إيران التي لا يمكن أن تكون طبيعية

من الواضح انه لا تتحقق عودة ايران الى الوضع الطبيعي بعد الاتفاقية النووية، باعادة علاقاته مع المجتمع الدولي فحسب، بل ان ذلك يتحقق عن طريق اعادته النظر وبشكل جذري في سياساته الاقليمية وتطويره حوارا ايجابيا في المنطقة. وبهذا الوصف، اذا اقتضى الحال ان نصف ايران بشكل اكثر دقة، يمكننا ان نقول ان عليها ان تبادر الى ازالة الغموض الاستراتيجي الذي يكتنف سياساته والى قيامها مجددا بتوصيف مصالحها في المنطقة ضمن حدود اكثر معقولية.

 

ورغم الاتفاقية التي عقدتها ايران مع المجتمع الدولي والتي تخص المشاكل النابعة عن برنامجها النووي، فان تعريفها لكيفية تحديد وضعه في الشرق الاوسط لا يزال يكتنفه الغموض. وكما هو ظاهر من الازمة الاخيرة التي عاشها مع المملكة العربية السعودية، فان ايران لا يتوانى عن ان يكون طرفا في الخلافات الناشبة في الشرق الاوسط بدل ان يكون عاملا يساعد على الحد من التوترات القائمة في تلك المنطقة. ومهما دأبت التصريحات الصادرة من ايران على الاشارة الى من يصفهم بانهم السبب الوحيد في هذه الاختلافات، فانه لا يمكن اغفال دوره في ابراز آليات الصراع المتزايد في المنطقة والتي تخفي في طياتها النزعات المذهبية ايضا، ولا قراءاته الاستراتيجية لهذا الصراع سواء عن قصد او عن غير قصد. ان اكتمال التطبيع بعد انتهاء العقوبات المفروضة على ايران يفترض ان يتبعه تطبيع كامل بين ايران وبين المنطقة، وان تتولى هذه الدولة تنفيذ استراتيجية تقوم على الحوار بين بلدان المنطقة. غير ان ايران، وكما كان الحال عليه قبل الاتفاقية النووية، يتقارب مع المنطقة بسياسة مليئة بالمشاكل، منطلقا في ذلك من عامل تناقضاته الداخلية وكامتداد لتوجساته الأمنية، ولا شك ان هذا الوضع يضع ايران في قلب الاستقطاب الذي يتعاظم شأنه اكثر فأكثر في المنطقة.

 

هل ان قراءتنا خاطئة؟

تتوالى التصريحات الصادرة من الجانب الايراني بما يفيد ان المنطلق الرئيسي للتوترات الحاصلة في المنطقة هو النهج المذهبي الذي تتبناه المملكة العربية االسعودية والتاييد الذي تضفيه على التطرف القائم في المنطقة، اضافة الى سياسات تغيير الانظمة التي يتّبعها الغرب. والواقع ان التصريحات التي تنحو هذا النحو تضع ايران في موضع اكثر فاعلية كعامل مؤثّر في المنطقة، وترمي مسؤولية الازمات على السياسات التي يتّبعها الغير. ان السبب الرئيس للتدخل الايراني في المشاكل كما هو ظاهر من امثلة لبنان والعراق وسوريا واليمن، هو نظرته الى كون الفعاليات التي يبديها الغرب او تبديه المملكة العربية السعودية وحلفاؤهما تشكّل تهديدا لإيران وحلفائها. واذا ما جرى الانطلاق من منظور ادبيات العلاقات الدولية، نجد ان ايران يعمل على تبرير تدخلاته في مختلف الأزمات على انه "مدافع" وليس "مهاجم". واذا ما كانت هذه القراءة صحيحة، فانه يقتصي ان نضع الانطباع السائد الذي يضع ايران في قلب الصراعات جانبا، وان نعيد النظر مجددا في ثقافة الأمن لدى ايران.

 

والآن، ماذا يمكن ان تكون المبررات المعقولة لإيران لأن يضع نفسه في اي طرف في مشاكل المنطقة؟ اذا ما نظرنا في هذا المجال الى المثال اليمني على وجه خاص، نجد في واقع الأمر ان التدخل الايراني لم يكن هو المحرّك الرئيسي للصراعات القائمة في تلك المنطقة، ومن الممكن ان نؤيد فكرة وجود مشاكل في ذلك البلد خلقت تلك الأزمات. ويمكن القول انطلاقا من هذه النقطة ان جعل الموضوع مرتبطا بايران بشكل مباشر، يؤدي الى حالة من التضخيم في التهديدات، مثلما حصل في نموذج تدخل المملكة العربية السعودية في اليمن، وان ذلك قد يفسح المجال لتبريرات تضعها سائر البلدان في معرض سياساتها التوسعية. اما ايران  الذي لا يسكت عن العبث بمصالحه او مصالح حلفائه بهذا الشكل، فانه بسبيله لتحالف دفاعي واسع النطاق كرد على سياسات غيره التوسعية او هجمات هؤلاء ضده. ان ذوي الشأن في ايران يقرأون الصراعات المتعاظمة في المنطقة من هذا المنطلق ويرون ان هذه النظرة تبدو اكثر عقلانية في نموذج اليمن، وان هذه انظرة هي نفسها التي تقف وراء تدخلات ايران في كل من سوريا والعراق. وينطلق ذوو الشان الايرانيون من نفس وجهة النظر من حيث البعد المذهبي في هذه الصراعات ويرفضون نظرية "الهلال الشيعي" ، ويرون بعكس ذلك انهم "يؤيدون الاعتدال والطريق الوسط ازاء العنف الذي الذي تتبناه ايديولوجية المملكة العربية السعودية السلفية القائمة على مبدأ التكفير". 

 

ومن الممكن توجيه نقدين رئيسيين على مفهوم "ايران الذي هو في وضع الدفاع" الذي يبدو متهالكا من اوجه عديدة جدا.

 

الغموض الاستراتيجي

اذا ما نظرنا قبل كل شئ الى التصريحات الواردة من ايران ككل، يقتضي علينا ان نسجل ان ايران اذ يعكس لنا صورة تنمّ عن الانقسامات الداخلية في هذا البلد، يضعنا امام موقف حائر ومتردد في نفس الوقت. ومهما كان المسؤولون الذين يمثلون السلطةالتنفيذية هنالك والذين يعملون غالبا انطلاقا من المنظور المبين اعلاه، يؤكدون ان نوايا ايران ليست عدوانية ويحاولون شرعنة تدخل ايران في الازمات التي تعصف بالمنطقة، فان تصريحات الزعامة الدينية والمؤسسات التي تتبعها واوساط حراس الثورة ترسم لنا صورة اخرى مختلفة تماما. واذا ما وضعنا جانبا التدخل الايراني في المنطقة بدواعي دفاعية ، فان هذه الاوساط تدافع عن التوسع الايراني في المنطقة بشكل علني. ان هذه السياسة التي وضعت سابقا على اساس نشر الثورة الاسلامية، بدأ الترويج لها والدفاع عنها يتجه شيئا فشيئا نحو اهداف حماية الشيعة الذين يتعرضون لضغوط او نحو توسيع رقعة النفوذ الايراني بشكل مباشر. وكموقف استمراري لما تم عرضه نلاحظ استمرار صدور التصريحات والمقولات ضد الغرب واسرائيل وتقديم تعضيد محور الممانعة كسند لهذه السياسة الفاعلة.

 

لا يوجد تعريف للمصالح العقلانية

ان التصريحات والتصرفات التي تؤيد مقولة "ايران المعتدية" تتزايد بمرور الايام. وعلى سبيل المثال ، فان تصريحات النواب والمستشارين الكبار للزعماء الايرانيين التي تتضمن ان بغداد اضحت عاصمة او مركزا للامبراطوربة الفارسية او ان اربعة من العواصم العربية اضحت تحت رقابة محور الممانعة، تجعل المرء يتهم ايران بوجود آمال توسعية لديها. وكذلك فانه في حين ان التصريح الذي ادلى به وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف لصحيفة نيويورك تايمز، يربط جميع الاضطرابات في المنطقة بايديولوجية المملكة العربية السعودية، فان قادة حرس الثورة يشيرون في تصريحاتهم بفخر الى تسليحهم للشباب الشيعة في المنطقة. ان جميع هذه التصريحات والممارسات المؤيدة لها في الساحة الايرانية، تثير القلق لدى سائر القوى الاقليمية التي لها مخاوف جدية من حيث السياسات الايرانية في منطقة خليج  البصرة. ان مصادفة هذه التطورات للفترة التي تلي الاتفاقية النووية، اضحت محلا لتفسيرات عديدة تتضمن ان هذا الأمر ادى الى تقوية نفوذ ايران في المنطقة او ان الولايات المتحدة الامريكية عملت على فتح المجالات امام ايران، وهذا ما يزيد قلق سائر القوى الاقليمية. ومن ناحية اخرى، فحتى اذا ما قبلنا ان ايران تخوض غمار الصراعات في المنطقة لدوافع دفاعية، فانه يكون من الصعب تفسير تدخلات ايران والتأييد العسكري الذي يمنحه لمجاميع متباينة وتبرير ذلك على اساس من المصالح الوطنية والأمن القومي. فاذا ما كان تبرير "ايران الذي في وضع الدفاع" صحيحا، فانه يتعين اعتبار التصريحات الواردة من اوساط التقليديين ومن التصريحات التي قدمنا نماذج منها في اعلاه، تصريحات تهدف الى الاستهلاك الداخلي. وعندما نفكر في ان العمليات التي يتم تنفيذها في خارج البلاد والملفات التي منها ملف سوريا انما يجري تنفيذها بيد اوساط الزعامة الدينية وافراد حرس الثورة، فانه لا يكون من السهل اعتبار هذه الحجج واقعية. ومع ذلك فحتى لو فرضنا جدلا امكان اخذ ادعاءات المسؤولين الايرانيين على محمل الجد، فانه يقتضي افتراض ان ايران يدخل في هذه التحالفات بسبب كونه قد استشعر التهديدات الموجهة اليه في وقت مبكّر.

 

أمن النظام

ولنا ان نتساءل : ما الذي يمكن ان تكون مصالح ايران الحيوية لكي يدخل في صراعات وقتال في اليمن وسوريا ولبنان والعراق في آن واحد وعلى جبهات متباينة جدا، وينحاز الى طرف دون آخر مع استقطاب العناصر الشيعية الاخرى في المنطقة؟ لو وضعنا جانبا في هذا المجال نظرية منطلقات "محور الصمود" لإدامة الجبهة المعادية لإسرائيل، نجد ان المسؤولين الايرانيين يوضحون في هذا الصدد عدم وجود خيار آخر لديهم يمكن به مواجهة موجة التطرف والتكفير او مواجهة المشروع الغربي السياسي المتضمن الهندسة الاجتماعية التي تستهدفها او تستهدف حلفاءها والتي ترنو من ورائها الى تغيير النظام. وفي هذا الاطار فانهم يعتقدون ان بامكانهم الفوز في هذا الصراع عن طريق دعم نظام الآسد في سوريا او عن طريق جر السعوديين الى قتال ليست له نهاية في اليمن. ويشاهد في جميع هذه المنطلقات ان ايران انما يجعل اولوياته في هذا الأمر الحفاظ على امن نظامه وانه يقوم بتوصيف حدود ذلك بشكل موسّع جدا. ولا شك ان قيام ايران بتوصيف أمنه وموقع رقعته التاريخية والاجتماعية والثقافية خارج حدوده الطبيعية، يجعل مصداقيته موضع تساؤل. واذا ما جرى الانطلاق من تعريف بهذا المضمون، اي اعتبار اي تطور غير مرغوب فيه ضمن رقعة واسعة جدا، تهديدا حياتيا وخطيرا، فان ذلك سيكون عاملا في ظهور مخاطر الانزلاق نحو تحالفات غير محدودة. ان توصيف الحفاظ على الامن القومي او المصالح الذاتية بالنسبة لمن يقاتل خارج حدوده وخارج وسطه الطبيعي بشكل كبير او الذي يدفع الآخرين الى القتال بهدف الحفاظ على أمنه القومي بالذات، وتوقع قبول سائر اللاعبين في المنطقة لذلك على انه امر مشروع، لا يعتبر مقاربة واقعية بأي حال.

 

ومن حيث التحليل النهائي للموضوع وعند تقييم الأمر من زاوية التعامل مع سياسة خارجية واقعية، فان ما هو مهم بالنسبة لإيران هو ما الذي يفعله اكثر من تقصّي نواياه في هذا المجال. وعند النظر الى الموضوع من هذه الزاوية، نجد ان الخطوات التي خطاها ايران في نماذج ومجالات عديدة تبدأ باليمن ولا تنتهي بسوريا، تشكل تهديدا لا مفرّ منه للاعبين الاخرين في رقعة جغرافية واسعة سواء أكان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر. ان من الطبيعي ان يكون شعور اللاعبين الاقليميين بهذا التهديد عالي الوتيرة خاصة في غمرة التحوّل وعدم الاستقرار اللذين ينتابان مناطق افريقيا الشمالية والشرق الاوسط حاليا. ان الغموض وعدم الوضوح الاستراتيجي المتزايدين في المنطقة، يجرّان جميع اللاعبين الى حالة من القلق المتزايد، و وفي خضمّ المنافسة الامنية التي تنطوي على مخاطر عالية، يلاحظ ارتقاء حالة عدم الاستقرار الأمني المتبادل الى الذروة. وفي هذا المضمار، وبوضع موضوع كون المخرج الرئيسي دفاعيا او هجوميا جانبا، فان ايران الذي يتغاضى عن القلق الأمني لمن يتعامل معهم والذي ينطلق من ثقافة استراتيجية فظة مركزها "الأنا"، يولّد قلقا لا مفرّ منه لدى سائر اللاعبين الاقليميين. ولا تتحقق عودة الحالة الطبيعية الى ايران بعد الاتفاقية النووية، باعادة علاقاته مجددا مع المجتمع الدولي فحسب، بل يتطلب الى جانب ذلك ان يطرح ايران سياساته الاقليمية على الطاولة بشكل جذري وتطوير حوار ايجابي وبنّاء مع المنطقة. وبهذا الاعتبار فان على ايران ان يباشر بازالة الغموض الاستراتيجي في سياساته وباعادة تقييم مصالحه في المنطقة ضمن حدود اكثر عقلانية.

 

التناقضات الداخلية

هنالك عراقيل جدية امام اتخاذ ايران خطوات ايجابية من شأنها خدمة العودة الى الوضع الطبيعي في المنطقة. ولازلنا نشاهد في هذا المجال التناقضات الداخلية المستمرة لهذا البلد منذ قيام الثورة فيه وانعكاس تلك التناقضات على سياستها الخارجية. ويضعنا هذا الوضع امام قراءة قاتمة سوداء بشأن حدود التطبيع. وحسبما هو متداول بكثرة في الادبيات السياسية، فانه ما لم يمكن التوصل الى اجابة قاطعة حول هل ان ايران دولة وطنية ام انه مستمر على القيام بصفته عقيدة ثورية، يكون من الصعب جدا قيامه بتعريف المصلحة الوطنية تعريفا ينال القبول لدى المتعاملين معه. وبالنتيجة فان التدخل الايراني الذي يظهر للعيان ضمن نماذج متباينة، يعتبر "تدخلا توسّعيا" مهما كان الهدف من حدوثه، ويعتبر في نفس الوقت انه سبب حالة التوتر في المنطقة. ان هذا البعد الثوري الذي ظهر امامنا قبل ذلك على شكل تصدير للثورة، حلّ محله في الفترة الأخيرة ما نراه شبيها بتقمصه الهوية المذهبية، وان تداخل هذا الامر مع تعاريف المصالح الوطنية، يعمل على انجرار ايران نحو مركز آليات الصراع في الشرق الاوسط. وبالاضافة الى ذلك فاننا عندما نلاحظ عدم وضع حد للمنافسة المستمرة بين مختلف الأوساط في معرض السياسة الداخلية لإيران، نجد ان من الصعوبة بمكان المرور من وتيرة مساءلة بنّاءة من هذا النوع في سياسة ايران الخارجية في المدى القصير.