طرابلس ليست مشروعاً تركياً!

دأبت في الآونة الأخيرة بعض وسائل الإعلام التابعة لـ "حزب الله" وفريقه، ووسائل إعلام مدعومة من بعض دول الخليج العربي التي لها خصومة مع تركيا، وبخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بتصوير طرابلس (مدينة في شمال لبنان ذات أغلبية سنية) على أنها مرتعاً لما يسمى بالمشروع التركي في لبنان.

أوصاف عديدة أطلقت على المبادرات التركية في لبنان، بالرغم من أن معظم تلك المبادرات تندرج في إطار المساعدات الإنسانية، ولا سيما في شهر رمضان، وعقب تفجير مرفأ بيروت في آب 2020، وفي ظل جائحة كورونا، ومنها مبادرات تواصل مجتمعي يتماهى مع البعد الثقافي والتراثي للعلاقات التركية-العربية. خصوم تركيا رأوا في تلك المبادرات مشروعاً تركياً سياسياً اقتصادياً في لبنان.

صحيحٌ أن العلاقة الدبلوماسية اللبنانية- التركية شهدت بعض التوترات عقب استدعاء وزارة الخارجية اللبنانية يوم الثلاثاء 3 أيلول/ سبتمبر 2019 للسفير التركي لدى بيروت هاكان تشاكل، على خلفية البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التركية يوم الأحد 1 أيلول/ سبتمبر حول تصريحات الرئيس ميشال عون حول "إرهاب" الدولة العثمانية ضد اللبنانيين خلال الحرب العالمية الأولى، إلاّ أن هذه الاتهامات والتأويلات ارتكزت على تصريح لوزير الداخلية محمد فهمي في 4 تموز/ يوليو 2020 الذي أكّد وجود تدخّل خارجي هدفه "اللعب بالأمن"، حيث أعلن أنّ طائرة خاصة وصلت من تركيا وعلى متنها 4 أتراك وسوريين بحوزتهم 4 ملايين دولار أميركي، تم ايقافهم بعدما دخلوا لبنان على أساس أنّ لديهم شركة صيرفة. وقال وزير الداخلية: "لا ندري هل هذه الأموال هي للتهريب أو للتلاعب بالدولار؟ أم لتغذية تحرّكات عنفية في الشارع؟ هذا إضافة إلى التعليمات التي تصل من تركيا عبر "الواتساب" لبعض أطراف الحراك الشعبي".

وفي السياق ذاته نشر موقع الكتروني مرتبط بوزير الداخلية السابق نهاد المشنوق لائحة كاملة بما زُعم أنه منظمات غير حكومية ومساجد موالية لتركيا، كما ادّعى الموقع أن أنقرة تُخطط لـ "احتلال" طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان ومعقل المسلمين السنّة في البلاد.

لوهلة أولى، حين تلقي نظرة على هذه التصاريح والتقارير تشعر وكأن الجنود الأتراك احتلوا طرابلس، أو تمركزوا في نقاط عديدة في شمال لبنان، والسؤال المطروح هنا: لو أن هذه التقارير التي تتهم تركيا بهذه الأمور صحيحة ودقيقة، لماذا لم تتحرك الدولة اللبنانية والأجهزة الأمنية المختصة للتحقيق بذلك؟ ولماذا لم تستدع وزارة الخارجية السفير التركي في لبنان ناقلةً احتجاجات الحكومة اللبنانية؟ ولماذا لم تستدع أنقرة سفيرها في لبنان؟ ولماذا يقبل الجيش اللبناني هِبَات من تركيا؟ ولماذا لا تُقطع العلاقة مع أنقرة؟

وليس خفياً مشاركة تركيا في قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان وفي البحر المتوسط، كما أن تركيا عملت وتعمل على احتضان الجماعات ذات الأصل التركي في بعض قرى الشمال اللبناني، كذلك القيام بمشاريع ترميم أثار عثمانية، وليس خفياً أنه ربما كان الانكفاء العربي عن الساحة اللبنانية عامة والسنية خصوصاً جعل من السنة اللبنانيين يتطلعون إلى دور تركي من أجل التوازن مع الدور الإيراني في لبنان.

ذكر د. محمد زكور رئيس مركز "ليبرتي للدراسات القانونية والاستراتيجية" في تعليق وجهه لـمركز دراسات "أورسام"  “ORSAM” التركي :"إنه بالرغم من التقارب الجغرافي بين طرابلس وتركيا، والتقارب المذهبي، إلا أنه لايوجد معلومات عن تمدد تركي في طرابلس إلاّ عبر بعض النشاطات الثقافية كترميم  منزل المولوية على ضفاف نهر أبو علي وبعض الآثار العثمانية".

وأضاف زكور :"تركيا تشجع العائلات من أصول تركية أو من الأثنية التركمانية لتقديم أوراقها للحصول على الجنسية التركية، كما أن هناك جمعيات لبنانية تركية تعمل في مجال الثقافة والخدمات ولا سيما تعليم اللغة، وكذلك اهتمت بشكل خاص في المناطق التي تقع شمال لبنان وتحديداً طرابلس وعكار وبلدة الكواشرة والقرى ذات الأصول التركمانية".

زكور أشار أيضاً إلى أنه :"في حال حصول تمدد تركي فإن لهذا التمدد بعد اقتصادي، وهو أن تركيا حالياً في صراع على الطاقة في شرق البحر المتوسط، وهناك محاور اقليمية تتشكل"، وأعتقد زكور أن أحد أهدافها الأساسية "هو الوصول إلى مثل هذه التحالفات مع لبنان كي يدخل معها في الصراعات القائمة على الطاقة"، ولا سيما أن تركيا لديها ميناء جيهان في شمال شرق المتوسط، وهو قريب من ميناء طرطوس السوري، وميناء طرابلس اللبناني، وبالتالي الدخول إلى طرطوس وطرابلس يشكل توازناً استراتيجياً مقابل محطتي حميميم وطرطوس اللتين تقعان تحت الوصاية الروسية، كما يشكل توازناً في وجه اليونان وقبرص الواقعتان مقابل طرابلس.

عقب انفجار مرفأ بيروت سارعت تركيا كباقي الدول إلى مساعدة الشعب اللبناني، غير آبهة بمذهب أو دين المتضررين، ففي اليوم التالي للانفجار حضرت إلى لبنان مؤسسة الهلال الأحمر التركي للمساعدة في أعمال الإغاثة والبحث، إضافة إلى مؤسسات إغاثية وإنسانية أخرى سارعت الى مدّ يد المساعدة، علماً أن الإنفجار وقع في مناطق ذات أغلبية مسيحية وأرمنية.

والسؤال هنا: ما الهدف من تضخيم الدور التركي ومحاولات ربطه بأجندات خارجية وأعمال أمنية؟ من المستفيد من زعزعة علاقة تاريخية بين لبنان وتركيا؟ وأين الخطأ إن حاولت تركيا مدّ جسور بينها وبين شعب صديق؟ الجواب واضح: كل من يعارض سياسة تركيا يحاول اتهامها بزعزعة الاستقرار وإن كان عبر طرابلس التي يحاولون إظهارها كقندهار.