تسع سنوات على الثورة السورية: كشف حساب للمواقف والنتائج

ثورة، فتنة، مؤامرة، هذه هي بعض الأسماء التي أصبحت تتردد في سوريا لتوصيف الأحداث التي عاشتها سوريا بعد عام 2011، فالمعارضين اعتبروها ثورة لإسقاط نظام قمعي مستبد، بينما النظام اعتبرها مؤامرة ضده نتيجة موقفه من قضايا المنطقة، وأن مايجري هو "خدمة لإسرائيل وأعداء الأمة"، وفي الوقت نفسه هنالك فئة ليست بالقليلة من الشعب السوري-خاصة سكان المدن الكبرى- اعتبروها فتنة، وانتشرت بشكل كبير المقولة التي كانوا يرددونها "الله يطفيها بنوره"، فضلاً عن توصيفات عديدة أخرى نعتت بها الإنتفاضة السورية.

بدأت الأحداث بسوريا باحتجاجات شعبية انطلقت من درعا يوم 18 آذار 2011، وكان من يقود الحراك هم فئة الشباب الذين استطاعوا تشكيل تنسيقيات فيما بينهم، لكن بعد ذلك تطورت الأمور، وانتقلت الاحتجاجات إلى العديد من المدن السورية، وبدأت عمليات القمع لتلك الاحتجاجات من طرف النظام، ثم تطور الأمر وعاد للمشهد السياسي بعض المعارضين القدماء، الذين كان لهم موقف معلن في معارضة النظام منذ الثمانينات، وتمكن هؤلاء بحكم كونهم مصنفين ومعروفين منذ سنوات سياسياً وإعلامياً في معارضة النظام من تصدر الحراك السياسي السوري المعارض للنظام، وتزعم مؤسسات المعارضة التي تم تشكيلها- بخاصة الائتلاف السوري المعارض- وتم إبعاد الشباب عن قيادة الحراك ومؤسسات المعارضة.

الثورة في سوريا اتبعت سياسة تقليد ثورات الربيع العربي الأخرى، فتم تغيير العلم، وأُعيد استخدام العلم السوري القديم، وتم اعتباره علم للثورة، ثم اتجهت الثورة للتسليح بعد تصاعد بطش النظام ضد الإحتجاجات، وتلك الخطوة أضرت بمألات الثورة كثيراً، لأن المواجهات العسكرية هي الساحة التي يستطيع النظام التعامل معها، وساهم التسليح في تشويه صورة الاحتجاجات الشعبية، وسهل للنظام تصويرها على أنها أعمال تخريب تقوم بها عصابات مسلحة.

ومع ذلك تمكنت المعارضة من السيطرة على أجزاء كبيرة من البلد، حتى أجزاء من حلب ودمشق، حيث سيطرت على نسبة 70% من سوريا عام 2013م، لكن على الرغم من سيطرة المعارضة على كل تلك الأجزاء، إلا أنها لم تستطع التوحد فيما بينها، أو على الأقل التنسيق فيما بينها، بل زادت الانقسامات بين قوى وفصائل الثورة السورية، وزاد الأمر سوءاً ظهور أصحاب الفكر المتطرف، والذين ساهموا بحرف الثورة عن مسارها – وأغلبهم كان مسجون عند النظام وقام بإطلاق سراحهم-، بالإضافة إلى ظهور عصابات PYD وغيرها من الفصائل ذات النزعة الانفصالية.

بعد ذلك تمكن النظام من استعادة أجزاء كبيرة من سوريا، وذلك بفضل سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها، وتماسك المؤسسة العسكرية والأمنية التي تتبع له والتي - وعلى الرغم من حصول بعض الانشقاقات بها- لم تكن ذات تأثير كبير على تلك المؤسسات، وكذلك الدعم الذي تلقاه النظام من حلفائه، والذي كان سياسي ومادي في البداية، ثم تحول إلى عسكري، وتدخل عسكري مباشر من حزب الله اللبناني، ثم إيران والميلشيات الشيعية التابعة لها من العراق وباكستان وأفغانستان، ثم جاء التدخل الروسي في أيلول 2015 ليمنح النظام قوة عسكرية ودعماً كبيراً. وكذلك ساهم انقسام المعارضة وظهور داعش والنصرة، في تعزيز انتصارات النظام، وخاصة أن هذا الانقسام ترافق مع تراجع الدعم الدولي للمعارضة، وعدم رغبة الولايات المتحدة اتخاذ أي موقف جدي في سوريا، باستثناء الدعم الذي قدمته لقوات سوريا الديمقراطية، والتواجد العسكري في منطقة شرق الفرات تحت ذريعة محاربة داعش، كذلك ساهمت التغييرات في منطقة الشرق الأوسط عموماً بشكل سلبي على أوضاع المعارضة السورية.

كذلك تمكن النظام من تحقيق انتصاراته العسكرية بسبب تراجع أداء المعارضة السورية، والانقسام العسكري ودخول قوى وتيارات فكرية وايديولوجية لها مشاريعها ورؤيتها الخاصة بسوريا، وعدم وجود قوى معارضة سياسية حقيقية لديها ثقل بالشارع السوري، وذلك لانعدام الحياة السياسية الحقيقية بسوريا قبل 2011، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين لم يتمكن أي حزب أو جماعة سوريا معارضة من تشكيل كيانات سياسية مؤثرة، وحتى المعارضة الداخلية لم يكن لها تأثير كبير في الشارع السوري.

انقسمت المعارضة السورية إلى معارضة داخلية وخارجية، معارضة الداخل مازالت ترى الإصلاح هو الحل والطريق للتغيير، وهذا مارفضه قسم من المعارضة وخاصة المعارضة المسلحة والمعارضة الخارجية، حيث مازالت المعارضة ترفع سقف مطالبها على الرغم من افتقارها للأدوات التي تمكنها من ذلك، ومازالت مشرذمة وذات توجهات فكرية مختلفة، وهناك هيمنة لطرف على قرار المعارضة السورية، وهذا مارفضته أطراف أخرى مما أدى إلى تعدد منصات المعارضة لتعدد الجهات الداعمة أيضاً، كذلك المعارضة لاتتعامل بشكل واقعي وحيوي مع التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.

استغلت التيارات الدينية المتطرفة حالة الفراغ السياسي، وعدم تمكن المعارضة من تأطير الحراك الشبابي وتنظيمه، واستطاعت جذب كثير من الشباب لفكرها المتطرف، وتمكنت بعض الشيء من حرف الثورة عن مسارها. وإذا نظرنا إلى وضع المعارضة السورية في ذكرى الثورة التاسعة فنجدها مقسمة، وخسرت كثير من التأييد الداخلي والخارجي لعدة أسباب:

* المحاور التي تشكلت في المنطقة بعد الربيع العربي، حيث أصبح لدينا أطراف مؤيدة لهذه الاحتجاجات، وأطراف معارضة لها، وتسعى لإفشالها.
* ظهور داعش والنصرة، وسيطرتها على مناطق واسعة من التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وتشويه صورة الثورة السورية أمام العالم الخارجي من خلال ما ارتكبته من مجازر حتى بحق الثوار والمعارضين أنفسهم.
* فشل المعارضة في مخاطبة كل فئات الشعب السوري، والانقسام الفكري والسياسي للمعارضة، ثم انقسامها لمعارضة داخلية وخارجية، وارتباط بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة على بعض الجهات الخارجية.
* الانقسامات في صفوف المعارضة، وسيطرة مجموعات معينة بذاتها على مفاصل مؤسسات المعارضة، مما أعطى صورة لبعض الدول أن المعارضة فقدت تنوعها الفكري والمجتمعي وأصبحت تمثل تيار فكري واحد، مما جعلها تغير موقفها الداعم للمعارضة.

أما بالنسبة للنظام السوري فعلى الرغم من استعادته السيطرة على جزء كبير من المناطق التي سيطرت عليها المعارضة سابقاً، إلا أنه أصبح تحت الهيمنة الروسية والإيرانية، ولم يعد لديه سلطة اتخاذ أي قرار دون أخذ موافقة الجانب الروسي والإيراني، وهو يحاول الهروب للأمام من خلال الدعوة لانتخابات تشريعية، وكذلك يسعى لاستعادة وتطبيع علاقاته مع الدول والمؤسسات الدولية، لتعيد الاعتراف بشرعيته، كذلك قام برهن أغلب ثروات ومقدرات سوريا لتلك الدول.

* الموقف الدولي:
مازال الموقف الدولي ضعيف وغير فاعل، ولاتمارس الدول الكبرى لأي ضغوط جدية لحل المعضلة السورية، ودائما يتذرعون بأن روسيا والصين تستخدمان حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار، حتى أنهم وقفوا عاجزين عن إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، أو استمرار ادخال المساعدات الإنسانية لمناطق المعارضة، بينما مؤسسات الأمم المتحدة ترفض التعامل مع أي جهة غير النظام السوري، وترسل المساعدات لدمشق ليقوم النظام بتوزيعها، مما يعني حرمان المناطق التي يسيطر عليها المعارضة من أي مساعدات. وهناك رغبة لدى الكثير من الدول بإعادة علاقاتها مع النظام السوري، وإعادة النظام السوري لجامعة الدول العربية، وهذا يعني الاعتراف بشرعيته مجدداً.

وبعد مرور 9 سنوات على بدء الاحتجاجات في سوريا يمكن توصيف الوضع الحالي في سوريا على الشكل التالي:
* لم يبق لدى السوريين سواء النظام أو المعارضة أي قدرة على اتخاذ أي قرار دون استشارة حلفاء كل طرف، وأصبحت كل الأطراف مرتهنة بالعامل الخارجي.
* أزمة اقتصادية خانقة وخاصة في مناطق سيطرة النظام، ويعاني منها بشكل خاص ماتبقى من الطبقة المتوسطة والفقيرة، كذلك تعاني مناطق المعارضة من أزمة مشابهة، حتى وصلت نسبة من هم تحت خط الفقر في سوريا 90%، وساهم في زيادة تلك الأزمة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على النفط السوري واستثمارها لصالحها، وكذلك العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام، منع المساعدات الاقتصادية وأحياناً الإنسانية لمناطق المعارضة.
* وجود كيان كردي في شمال شرق سوريا ذو أهداف انفصالية قومية، ومدعوم دولياً وخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ويسيطر على أغنى المناطق بسوريا في شرق الفرات، وخاصة البترول والثروات الزراعية.
* أصبح هنالك شرخ اجتماعي كبير بين السوريين، حيث انقسم المجتمع إلى مؤيدين ومعارضين، وصار هناك حالة عداء شديد، وصلت لدرجة الانتقام حتى من الأموات والقبور.
* المكونات السورية (كالدروز والمسيحيين والإسماعيلية...) مازالت تدفع ثمن سكوتها أو وقوفها إلى جانب النظام، حيث خسرت قسم كبير من شبابها أثناء القتال، أو اضطروا للهجرة للخارج.
* تغييرات ديموغرافية من خلال التهجير والهجرة التي شهدته لسوريا، حيث أضطر كثير من السكان الذين يعارضون النظام للنزوح إلى مناطق أخرى بسوريا، أو الهجرة إلى خارج سوريا، وهجرة كثير من الأقليات هرباً من الحرب، بالإضافة إلى سياسية التغيير الديموغرافي التي اتبعتها قوات سوريا الديمقراطية، حتى وصلت أعداد النازحين داخلياً وخارجياً لحوالي 12 مليون.
* انسداد أفق الحل السياسي حتى الآن، وفشل اجتماعات اللجنة الدستورية، وفشل كل مفاوضات جنيف السابقة، حتى مسار أستانة وسوتشي فشل في تطبيق اتفاقاته، باستثناء بعض الاتفاقات العسكرية المتعلقة بمناطق خفض التصعيد، وهذه مازالت تعاني من أخذ ورد بين تركيا وروسيا وخاصة حول منطقة ادلب.
* على الرغم من القضاء على قوة داعش العسكرية وتحرير كثير من المناطق من سيطرته، مازال له وجود في البادية السورية، بين تدمر ودير الزور، وينشط بين الفينة والأخرى ويهاجم بعض قوافل النظام السوري، أو يقوم باغتيالات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
* ازدياد الشرخ الطائفي بين الطوائف السورية نتيجة التحشيد الإعلامي والشحن الطائفي والتدخلات الطائفية الخارجية، ونتيجة أيضاً للتغييرات الديموغرافية التي حصلت بسوريا، حيث تم ترحيل كل المعارضين إلى ادلب من درعا والفوطة وحمص، وكذلك تم تهجير الشيعة المؤيدين للنظام من قرى كفريا والفوعة في ادلب.
* رهن ثروات سوريا ومواردها والسيطرة عليها من حلفاء النظام السوري، وخاصة روسيا وإيران الذين وقعوا اتفاقات مع النظام السوري طويلة المدى، لاستثمار تلك الثروات أو المرافق، وخاصة الفوسفات وميناءي طرطوس واللاذقية.
 * الفوضى الأمنية الكبيرة سواء في مناطق النظام أو المعارضة أو قوات سوريا الديمقراطية، وعمليات الاغتيال والتصفية والسرقة التي تزداد باستمرار، نتيجة تعدد الفصائل والجهات المسيطرة في تلك المناطق.

ومع دخول العام العاشر يجب على المعارضة والنظام الابتعاد عن التفكير بالمصالح الشخصية والسياسية لطرفهم، والتفكير بسوريا المستقبل كبلد للجميع، وخاصة في ظل ما يعانيه السوريون من أزمات اقتصادية والخوف من انتشار فيروس كورونا أيضاً في سوريا، والتفكير بحلول سريعة توقف نزيف الدم السوري.