كيف تؤثر أحداث كركوك على حكومة السوداني؟

 كركوك، تلك المدينة التي لديها جميع مقومات الديناميات العرقية والدينية والطائفية في العراق، تحولت في الآونة الأخيرة، إلى أكثر المحافظات العراقية التي تشهد صراعات سياسية، وبدأت تتصدر الواجهة على الساحة الدولية، والإقليمية، والمحلية في العراق. ولا يزال عدم الاستقرار السياسي والعسكري مستمرا حتى يومنا هذا في محافظة كركوك، التي أصبحت إدارتها وأوضاعها القانونية مثيرة للجدل، مع الدستور الذي تم وضعه بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق في عام 2003.

تم تشكيل ائتلاف إدارة الدولة من جميع القوى السياسية الشيعية والسنية والكردية المهيمنة على الساحة السياسية، باستثناء التيار الصدري، من أجل تشكيل حكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق 2021، وتم تكليف المرشح المشترك للائتلاف محمد شيّاع السوداني، لمنصب رئيس الوزراء. كما قامت حكومة السوداني بإعلان برنامجها في إطار التحالفات السياسية التي جرت بين الدينامّيات السياسية في هذا الائتلاف. ووافق البرلمان على برنامج الحكومة الذي تم إعداده بعد تكليف السوداني بتشكيل حكومة وتولي منصب رئيس الوزراء. ومنحت الفقرة 13 من البرنامج الأحزاب السياسية الكردية الحق في ممارسة نشاطها السياسي ضمن الإطار الدستوري في محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى. وتعتبر هذه المحافظات الواردة في هذه الفقرة، مناطق متنازع عليها بحسب الدستور العراقي.

كيف اندلعت الأزمة؟
الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الحزبان السياسيان المسيطران في حكومة إقليم كردستان العراق، هما من ضمن ائتلاف إدارة الدولة. ومن أجل تنفيذ الفقرة المذكورة مسبقاً بما يتماشى مع مصالح الأحزاب السياسية الكردية، أصدر رئيس الوزراء السوداني بيانا في 6 أغسطس/ آب 2023، أمر فيه بإخلاء المباني التي كانت تستخدمها الأحزاب السياسية الكردية (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني) كمكاتب سياسية قبل 16 أكتوبر/ تشرين أول 2017 في كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها التي يمثل التركمان فيها أغلبية سكانية، ووجه السوداني تعليماته بإعادة هذه المباني إلى الأحزاب السياسية. إلّا أن هذه التعليمات تسببت في اندلاع الأحداث الأخيرة التي وقعت في كركوك التي تعتبر محافظة عراقية حساسة.

ومن الأسباب الأخرى التي ساهمت في تصعيد الأحداث الأخيرة في كركوك، هي المادة 35 في قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والأقضية. وكانت هذه المادة قد كتبت بدعم من الأمم المتحدة واتفاق مكونات كركوك. لكن الأحزاب السياسية الكردية اعترضت على هذه المادة منذ اليوم الأول لكتابتها. حيث اعترض الأكراد على بند في المادة يتعلق بتدقيق سجل الناخبين في الانتخابات التي ستجرى في كركوك.

دخلت هذه المادة حيز التنفيذ بنشرها في الجريدة الرسمية للعراق في مايو/ أيار 2023. وعلى الرغم من ذلك، قدمت الأحزاب السياسية الكردية التماسا إلى المحكمة الاتحادية العليا العراقية من أجل إلغاء هذه المادة، إلّا أن المحكمة الاتحادية العليا العراقية رفضت الاعتراض في 28 أغسطس/ آب وأصدرت قرارا بتنفيذ البند المذكور. وفي الوقت الذي اعتبر فيه هذا القرار خطوة زادت من حدة التوتر في كركوك، إلا أن القرار المتخذ بشأن مبنى قيادة العمليات المشتركة في كركوك تسبب في تحوّل هذا التوتر إلى نقطة الانفجار.

رمزية المقر الذي سبب الأزمة
يشار إلى أن المقر الحالي لقيادة العمليات المشتركة في كركوك كان يستخدم مقرا سياسيا للحزب الديمقراطي الكردستاني، حتى 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2017. لكن قيادة عمليات كركوك المشتركة التي كلفتها الحكومة العراقية المركزية بضمان أمن المحافظة بدأت بعد 16 أكتوبر/ تشرين أول 2017 باستخدام المبنى الذي يحتل موقعا استراتيجيا على طريق كركوك–أربيل. واعترض العرب والتركمان في كركوك على إعادة هذا المقر إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بناء على تعليمات السوداني، لأنه أصبح رمزا لعودة الاستقرار في هذه المدينة بعد استعادة الحكومة المركزية سيطرتها على كركوك في 2017. وفي الوقت نفسه، تم تنظيم احتجاجات أمام المقر أغلب المشاركين فيها من العرب. وأصبحت المظاهرات الاحتجاجية أكثر زخماً يوما بعد يوم، مما تسبب في إغلاق الطريق الرئيسي الذي يربط بين كركوك وأربيل أمام حركة المرور.

في 2 سبتمبر/ أيلول تحركت مجموعة من أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني، يقال إن بينهم مسلحين، انطلقت من منطقة "شورجة" القريبة من المقر المذكور والتي يعيش فيها أغلبية كردية في كركوك، وقامت بالدخول في جدال مع المتظاهرين وطالبت المشاركين في المظاهرات بفتح الطريق الرئيسي، إلّا أن النقاش تحوّل فيما بعد إلى صراع مسلح. وعندما تصدت القوات الأمنية المسؤولة عن ضمان سلامة المتظاهرين لهذه الجماعة المسلحة، اندلعت مواجهات أدت إلى مقتل 4 أشخاص وإصابة ما يقرب من عشرين شخصا بينهم عناصر من الشرطة. كما تم إحراق سيارات تابعة للمتظاهرين في مكان الحادث.

تعليمات فرض حظر التجول
ومن أجل تهدئة الأحداث في محافظة كركوك، أصدر السوداني بصفته القائد العام للقوات المسلحة تعليماته إلى مديرية شرطة كركوك بفرض حظر التجول. وقامت قوات الأمن باعتقال بعض المتظاهرين الأكراد الذين لم يلتزموا بحظر التجول وداهمت منازلهم. كما ألقى الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد كلمة طالب فيها بالحفاظ على السلام الاجتماعي في كركوك.

من المعروف أن معظم الأكراد الذين يعيشون في منطقة شورجة في كركوك هم من أنصار الاتحاد الوطني الكردستاني. لكن يقال إن الذين تشاجروا مع المتظاهرين كانوا من أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني وجاءوا من خارج كركوك. وأدلى المتحدث باسم شرطة كركوك عامر شواني بتصريحات مماثلة فيما يتعلق بذلك الأمر. جدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي الكردستاني والقوات المسلحة التابعة له انسحبت من كركوك وغيرها من المناطق المتنازع عليها مع عملية فرض القانون التي نفذتها الحكومة المركزية في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2017. وبعد هذا الانسحاب، أصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني بيانا اتهم فيه الاتحاد الوطني الكردستاني بالاتفاق مع الحكومة المركزية على تسليم كركوك. وانطلاقا من هذه الاتهامات، قد يكون للحزب الديمقراطي الكردستاني رغبة في الانتقام من خلال خلق الفوضى في الأحياء التي يعيش فيها مؤيدو خصمه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

ما هو القرار الذي أصدرته المحكمة الاتحادية؟
من المعروف أن ملكية مقر قيادة العمليات المشتركة في كركوك تعود إلى وزارة النفط ووزارة المالية في الحكومة المركزية. لذلك، فإن استخدام المباني المملوكة للدولة من قبل حزب سياسي يعتبر مخالفا للقوانين في البلاد. حيث ينص البند ب من المادة 28 من قانون الأحزاب السياسية العراقية رقم 36 لعام 2015 على حظر الأنشطة السياسية للأحزاب السياسية في المباني المملوكة للدولة. وردا على التعليمات التي أصدرها رئيس الوزراء السوداني في 6 أغسطس/ آب 2023، تقدم ممثل العرب وعضو مجلس النواب العراقي عن محافظة كركوك وصفي العاصي بطلب إلى المحكمة الاتحادية العليا العراقية لإلغاء تعليمات تسليم مقر العمليات في كركوك إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني، مستشهدا بالمادة الواردة في قانون الأحزاب السياسية العراقية.

وبناء على طلب الاعتراض، قامت الحكومة المركزية في 30 أغسطس/ آب بإرسال لجنة إلى كركوك لفحص ملكية المقر. وفي ردها على طلب العاصي، أصدرت المحكمة أمرا قضائيا/ ولائيا في 3 سبتمبر/ أيلول بوقف تنفيذ تعليمات السوداني المتعلق بإخلاء هذا المقر وتسليمه إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني. وبذلك أوقف القرار الذي اتخذته المحكمة بشكل مؤقت تسليم هذا المقر. بعد ذلك القرار، اتخذت حكومة إقليم كردستان خطوة احتجاجية بطباعة طابع بريدي في أربيل مكتوب عليه عبارة "كركوك هي كردستان" الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تصعيد الأحداث في كركوك.

علقت المحكمة الاتحادية العليا في العراق بشكل مؤقت أمر إخلاء مقر قيادة العمليات المشتركة في كركوك ونقله إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني لحين البت في الدعوى. ولأن هذا القرار لا يشكل حلا نهائيا، فهو يعني أيضا أن التوتر السياسي في كركوك سيستمر. لذلك ربما لا تقوم المحكمة بالفصل في القضية بشكل نهائي، من أجل منع زعزعة السلم الاجتماعي في كركوك. جدير بالذكر أن هذه المرحلة التي أدت إلى خروج تعقيدات السياسة إلى شوارع كركوك وتعليق قرار رئيس الوزراء السوداني بتسليم المقرات للأحزاب الكردية نتيجة التظاهرات، كانت محط أنظار واهتمام من المجتمع الدولي أيضا.

"ضعوا حدا لوجود حزب العمال الكردستاني"
الدول المجاورة للعراق التي لها دور فعّال في سياسة الشرق الأوسط، تولي أهمية كبيرة للأحداث الجارية في كركوك. وفي تعليقه على هذه الأحداث، أدلى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالتصريح التالي:

"إننا ننظر بحزن وقلق إلى ما يحدث في محافظة كركوك التي تعتبر موطن التركمان الذين هم أحد العناصر الأصيلة المؤسسسة للعراق. إن السلم والاستقرار في كركوك يؤثران على السلم والاستقرار في العراق بأكمله. نحن نرى في كركوك رمزا لثقافة التعايش السلمي. ونطالب السلطات العراقية بوضع حد فوري لوجود ونشاطات حزب العمال الكردستاني الذي تزايد في هذه المدينة مؤخرا".

في الحقيقة إن التصريح الذي أصدره فيدان خلال زيارته لإيران يمثل أهمية أيضا للتوازن السياسي بين العراق وإيران، كونه صادر من فيدان في طهران. وعقب هذا التصريح مباشرة، أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانا قالت فيه: "إن الدولة العراقية ومؤسساتها ذات الصلة قادرة على تهدئة الأحداث في كركوك. نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية للعراق. لكن إذا تم طلب المساعدة، فنحن على استعداد لتقديم المساعدة في هذا الصدد".

يشير هذا التصريح إلى وجود انطباع بأن إيران منزعجة من العلاقات التركية العراقية التي اكتسبت زخما في الآونة الأخيرة. لذلك فإن البيان الصادر عن وزارة الخارجية الإيرانية مباشرة بعد تصريح فيدان قد يشير إلى طبيعة التنافس بين البلدين.

أزمة كركوك أصبحت على الأجندة الدولية
وبالتوازي مع نفس الموضوع، أدلى الرئيس رجب طيب أردوغان بتصريحات مشابهة لتصريح فيدان، في رده على أسئلة الصحفيين حول كركوك خلال عودته من زيارته الأخيرة لروسيا. وتمثل هذه التصريحات التي أدلى بها الرئيس أردوغان أهمية كبيرة بالنسبة للتركمان. ولكن، تم تفسير هذه التصريحات من قبل بعض الجهات السياسية العراقية، على أنها "تدخل في الشؤون الداخلية للعراق". وفي تصريح اعتبر ردا على تصريحات الرئيس أردوغان، قال قيس الخزعلي زعيم حركة عصائب أهل الحق المدعومة من إيران والمعروفة بأنها الميليشيات المسلحة الأكثر تطرفاً في الساحة العراقية، وهي احدى فصائل الحشد الشعبي، إن "كركوك مدينة عراقية. والتركمان هم عراقيون أيضا، ولا يحق لأي دولة التدخل في شؤوننا الداخلية". ويمكن تفسير تصريح الخزعلي المدعوم من إيران على أنه يريد القول إن تركيا ترغب في التدخل في الشؤون الداخلية للعراق، لكن إيران لن تسمح بذلك، وفي الوقت نفسه قد يؤثر تصريح الخزعلي سلبا على زيارة أردوغان المقررة للعراق في المستقبل القريب.

كانت الأحداث الأخيرة في كركوك محط أنظار الولايات المتحدة الأمريكية أيضا. حيث دعت وزارة الخارجية الأميركية إلى تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي من أجل القضاء على الخلافات بين المكونات التي تعيش في كركوك. هذه الدعوة الأمريكية زادت من حدة التوتر في كركوك. حيث نظم أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني مظاهرة في منطقة رحيماوة، المنطقة الأخرى التي يسكنها غالبية كردية في كركوك، من أجل تحويل التصريح الأمريكي إلى فرصة. وفي نهاية المظاهرة، تم حرق العلم العراقي وتعرضت قوات الأمن العراقية إلى هجوم بالعصي والأسلحة. وأسفرت هذه الاعتداءت عن إصابة اللواء الركن عبد الرزاق النعيمي الذي كان يعمل في قيادة عمليات كركوك المشتركة، إضافة إلى 15 عنصرا من القوات الأمنية. كما تقترب ذكرى استفتاء حكومة إقليم كردستان في 25 سبتمبر/ أيلول، وذكرى عمليات نقل السيطرة في كركوك إلى الحكومة المركزية في 16 أكتوبر/ تشرين الأول. وربما تعمل الجماعات الكردية على استغلال هذه التواريخ مرة أخرى والقيام بعمليات تحريض وشغب.

الاختبار الأكبر للحكومة
وفي النتيجة، قد تمثل الأحداث الأخيرة في كركوك الاختبار الأكبر الذي تواجهه حكومة السوداني منذ تشكيلها. والمادة الخاصة بعودة الأحزاب السياسية الكردية إلى المناطق المتنازع عليها في البرنامج الحكومي الذي تم إعداده لخدمة مصالح الكتل السياسية المشكلة لحكومة السوداني، تعتبر إحدى العقبات الرئيسية أمام استمرار هذه الحكومة.

وفي حال عدم تطبيق هذه المادة فمن المحتمل أن تنسحب الكتل الكردية من ائتلاف إدارة الدولة. وفي حال حدوث هذا الاحتمال، قد تكون هناك مخاوف بشأن استمرار الائتلاف واستمرار الحكومة. جدير بالذكر أن تولي السوداني منصبه ساهم في أن تشهد العراق استقرارا ولو بشكل جزئي في المجالين الأمني والاقتصادي، لاسيما فيما يتعلق بتعيينات موظفي القطاع العام والبنية التحتية والبنية الفوقية. وحتى لا تلقي هذه الأحداث بظلالها على نجاح حكومة السوداني، فمن الممكن منع تجدد الأحداث في كركوك من خلال إصدار تعليمات بمواصلة استخدام قيادة العمليات المشتركة في كركوك للمقر الذي سبب المشكلة، استناداً لعائدية ملكيته للدولة.

نشر هذا المقال تحت عنوان "كيف تؤثر أحداث كركوك على حكومة السوداني؟"، في نافذة يوميات الفكر بموقع صحيفة يني شفق، في 11 سبتمبر/ أيلول 2023.