دبلوماسية فيدان المكثفة والحساسة في العراق

عقد وزير الخارجية هاكان فيدان عددا من الاجتماعات خلال زيارته للعراق في الفترة 22–24 أغسطس/ آب، ولو أخذنا بعين الاعتبار محتوى هذه الزيارة وعدد اللقاءات التي أجراها ونوعيتها، فيمكننا القول إنها كانت "حملة" دبلوماسية شاملة. فبمجرد وصوله إلى العاصمة العراقية بغداد مساء 22 أغسطس/ آب، التقى فيدان نظيره العراقي فؤاد حسين في المطار. وكان المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد بعد الاجتماع بمثابة إعلان عن نطاق زيارة فيدان. وأكد الطرفان في المؤتمر الصحفي أن المسألة الأساسية والأهم على جدول الأعمال هي مكافحة تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي، فيما كانت القضايا الرئيسية الأخرى لزيارة فيدان هي العمل على زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي وصل إلى 25 مليار دولار، وحل المشاكل التي يواجهها العراق فيما يتعلق ببيع نفطه عبر الموانئ التركية، وتحديد آلية مشتركة وخريطة طريق لتقاسم المياه بين تركيا والعراق، والعمل بجدية أكبر لتعزيز الشراكة العراقية-التركية في مشروع طريق التنمية. وعلاوة على ذلك، تناول اللقاء مسألة الإسلاموفوبيا التي تعتبر قضية مشتركة للعالم الإسلامي بأسره، وبذلك بعث الوزير فيدان رسالة مفادها أن التعاون المنشود مع العراق سيمتد إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية.

أوضح فيدان خلال المؤتمر الصحفي أنهم يتابعون عن كثب وباهتمام كبير مسألة وحدة أراضي العراق وسيادته ووحدته السياسية، وأن العراق يعتبر شريكا موثوقا فيما يتعلق بتحقيق الأهداف الاستراتيجية للتعاون الإقليمي، وأكد أنه على ثقة بأن ازدهار العراق وأمنه واستقراره سيساهم في ازدهار تركيا وأمنها واستقرارها. كما أشار بكل وضوح إلى أن تركيا تدعم حكومة السوداني.

وبذلك، كشف فيدان مرة أخرى عن إطار السياسة التركية تجاه العراق، وأعلن موقف تركيا بكل وضوح خلال اللقاءات التي عقدت والتي ستعقد، وأظهر أن تركيا ستلعب أوراقها بشكل مكشوف. يمكننا القول في هذه المرحلة، إن فيدان نجح في خلق مناخ "إيجابي" قبل البدء في اجتماعاته في العراق.

مغزى الزيارة
من جانب آخر، كان من اللافت للانتباه أن فيدان الذي قال في المؤتمر الصحفي المشترك إنه كان يزور العراق بشكل منتظم ومستمر خلال منصبه السابق، أعطى رسالة مفادها أنه سيعمل في إطار "روح جديدة". وفي هذا السياق، نقل فيدان رسالة إلى الأطراف العراقية أنه يعرف حيثيات كل الملفات المهمة ويعرف الفاعلين المؤثرين فيها، ولكنه سيتعامل مع القضايا بصفته وزيرا للخارجية وليس رئيسا لجهاز المخابرات، وأن زيارته يجب أن يتم التعامل معها على هذا النحو. جدير بالذكر أن فيدان لا يمثل للعراقيين مسؤولا عاديا أو وزيرا عاديا. خلال مقابلة أجريتها مع إحدى القنوات التلفزيونية العراقية حول هذه الزيارة وصف أحد الصحفيين العراقيين حاقان فيدان بأنه "الصندوق الأسود للرئيس أردوغان"، وهذا هو أوضح مؤشر على نظرة العراقيين إلى فيدان. وفي هذا السياق، يمكننا القول إن العراقيين لديهم تطلعات كبيرة بشأن زيارة فيدان.

يبدو أن أداء فيدان خلال الزيارة لم يخيّب توقعات العراقيين. حيث أجرى خلال يومين أكثر من 20 لقاء في زيارته إلى بغداد أولاً ثم إلى أربيل. ولعل هذه الزيارة شهدت حراكا دبلوماسيا واسعا لم يقم به أي مسؤول تركي من قبل.

لم يترك فيدان مسؤولا رفيع المستوى في بغداد إلا وقابله، بما في ذلك رئيس المحكمة الاتحادية العليا العراقية. والتقى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزير الدفاع. وإضافة إلى ذلك، عقد اجتماعات مع القيادات التي تمثل العرب الشيعة والسنة في الحكومة.

كما التقى فيدان كل من هادي العامري زعيم ائتلاف الفتح المعروف بقربه من إيران، وفالح فياض رئيس هيئة الحشد الشعبي. حتى أنه التقى زعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي المعروف بخطاباته المناهضة لتركيا. كما التقى التركمان في بغداد. وفي الوقت الذي أظهر فيه فيدان مرة أخرى حساسية تركيا تجاه أوضاع التركمان في العراق من خلال تخصيصه وقتا كبيرا لهم في مثل هذه الأجندة المزدحمة، كان هذا اللقاء بمثابة رسالة موجهة إلى الجانب العراقي في هذا الصدد.

بالإضافة إلى ذلك، كان من الأهمية البالغة توجيه رسائل الوحدة والتضامن بين التركمان، من خلال إجراء لقاء موسع يجمع كافة المنظمات والمؤسسات السياسية التركمانية وقادة الرأي التركمان، قبل انتخابات مجالس المحافظات، التي لم تعقد في العراق منذ عام 2013 وفي كركوك منذ عام 2005 والتي من المقرر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول 2023. كما كان من المهم أيضا إظهار القوة الموحِّدة لتركيا، من حيث النجاح في أن يجلس الرئيس الحالي للجبهة التركمانية العراقية حسن توران جنبا إلى جنب مع الرئيس السابق وعضو مجلس النواب عن كركوك إرشاد الصالحي، حيث شهدت الفترة الأخيرة توترا بين الطرفين.

العلاقات تسير بقوة أكثر
بعد انتهائه من زيارة للعاصمة بغداد، توجه فيدان إلى أربيل، حيث التقى زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، ورئيس حكومة إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، ورئيس وزراء حكومة الإقليم مسرور بارزاني، ونائب رئيس وزراء حكومة الإقليم قباد طالباني. كما كان من اللافت للانتباه إيضا، قيامه بزيارة إلى الأحزاب السياسية الكردية غير الحاكمة في شمال العراق، مثل الاتحاد الإسلامي الكردستاني والحركة الإسلامية في كردستان العراق. لقاء فيدان مع زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني قباد طالباني في فترة تشهد توتر العلاقات مع الاتحاد الوطني الكردستاني، لاسيما بسبب الأوضاع في السليمانية التي تنتشر فيها منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية بكثافة، أظهر أن الأبواب بين الجانبين لم تغلق بعد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأهمية التي أبداها فيدان للتركمان في شمال العراق والزيارة التي أجراها إلى رئاسة فرع الجبهة التركمانية العراقية في محافظة أربيل، كانت بمثابة رسالة بشأن التركمان موجهة إلى حكومة أربيل.

ومن النقاط التي تظهر أهمية هذه الزيارة، هي وجود وزير البترول العراقي حيان عبد الغني في تركيا في الوقت الذي كان فيه فيدان في بغداد، إضافة إلى مشاركة وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار في الاجتماعات التي أجراها فيدان في أربيل وهو ما يمكن وصفه بالخطوة المفاجأة.

وفي هذا السياق، يبدو أن هناك جهودا كبيرة تبذل من أجل إعادة تفعيل خط أنابيب النفط بين كركوك وجيهان المغلق منذ 25 مارس/ آذار. وعلى الرغم من عدم اتخاذ خطوات "ملموسة" خلال الزيارة في الوقت الحالي، إلا انه من المتوقع إن العلاقات مع العراق ستتطور إلى بعد مختلف بعد زيارة فيدان. حيث يخطط الرئيس رجب طيب أردوغان أيضا لإجراء زيارة إلى العراق في الفترة المقبلة. وفي هذا الصدد، يمكننا القول إن فيدان قام بزيارة تحضيرية مثمرة قبل زيارة الرئيس أردوغان.

بعبارة أخرى، فيدان قام بحرث الحقل في العراق وجعله جاهزا للزراعة. وتظهر المرحلة أيضا أنه سيتم الحصول على حصاد جيد من العراق.

نشر هذا المقال تحت عنوان "دبلوماسية فيدان المكثفة والحساسة في العراق"، على موقع صحيفة ملييت في 27 أغسطس/ آب 2023.