور الوقت، أصبحت منطقة الشرق الأوسط، التي تتميز بتنوع مكوناتها المجتمعية، تشهد الصراعات الإثنية والمذهبية بشكل مستمر. بدأت الهويات تحاول التسلط على بعضها البعض. أصبح الفرد الذي يعيش في هذه المنطقة يعرِّفُ عن نفسه على أساس قوميته ومكان ولادته، وهويته الدينية أو المذهبية، أو ربما العشيرة التي ينتمي إليها، بدلاَ من إظهار الانتماء لبلاده.

انعكست هذه العوامل على واقع تركيبة العملية السياسية في العراق بعد 2003، التي انطوت على منافسة حادة على السلطة السياسية، فضلاً عن نظام المحاصصة، الذي رسخ مفهوم "وجوب" اهتمام القادة السياسيين بهوياتهم المذهبية والقومية الفرعية أكثر من اهتمامهم بالخطاب الوطني الشامل.

التركمان والهوية الوطنية العراقية
عندما نشاهد العراق في الخارطة نراها دولة ذات سيادة وطنية متكاملة، ولكن للأسف الواقع يختلفُ تمامًا. في سنوات حكم النظام السابق كان العالم يعرف شيئًا واحدًا عن العراق؛ بلدٌ يحكم فيه ديكتاتورٌ. ولكن اليوم وبفضل وسائل الاعلام الحديثة، أصبحت الأغلبية التي تتابع التطورات في الشرق الأوسط بعامة، وفي العراق بخاصة، تعرف أدقَّ التفاصيل عن الأطراف المتصارعة، والأحزاب الحاكمة والجماعات المسلحة والإرهاب والفساد والقتل على الهوية ونظام المحاصصة.

قد تكون هذه الفوضى في صالح البعض من الأحزاب والجماعات التي تسيطر على مفاصل الدولة او السلطة، و كل منها يمسك أرضاً في منطقة معينة، يستفيدون من فراغ سلطة الدولة وينشئون نظامهم الخاص في بقعهم الجغرافية، وتبقى المكونات والجماعات الأخرى التي تؤمن بضرورة تكريس سلطة الدولة، تارة يتم تهميشهم من قبل الدولة نفسها، وتارة أخرى يفرض عليهم واقع مؤسف من قبل هذه الأطراف المهيمنة. وتبقى آمال هذه المكونات في وصول العراق إلى حقبة جديدة، تجلب معها التحول الحقيقي من اللا دولة إلى الدولة.

فالتركمان رغم إنهم يمثلون (بحسب الدستور العراقي النافذ) المكون الأساس الثالث في البلاد، بعد العرب والكرد، إلا أنهم مستبعدين من التمثيل في مفاصل الدولة بما يمثل ثقلهم الحقيقي في البلاد، هكذا كان الحال منذ تأسيس الدولة العراقية، حيث تم استهداف التركمان بشكل مباشر، لضمان عدم مطالبتهم بالمشاركة في الحكم وتهميشهم. ورغم ان التركمان بقوا متمسكين بهويتهم الوطنية كانوا دائماً معرضين لسياسات التغيير الديمغرافي، وطمس هويتهم الثقافية، ومن هذه الممارسات على سبيل المثال سياسة "تصحيح القومية"، وتعريب المناطق التركمانية، واستملاك اراضيهم ومصادرتها، وتوزيعها على عوائل عربية تم جلبها من محافظات الجنوب، فضلا عن تغيير اسماء الوحدات الادارية التركمانية، كاسماء المدن والبلدات والقرى والاحياء التركماني الى أسماء عربية ذات دلالات تمت بالصلة الى مفاهيم البعث.

وبعد غزو واحتلال العراق في 2003، قامت الولايات المتحدة والقوى العراقية التي تحكمت بالمشهد السياسي في هذا البلد، باستبعاد التركمان عن إدارة الدولة العراقية، وجرى اضعاف دورهم في العملية السياسية. وكذلك تعرضت المناطق التركمانية لتغيير ديمغرافي جديد بحجة اعادة المرحلين الكرد. حيث شهدت المناطق التركمانية عمليات ارهابية مستمرة، بسبب الفراغ الأمني الحاصل نتيجة الخلافات القائمة بين الحكومة المركزية وادارة اقليم شمال العراق. ابشع تلك العمليات حدثت عند اجتياح تنظيم داعش الارهابي أغلب المناطق التركمانية، وقيامه باعتداءات جسيمة تصل الى حد جرائم الابادة الجماعية، ومحو الهوية القومية والتطهير العرقي، وخطف النساء واغتصابهن، وخطف الأطفال، وتدمير وسرقة كافة ممتلكات المواطنين التركمان ومصادرتها، وتدمير أماكنهم الأثرية والتاريخية. لقد تعرض التركمان للتجاوزات والانتهاكات والحصار والنزوح الجماعي في الكثير من مناطقهم، الممتددة من تلعفر الى مندلي.  

 ورغم التضحيات التي قدمها التركمان، لم تكتفِ الحكومات بتهميشهم فقط؛ بل وفي بعض الأحيان يتخذ الأمر منحى أخطر من ذلك؛ تارة يتم التعامل مع التركمان على انهم ليسوا مواطنين اصلاء، بل انهم دخلاء طارئين في الوطن، وهو ما يتنافى مع حقيقة تاريخ وجود تركمان العراق في هذا البلد، وتارة أخرى (بعد 2003) تحاول الأطراف المسيطرة على السلطة في البلاد إذابة التركمان داخل الهويات المذهبية (شيعية وسنية)، وحيث ان هذه المحاولات لم تأتِ من أجل منح التركمان حقوقهم؛ وإنما لأجل كسب وزيادة عدد أكبر من المناصب لمذهبهم، على حساب هذه المكون الأصيل الذي حافظ على انتماءه الوطني، رغم تعرضهم المستمر لسياسات القمع والتهميش.

دولة المواطنة أمل يتمسك به التركمان
انطلاقاً من هذه الوقائع التاريخية، نرى ان تركمان العراق قد أدركوا ان الطريق الوحيد لنيل حقوقھم تتمثل بدولة قائمة على أساس المواطنة وسلطة القانون، یعیش ویتشارك فیھا الجمیع دون اقصاء أو تھمیش. فالتركمان يسعون لفرض احترامھم ونیل حقوقھم مثل أي قومیة أخرى في العراق دون المساس بوحدة هذا البلد. وبنيت السياسة التركمانية على أمل بناء وطن ديمُقراطي حقيقي، ذو سيادة، تحكمها حكومة مركزية قوية، تحافظ على خصوصيات المكونات وتشركهم في إدارة الدولة، وتوزع خيرات البلاد على مواطنيه على أساس نظام عادل.

وبرغم تصريحات المسؤولين والسياسيين العراقيين المتكررة عن ضرورة الغاء نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، وان تكون الأهلية والكفاءة هي الأساس في تشكيل الحكومات وفي بناء الهيكلية الادارية للدولة، الا ان هذه الدعوات لم تتحقق، واستمر العرف السياسي الذي تم تطبيقه منذ عام 2005، باختيار رئيس الوزراء من الشيعة ورئيس الجمهورية من الكرد ورئيس مجلس النواب من السنة، كما جرى اختيار نواب لكل من هؤلاء الرؤساء بموجب نفس المعيار، دون ان ينال التركمان نصيبهم من الاستحاق القومي، سواء من ناحية تمثيلهم في الرئاسات الثلاث، أو في الدرجات الخاصة في الحكومة العراقية.

اذا أردنا النظر الى الجانب المشرق من الواقع، يمكننا القول أنَّ هنالك اصوات وطنيـة ناشئة، بدأت ترتفع ويسمع صداها يومًا بعد يوم، وصلت الى أوجها في احتجاجات تشرين الأول 2019، تدعو إلى احترام سيادة البلاد والقضاء على البطالة والفساد وإنهاء الطائفية والمحاصصة المقيتة، وبناء الدولة على أساس المواطنة والكفاءة، دعم هذه الرسالة الإيجابية واجب يقع على عاتق كل فرد محب لبلاده، من أجل أن تترجم إلى الواقع، وهنالك بوادر من أصحاب الرأي والسياسيين الذين كانوا يظهرون على الشاشات يدافعون عن قومياتهم ومذاهبهم ومناطقهم، نراهم اليوم يدافعون عن الهوية الوطينة، إذ بدأ صدى الوطنية يُسمع ويدوي بشكل قوي، حاملا ًمعه أملاً بوطن للجميع، للعراقيين بعامة، وللتركمان بخاصة.