انتخابات مجالس المحافظات العراقية 2023: أزمة المشاركة وتجدد التمثيل

أجريت في 18 ديسمبر 2023 انتخابات مجالس المحافظات في 15 محافظة عراقية من أصل 18 محافظة لعدم شمول محافظات إقليم كردستان الثلاث أربيل والسليمانية ودهوك بالانتخابات المخصصة للمحافظات غير المنتظمة بإقليم. وتعتبر هذه الانتخابات المحلية هي الأولى منذ عشر سنوات بعد انتخابات عام 2013، بعد قرار حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي في عام 2017 بحل مجالس المحافظات.

لم تختلف ظروف انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة كثيراً عن سابقاتها، من حيث المشاركة الشعبية في التصويت والتقاطعات السياسية والإشكاليات الفنية، فالبيئة المضطربة باتت صفة تلازم العملية الانتخابية في العراق سواء أكانت محلية أو نيابية، كون أن المبدأ الرئيس للفواعل السياسيين المتنفذين هو إجراء الانتخابات والسيطرة على مفصل آخر من مفاصل السلطة، وعدّهُ إنجازا حكوميا وسياسيا، أكثر من كونها عملية دستورية تتطلب الحد الأدنى من المقبولة الشعبية العامة للقانون الانتخابي وللإدارة الفنية للانتخابات، لضمان جودتها ونزاهتها، لتكون الانتخابات ونتائجها جزءً من آليات تجديد الحياة السياسية وتصحيح مساراتها وفاعليتها في تسيير الشأن العام عبر ممثلين جدد يختارهم الشعب عبر صناديق الاقتراع.

المشاركة الجماهيرية في الانتخابات تمثل أكثر المؤشرات تعقيدا من جهة تقييم النظام السياسي وأهليته في إدارة الدولة والشأن العام، مع اعتبارها معياراً عُرفيا في العراق لم يرِد فيه نص دستوري أو تشريع قانوني لمنح النظام "الشرعية المطلوبة" للاستمرار في السلطة، في وقت لوحظ أن المشاركة الجماهيرية في الانتخابات في تدنٍ مستمر بمرور الوقت، دون أن تعترف مؤسسة حكومية بهذه الإشكالية وما يترتب عليها من ضرر تآكل "شرعية التمثيل الجماهيري" في هياكل الدولة، دون أن يُفقدها "شرعية التمثيل السياسي".

مفوضية الانتخابات في العراق وإشكالية المشاركة
أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إن نسبة المشاركة في التصويت في الانتخابات المحلية الأخيرة بلغت 40.84% وتم تقريبها في الإعلان الرسمي إلى 41% في التصويت العام في يوم 18 ديسمبر، وفي الاقتراع الخاص الذي أجري قبلها بيومين لأفراد الجيش والأمن والنازحين الذين يعيشون في المخيمات. وأوضحت المفوضية أن عدد المصوتين الكلي بلغ 6 ملايين و599 ألفاً و668 ناخباً، من مجموع أكثر من 16.1 مليون ناخب قاموا بتحديث بياناتهم الانتخابية وأصدرت لهم بطاقة التصويت البايومترية. بينما أشار الكثير من المراقبين للشأن الانتخابي في العراق بأن المؤهلين للإدلاء بأصواتهم في العراق هم أكثر من 23 مليون ناخب، وحتى أولئك الذين حدثوا بياناتهم الانتخابية (16.1 مليون ناخب) امتنع بحدود 2 مليون منهم عن استلام بطاقات التصويت البايومترية التي أصدرتها المفوضية لهم.

طُرحت على طاولة النقاش العديد من التساؤلات حول نسبة المشاركة في التصويت التي أعلنتها المفوضية (41%)، فالنسبة المعتمدة من المفوضية كانت بناءً على صدور بطاقات بايومترية لــ 16.158.788 ناخب، بينما أُهملت أصوات قرابة أكثر من 7 مليون ناخب امتنعوا عن تحديث بياناتهم الانتخابية ولم يستلموا بطاقة التصويت البايومترية، وهي المستند الذي يحق لحاملها فقط التصويت بموجب قانون الانتخابات. وهذه فقرة مخالفة للمعايير الدولية، وللمادة 20 من الدستور التي تنص على "للمواطن رجالا ونساءً، حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتّع بالحقوق السياسية، بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح". كما أثارت طريقة احتساب نسبة المشاركة التي أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات جدلاً في الأوساط الجماهيرية والمراكز المعنية بمراقبة المفوضية وأدائها. ويمكن مطالعة بيان "مركز الخبرة الانتخابية للدراسات والتدريب" كأنموذج لملاحظات مراكز الدراسات والمراقبين التي يمكن تصنيفها كملاحظات جوهرية.

وذكر المركز في بيانه الوارد على حسابه على منصة X إنه استخرج نسباً أخرى وكما يلي: "أولاً نسبة المشاركة التي تستند إلى البطاقات الموزعة حصراً (14.619.952) بطاقة، وتبلغ (45.14%). ثانياً: نسبة المشاركة التي تستند إلى العدد الكلي للناخبين المؤهلين للتصويت (23.367.081) ناخباً وتبلغ (28.24%). وبناءً على ذلك نكون أمام ثلاث نسب متضاربة (40.48%) (45.14%) (28.24%)". قد تبدو النسبة الأخيرة أكثر دقة وموضوعية لكونها تحسب نسبة المشاركة اعتمادا على من يحق لهم التصويت وهم أكثر من 23 مليون ناخب، وليس لمن أصدرت لهم بطاقات تصويت بايومترية وعددهم قرابة 16 مليون ناخب. إن اشتراط البطاقة البايومترية هي مادة قانونية لتنظيم عملية الاقتراع، لكنها لا تلغي أصل الحق في التصويت الوارد في الدستور، لذا كان يجب على المفوضية والحكومة والبرلمان بذل الجهد لمعالجة هذا الخلل الجسيم بمبدأ ديمقراطي مهم (حق المشاركة)، ومعرفة الأسباب التي حالت دون 7 مليون من تحديث بياناتهم الانتخابية، و2 مليون قاموا بتحديث بياناتهم ولكنهم لم يستلموا بطاقة التصويت البايومترية.

ووفق المعيار الصحيح الموضوعي لاحتساب نسبة المشاركة، والتي تعتمد على أعداد المشاركين في الانتخابات قياسا إلى المجموع الكلي للمؤهلين قانونيا ممن يحق لهم التصويت، وليس على معيار حاملي البطاقة الانتخابية البايومترية، فإن نسبة المشاركة في انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2023، هي الأدنى قياسا إلى جميع الانتخابات التي جرت في العراق منذ العام 2005. فقد بلغت نسبة المصوتين إلى العدد الكلي للناخبين 28.24% فقط. وحتى هذه النسبة يمكن أن تنخفض إلى حدود 26%، إذا ما استثنينا منها التصويت الخاص، حيث انتشرت عدة منشورات ومقاطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي، تفيد بأن أغلب منتسبي المؤسسات العسكرية والأمنية قد أُجبروا على المشاركة في التصويت، تحت طائلة التهديد بالمحاسبة من قياداتهم بحالة امتناعهم عن المشاركة في التصويت.

بحسب النتائج الرسمية الصادرة عن مفوضية الانتخابات في العام ،2021 حينما شارك الصدريون بالانتخابات المبكرة منفردين، فإن جمهور التيار الصدري بلغ قرابة 900 ألف صوت، ولو قدرنا أعداد الزيادة السكانية التي طرأت على الكتلة التصويتية خلال عامين بمقدار 50 ألف صوت، فان نسبة المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات 2023 لو شارك فيها الصدريون ستكون 46.72% بحسابات المفوضية "من حملة البطاقة البايومترية"، 32.42% بالحسابات الموضوعية "لمجموع من يحق لهم التصويت في الانتخابات"، أي أن غياب الصدريين عن الانتخابات المحلية أفقدها نسبة مشاركة تقدر بـ 5% فقط.

يمكن القول إن المقاطعة الشعبية الأعلى منذ العام 2005 والتي حصلت في انتخابات مجالس المحافظات العراقية 2023 لا تعود إلى قرار الخط الصدري بالمقاطعة، بل بسبب عزوف النسبة الأكبر ممن يحق لهم التصويت المؤهلين بموجب القانون عن استلام البطاقة البايومترية، مما أفقدهم القدرة على التصويت، يضاف إليهم المقاطعون من حملة البطاقة، لتكون المحصلة التي تمثل الكتلة التصويتية الأعلى التي جعلت الانتخابات المحلية الأخيرة تسجل النسبة الأدنى من المشاركة الشعبية.

يمكن تصنيف المقاطعين للعملية الانتخابية الأخيرة إلى أربعة أصناف: الأول هو الذي يمكن تسميته بـ"المُقاطِع المبدئي"، وهو الذي قرر المقاطعة إيماناً منه أن العملية الانتخابية غير مجدية ولن تسهم في تصحيح الواقع ولا تملك القدرة والآليات على تعديل أو قلب مجريات الحالة السياسية، وأن الحل لا يأتي من صناديق الاقتراع. أما الصنف الثاني فهو ما يمكن تسميته بـ"المُقاطِع المتردد" والذي لم يجد البرنامج الانتخابي ولا المرشح المُقنِع الذي يحفزه نحو المشاركة في العملية الانتخابية. والصنف الثالث والذي أفرزته هذه الانتخابات فهو "المُقاطِع المُوجَه" والذي بناءً على توجيه سياسي أو ديني قرر المقاطعة والعزوف عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ويمكن تصنيف جمهور التيار الصدري ضمن هذا النمط، وهناك صنف أخير يمكن وصفه بـ"المُقاطِع المُهمِل" الذي لا شأن له بالانتخابات ولا بالمرشحين ولا بالبرامج وليس معنياً بكافة تفصيلات الشأن السياسي العام والخاص.

قراءة في النتائج الأولية
تمثل نتائج العاصمة بغداد مفاجئة للنخبة والرأي العام، بعد حصول تحالف تقدم برئاسة محمد الحلبوسي على المركز الأول متقدما على ائتلاف دولة القانون وتحالف نبني بحصاد الأصوات رغم تساوي المقاعد، ويعود ذلك إلى سببين جوهريين الأول: هو مقاطعة الصدريين وهم يمثلون ثقلا تصويتيا في العاصمة أثر في التمثيل السياسي الشيعي بشكل خاص، وهو ما كان يحذر منه فواعل التمثيل قبيل الانتخابات. والثاني يعود إلى مشاركة مناطق حزام وغرب بغداد ذات الغالبية السنية في الانتخابات والتصويت لصالح الأحزاب والائتلافات السنية ككيانات تقدم والسيادة وعزم، والتي تمكنت من الحصول على 17 مقعدا من مجموع 44 مقعدا من غير "الكوتا"، أي ما نسبته 38.6% من مقاعد مجلس المحافظة، وهي النسبة الأعلى قياسا إلى الانتخابات المحلية السابقة.

تتقارب النتائج أيضا في محافظة ديالى، رغم الأغلبية التي تحققت للتمثيل السياسي السني بـ 8 مقاعد في مجلس المحافظة، بمقابل 6 للتمثيل السياسي الشيعي، وفوز الاتحاد الوطني الكردستاني PUK بمقعد واحد. يرجح أن تكون مرحلة تشكيل الحكومات المحلية في المحافظات المختلطة والتي لم يستطع طرف تحقيق الأغلبية فيها، معقدة للغاية، لاسيما إذا عمدت الأطراف المفاوضة إلى إقحام منصب رئيس مجلس النواب في مفاوضات تشكيل الحكومة المحلية، وربما يحسم أمر رئيس مجلس النواب لصالح الطرف الذي يقدم أكبر قدر من التنازلات في خيارات التصويت على منصب رئيس مجلس النواب وتسمية المحافظ ورئيس مجلس المحافظة.

أفرزت انتخابات محافظة كركوك بعد تجميدها لمدة 18 عاما، عن حصول الكيانات الكردية على 7 مقاعد، في مقابل 6 مقاعد للقوائم العربية، ومقعدان للتمثيل السياسي التركماني، مع مقعد "كوتا" للمسيحيين، من المتوقع جداً سيحصل عليه عرب كركوك أيضا. عدم حصول كيان على الأغلبية المطلوبة لتشكيل الحكومة المحلية منفردا وتسمية المحافظ، يجعل حسم المنصب الأول أسير التوافق السياسي بين مكونات كركوك، مع ترجيح توافق التركمان مع العرب بدعم من بغداد، التي قد يكون تدخلها السياسي حاسما لإبقاء منصب المحافظ بإدارة عرب كركوك، كما هو معمول به حاليا، مع فرصة منح التركمان منصب رئيس مجلس المحافظة.

لوحظ في نتائج انتخابات كركوك تراجع التمثيل السياسي التركماني إلى مقعدين بعد أن كانوا يشكلون الثلث في المجالس السابقة وبالتالي كانوا أكثر تأثيرا وحضورا في معادلة السلطة المحلية، وهذا إذ يؤشر جنوح مرشحي التركمان نحو الاستقطاب الحزبي أو المذهبي، أكثر من الميل نحو الاستقطاب القومي الذي كان يحدد توجه الساسة والناخبين التركمان تجاه برامج ومصالح سياسية محددة.

لم تستطع جهة بعينها تحقيق أغلبية في مجلسي محافظتي صلاح الدين ونينوى، وسيكون التفاوض حتميا بين الكيانات صاحبة الثقل الأعلى، مع محاولة كسب وترضية الكتل الصغيرة ذات المقعد والمقعدين لإكمال النصاب، ولعل الحزب الديمقراطي الكردستاني في نينوى سيكون بيضة القبان بين التمثيل السياسي السني والشيعي المتنافسين على منصب المحافظ ورئيس مجلس المحافظة، لكون أن الكرد حققوا في النتائج الأولية 4 مقاعد وجاؤوا في المركز الثاني ضمن الأحزاب والائتلافات الفائزة بعضوية المجلس.

اكتسح تحالف تقدم والقوى الأخرى المتحالفة معه أغلبية مقاعد مجلس محافظة الانبار بحصولها على 12 مقعدا من مجموع 16، وبذلك سيشكل محمد الحلبوسي الحكومة المحلية بالكامل ويسمي المحافظ ورئيس مجلس المحافظة دون الحاجة إلى توافق سياسي مع الكتل المحافظة الأخرى. وعلى مستوى العراق حقق حزب السيادة بزعامة خميس الخنجر منفردا على 14 مقعدا، وهو ما يجعله الفائز الأول على مستوى الأحزاب وليس التحالفات في هذه الانتخابات، مع احتساب أربعة مقاعد أخرى ضمن تحالفات له مع قوى القيادة والمجلس العربي في محافظة كركوك.

حصلت قوائم المحافظين في البصرة وواسط وكربلاء على أكبر عدد مقاعد في مجلس محافظاتهم قد يؤهلهم لتشكيل الحكومات المحلية دون توافق مع قوائم أخرى، متقدمين على الإطار التنسيقي الشيعي، المتمثل بقوائم "دولة القانون" و"نبني" و"تحالف قوى الدولة الوطنية" (العبادي-الحكيم) وقائمة "ابشر يا عراق" (المجلس الإسلامي الأعلى) و"الأساس"، التي حققت العدد الأكبر من المقاعد في محافظات الوسط والجنوب (باستثناء البصرة وواسط وكربلاء) بسبب مقاطعة الصدريين للانتخابات، وهذا يعني تمكنها من تشكيل الحكومات المحلية بأغلبية توافقية تشبه إلى حد كبير تشكيلة الإطار التنسيقي في الحكومة الاتحادية. لابد من الإشارة إلى أن تحالف قوى الدولة الوطنية برئاسة العبادي-الحكيم تمكن من حصد 21 إلى 22 مقعدا، وهو تقدم مهم قياسا لما تحقق في انتخابات مجلس النواب المبكرة عام 2021. ويمكن القول أيضا أن خطة ائتلاف دولة القانون بدخوله منفردا في الانتخابات المحلية قد حققت نتائج مرضية بحصوله على 26 مقعدا في جميع المحافظات.

تمثل النتائج التي حصل عليها تحالف نبني الذي يجمع أغلب الأقوى السياسية- المسلحة في الإطار التنسيقي، نكسة كبيرة في المحافظات التي خاضوا فيها الانتخابات، فقد حققوا مجتمعين على 43 مقعدا فقط، برغم غياب الصدريين عن هذه الانتخابات.

لم تحقق الائتلافات والأحزاب الناشئة التي رفعت لافتات تشرين وشعارات "الدولة المدنية" نتائج ملفتة في انتخابات مجالس المحافظات، بل أن بعضها تراجعت نتائجه عما تحقق في انتخابات 2021 النيابية، حيث يمكن اعتبار تحالف "الأساس" الذي يتزعمه نائب رئيس مجلس النواب الحالي محسن المندلاوي (هو مدني ولكنه قريب جداً من قوى الإطار التنسيقي الشيعي)، وتحالف "قيم" الذي يضم الشيوعيين ومجموعة من المدنيين والشباب الجدد الذين نشأوا عن ساحات الاحتجاجات، بالإضافة إلى تحالف "بابليون" برئاسة ريان الكلداني (مسيحي ولكنه متحالف مع قوى الاطار التنسيقي الشيعي)، أبرز الخاسرين في الانتخابات المحلية.

إن الهزيمة النسبية التي مُنيَت بها الأحزاب التقليدية ومن يمثلهم من محافظين ورؤساء حكومات سابقين ووزراء حاليين، وخسارتهم محافظات مهمة كالبصرة وواسط، والأغلبية العددية في بغداد وديالى، تثبت أن لا جدوى من المقاطعة الجزئية، وأن المشاركة المسؤولة في الانتخابات يمكنها تغيير معادلة السلطة والتمثيل السياسي، والعراق لا يخلو من الأقوياء الأمناء المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة.

أفرزت الانتخابات المحلية في العراق 2023 شخصيات وأحزابا منافسة للأحزاب التقليدية ولاسيما في المحافظات الوسطى والجنوبية، وأبرزهم شغلوا مناصب المحافظين في المرحلة السابقة يمكن وصفهم بأنهم كانوا "محافظين خدميين" كسبوا ثقة الناخب وانشغلوا بمشاريع المحافظة، أكثر من كونهم "محافظين سياسيين" قضوا وقتهم برئاسة أحزاب والمشاركة في الفعاليات السياسية ببغداد، استطاعوا ولاسيما محافظ البصرة والانبار وواسط وكربلاء تحقيق نتائج في المجالس المحلية قد تتيح لهم تشكيل الحكومة المحلية، هؤلاء سيكون لهم شأن كبير في الانتخابات النيابية المقبلة، والتي ستكون إلى حد كبير مشابهة في نتائجها للانتخابات المحلية.
هل تتأثر شرعية النتائج بالمقاطعة الشعبية؟
تعتبر الشرعية من المفاهيم الرئيسة في علم السياسة بوصفها شكلا من أشكال القبول العام للنظام السياسي وفعالياته المختلفة، وكونها موافقة نسبية من أغلبية الشعب إلى نظام معين، ليكون قادرا على ممارسة سلطة ما من أجل تحقيق مصالح الدولة. وهنا يتشكل مبدأ القبول كأساس لشرعية أي نظام، ومهما تمتع النظام السياسي بالقوة والسلطة فإنه دون رضا شعبي ضمن أطر قانونية ودستورية يعتبر سلطة استبدادية مهتزة الشرعية.

يمثل قرار مقاطعة الانتخابات شعبيا، أولى علامات مأزق النظام السياسي في العراق منذ تشكله، وما وصل إليه قبيل انتخابات مجالس المحافظات في منتصف ديسمبر 2023، هو ذروة فشل فواعل السلطة في إدارة الدولة والنظام، وإقناع الرأي العام المُقاطع بضرورة المشاركة في قرار تبادل السلطة وتحديد خيار من يتولى زمام السلطات، وهذا ما يفتح جدلاً واسعاً حول جدوى الانتخابات بشكل عام، والذي صار من البديهيات أن الانتخابات سواء أكانت نيابية أم محلية، فهي ليست حلا لمشكلات البلاد، وإنما عادة ما تعيد إنتاج أزمة النظام من جديد في ظل استمرار مؤشرات فشل المنظومة الاقتصادية وضعف المنظومة التشريعية، وخروقات المنظومة الأمنية وتقاطعاتها المعقدة.

يشكّل الإقبال المنخفض على التصويت مؤشراً واضحا لحالة الاستياء الشعبي والمقاطعة الجماهيرية المتنامية للانتخابات في العراق. فمنذ عام 2003 تراجع الإقبال على التصويت مع مرور كلّ جولة انتخابات محلية أو نيابية. ففي العام 2005 صوّتت نسبة 80% من الناخبين العراقيين المؤهّلين "حسب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" مما عُدَّ حينها نجاحاً باهراً للعملية الديمقراطية الناشئة، بيد أن هذه النسبة انخفضت إلى نحو 60% " حسب مصادر رسمية" في خلال جولتَي الانتخابات النيابية في العامَين 2010 و2014، ثم تدهورت إلى 45% "حسب الأرقام الرسمية المعلنة" في العام 2018، بينما أعلنت نسبة المشاركة في الانتخابات المبكرة للعام 2021 "رسمياً" بحدود 40%. أما في الانتخابات المحلية فقد بلغت نسب المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات في عامي 2009 و2013 قرابة 50%، أما نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية للعام 2023 كما ذكر في سياق المقال فإنها بلغت 41% كما أعلنته المفوضية.

يدور مع كل انتخابات جدل شعبي حول قرار المقاطعة الجماهيرية وتداعياتها على شرعية الانتخابات، وتطرح اسئلة حول اعتراف المجتمع الدولي والنظام الإقليمي بحكومة تفرزها انتخابات بنسب مشاركة متدنية، وإلى أي درجة تضعف المقاطعة الشعبية الحكومة المحلية ومجالس المحافظات داخليا وخارجيا؟

لم ترد في الدستور مادة أو في قانون الانتخابات بندٌ يشير إلى نسبة مشاركة جماهيرية محددة للمصوتين في الانتخابات، لمنح حكومة اتحادية أو سلطة محلية الشرعيةَ السياسية، وإذا ما نقصت هذه النسبة فإن الحكومة فاقدة للشرعية ولا يمكن منحها ثقة البرلمان أو مجلس المحافظة، وبذلك فإن التشكيك بشرعية حكومة بناءً على نسب المشاركة الجماهيرية المتدنية أمر غير وارد ومنطقي، لافتقار الأطروحة إلى سند قانوني.

وعلى الرغم من غياب نص دستوري أو تشريع قانوني صريح حول نسب المشاركة في الانتخابات التي تمنح نتائجها الشرعية، ولكن يمكن القول إن الحكومة التي تنشأ من مشاركة شعبية ضئيلة تعتبر حكومة ضعيفة التمثيل الجماهيري، ولا يمكن اعتبارها حكومة مستقرة تعمل في بيئة سليمة. ويمكن هنا التذكير أن حكومة عادل عبد المهدي 2018 كانت أول حكومة تنتج عن مقاطعة شعبية كبيرة، وقد

انهارت بعد عام من تشكيلها بسبب الاضطرابات التي نشأت آنذاك وما عُرف باحتجاجات تشرين، وكذلك حكومة مصطفى الكاظمي البديلة واليوم حكومة محمد شياع السوداني التي جاءت نتاج الانتخابات المبكرة. فأثبتت الحكومات الثلاث الأخيرة أطروحة مهمة: أن الحكومة التي تنشأ عن نتائج انتخابات شهدت عزوفا جماهيريا كبيرا ستحظى بالشرعية الدستورية، ولكنها ستفتقر إلى الشرعية التمثيلية الجماهيرية، الأمر الذي يرجح بقاءها في حالة ارتباك وتذبذب حتى تنتهي دورتها باضطراب مستمر أو يُدعى إلى انتخابات مبكرة.