كركوك.. آفاق الأزمة وسبل الحل

تتميز مدينة كركوك العراقية بتنوع فريد من مختلف القوميات والأديان والطوائف منذ مئات السنين في أجواء من التسامح والتعايش السلمي بما يمثل أنموذجاً مصغراً للعراق. وكركوك ليست أول منطقة تتعرض لنزاع ذي طابع عرقي بين مجتمعاتها المختلفة، فعلى مر التاريخ الحديث والمعاصر تمت تسوية الخلافات حول الأقاليم المختلطة عرقيا في مختلف أنحاء العالم، من خلال الحوار والمفاوضات التي تتمخض عن هياكل جديدة لإدارة وحكم تلك المناطق المتنوعة عرقياً، ووضع سياسات تشجع على الاندماج وتفادي الاحتكاكات بين المكونات المختلفة لسكان تلك المناطق.
تمثل كركوك واحدة من أهم القضايا التي لم تجد طريقها للحل في عراق ما بعد 2003، وهي تجسد النزاعات حول مفهوم وطريقة تطبيق الفيدرالية، وبخاصة ما يتعلق بالحدود والأمن وتقسيم موارد النفط والغاز وطبيعة العلاقة بين إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد، وسوف يكون من الصعب تحديد الوضع النهائي لكركوك ما لم تتم تسوية الخلافات السياسية والقانونية والدستورية بشأن هذه القضايا، حيث أن هناك فشلا مستمرا على مستوى هياكل الدولة ومؤسساتها المختلفة في تسوية هذه المشاكل التي تغذي النزاع في كركوك.
كركوك كان لها النصيب الأكبر من التوترات السياسية والأمنية والمجتمعية التي تعكس طبيعة الأوضاع في العراق بشكل عام طوال السنوات الـ 20 الماضية. فلم تشهد هذه المدينة الاستقرار منذ العام 2003، فبعد الاحتلال الأمريكي للعراق أصبحت محافظة كركوك من أهم المحافظات العراقية، فهي محافظة غنية اقتصاديا بمواردها الطبيعية وبأراضيها الزراعية وبموقعها المتميز على طرق المواصلات. ومن جهة أخرى فإن كركوك تحولت إلى مسرح لنزاع مزمن بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد. حيث أن محافظة كركوك لم تكن تحت سيطرة الأكراد قبل 2003، ولكنها أصبحت تحت الإدارة الكردية بعد الاحتلال الأمريكي ضمن ترتيبات واتفاقات "المناطق المتنازع عليها". إضافة لذلك فأن كركوك في أحيان كثيرة تصبح ساحةً للنزاعات الإقليمية والدولية أيضاً. لقد أحدثت هذه النزاعات اختلالا مؤثراً في التعايش السلمي الذي كانت تتمتع به جميع المكونات القومية والدينية في كركوك قبل 2003.
كان يُفترض أن يكون دستور 2005 الوثيقة السياسية التي تعلو على الصراع الهوياتي الذي يتناقض مع مبدأ هوية الدولة، لكنه على العكس من ذلك شرعن لحالة الصراع المزمنة على هوية مناطق تتنوع فيها قوميات وأديان ومذاهب، ليس في كركوك فحسب بل في أي منطقة يمكن أن يحصل فيها إشكال طائفي أو قومي. ولابد من التذكير أن معضلة كركوك ولدت مع صفقة إدارة السلطة للفاعلين الشيعي والكردي اللذين اتفقا على وصف كركوك وغيرها من المناطق المحاذية لإقليم كردستان بـ"المناطق المتنازع عليها" مما أسس لحتمية الصراع الهوياتي في المدينة.
بدأت شرارة الأزمة الأخيرة في كركوك بعد قرار عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى مقاره في المدينة، بموجب البرنامج الحكومي المنصوص عليه في ورقة الاتفاق السياسي لتحالف إدارة الدولة، مما يعني استئناف نشاطه السياسي والاستعداد للانتخابات المحلية، ما جعل الأحداث تتسارع وتأخذ طابعاً عنفياً جرّاء دخول فصائل مسلحة على خط الأزمة ونزول أنصارها إلى الشارع أسفر عن تفاعل الأزمة وتصاعدها.
لفتت أزمة كركوك الأنظار إلى حالة انقسام بيني عميق في مختلف مكونات الحياة السياسية في كركوك وبغداد وإقليم كردستان، فبالإضافة إلى انكشاف خلافات أطراف الائتلاف الحاكم "إدارة الدولة" إزاء تنفيذ ورقة الاتفاق السياسي، إلا أن العرب السنة بدو منقسمين تجاه التعامل مع الأزمة، بين القيادة السياسية التي وقعت اتفاق عودة مقرات الحزب الديمقراطي وترى أن عودة الحزب لمزاولة نشاطه السياسي قبيل الانتخابات حق مشروع، وواجهات عشائرية في كركوك ترفض العودة بل ذهبت إلى الطعن والتخوين لمن وقع بند عودة المقرات الكردية إلى كركوك.
أزمة كركوك رسخت أيضا خلافات البيت الكردي ما بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، فلم يكن لحزب الاتحاد الوطني أي رد فعل تجاه منع الديمقراطي الكردستاني من افتتاح مقره أو الصِدام مع كوادره في المدينة، والتي أسفرت عن مقتل شخصين وإصابة العشرات، على الرغم أن مقر الحزبين الكرديين يقعان في شارع واحد، مما يزيد من فجوة الثقة ما بين الطرفين وانعكاساتها في بغداد والإقليم.
بدا الموقف السياسي التركماني موحدا تجاه أزمة كركوك الأخيرة، وأغلب فعالياته صرحت باعتراضها على عودة الحزب الديمقراطي لمقره الرئيس في المدينة، والذي تشغله حالياً قيادة العمليات التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة المركزية ببغداد. وهي بذلك تتفق مع أغلب عرب كركوك والحكومة الاتحادية في بغداد على ضرورة أن يتم الاتفاق على صيغة حل النزاع حول هذا المقر، قبيل استئناف الحزب الديمقراطي الكردستاني لفعالياته السياسية داخل كركوك.
يبدو أن الخلاف الأخير لا يرتبط باتفاق تسليم جميع مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك والبالغة 33 مقرا، وإنما يتركز حول قرار اعادة تسليم المقر الرئيسي للحزب الديمقراطي الكردستاني في كركوك، الذي كان الحزب يتخذه مقرا له وللتشكيلات الأمنية التابعة له، والذي أثار حفيظة بقية مكونات المدينة مما تدور حوله من شبهات اعتقال وإجراءات أمنية ارتكبت ضد سكان كركوك إبان قبيل استعادة المدينة في 2017. لذلك فإن ضمان استئناف نشاط الحزب الديمقراطي في مقراته ربما يتحقق مع اتفاق يمنع عودة قوات البيشمركة والأمن الكردي (الأسايش) مع افتتاح المقر الرئيسي، ليكون ذلك مطمئنا لسكان المدينة من العرب والتركمان، بأن الإشكالات الأمنية لن تعود مجددا بعد استقرار شبه تام للمدينة.
هناك انقسام غير معلن في أحزاب الإطار التنسيقي تجاه التعامل مع أحداث كركوك الأخيرة، بين أطراف ترى أن توقيت افتعال أزمة مع أربيل غير مناسب بسبب قرب انتخابات مجالس المحافظات ووساطات حل أزمة تصدير النفط عبر الإقليم وما له تداعيات على وحدة تحالف إدارة الدولة المُشكل للحكومة. وأطراف أخرى ترى أنها فرصة لإضعاف أربيل في الحياة السياسية عامة، وترسيخ معادلة تمثيل سياسي جديدة في كركوك تجعلها أكثر قربا للسليمانية. وهذا ما يؤكد غياب رؤية وطنية جمعية لكل أطراف السلطة لحل معضلة كركوك وإيجاد تسوية ترسخ أنموذج الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي فيها.
تداركت السلطات الاتحادية الأزمة بحظر التجوال وإجراء اتصالات سياسية رفيعة المستوى بهدف التهدئة، لكن ذلك لا يتعدى الهدنة التي قد تُخرق في أي لحظة نظرا لوجود الفصائل المسلحة التي أظهرت رغبة حقيقية في مواجهة الحزب الديمقراطي الكردستاني. يمكن القول إن حكومة محمد شياع السوداني بدت مرتبكة في إدارتها لأزمة كركوك وحجب سلاح الفصائل عن الشارع، حين لم تشرع حتى اللحظة بتقديم مبادرة سياسية لإطلاق حوار حول المدينة ومستقبلها قبيل الانتخابات المحلية أو العامة، الأمر الذي قد يضع كركوك على حافة التصعيد مرة أخرى.
دخلت المحكمة الاتحادية على خط أزمة كركوك حين أصدرت أمراً ولائياً "قابلا للتمييز" يقضي بإيقاف إجراءات تسليم مقر العمليات المشتركة للحزب الديمقراطي في محافظة كركوك، في إجراء أثار تساؤلات عن اختصاص المحكمة الفيدرالية في النظر في قضايا تتعلق بالبرنامج الحكومي أو الاتفاقات السياسية، الأمر الذي فاقم الأزمة بين بغداد وأربيل.
مثل قرار المحكمة الاتحادية فرصة لحكومة السوداني وائتلاف إدارة الدولة لكسب الوقت ومحاولة حل
الأزمة الأخيرة حول مقر الحزب الديمقراطي، وإقناع الحزب باستبدال المقر الرئيسي بآخر كتسوية للمشكلة ومنع تفاقمها قبيل موعد الانتخابات المحلية المتوقعة نهاية العام الجاري.
أزمة كركوك، وغيرها من الأزمات، تمثل نتيجة طبيعية لمنظومة حكم تعتمد الاتفاقات السياسية وتجعلها في منزلة تعلو على منزلة الدستور؛ فعلى الرغم من حضور مفردة "الاحتكام إلى الدستور" في كل مناسبة أو أزمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق، لكنّها حاضرة في خطابات السياسيين فقط.
لا توجد مصلحة سياسية من تهميش طرف في كركوك يمكنه تمثيل جماعة عرقية في الحكومة المحلية، فالتمثيل العادل للمكونات يمكن أن يفتح باب الحوار والتفاوض لمبادرات تؤسس للحوار بين جميع الأطراف اعتمادا على إرادة الناخب. أما القوى التي يمثل وجودها في كركوك أمراً طارئا فمن واجب الحكومة حثها على مغادرة المحافظة نظرا للحساسية القومية وحفاظا على خصوصية المدينة.
لم يستطع عرق من الأعراق الثلاث في كركوك والتي تمثل الأغلبية الساحقة للسكان من أثبات أغلبيته في المدينة، وعليه فإنه من غير المرجح قيام أي تسوية تسهل هيمنة طرف على المدينة ومكوناتها العرقية والدينية. فيمكن القول مع التسليم بواقع استمرارية الأزمة، أن الحل الأمثل لتجاوز التحديات في كركوك هو تقاسم السلطة على مستويات الإدارة والأمن والاقتصاد مع وجود ضامن محلي وإقليمي ودولي لاتفاق تقاسم السلطة، لاسيما إذا كانت آليات التقاسم المأمول تسمح بالمشاركة الفاعلة لجميع الفئات في الحكومة وتحمي مصالح التمثيل السياسي والعرقي والديني وتعزز التمثيل النسبي لهم، وتهمش المتطرفين وفواعل الأزمة في المدينة.
إن مستقبل العراق يتوقف على إيجاد حل لمشكلة كركوك وبشكل مقبول لجميع الأطراف، وإذا لم يكن هناك جانب راغب أو قادر على تقديم تنازلات بشأن كركوك فإن القضية سيكون مقدر لها الانتهاء بحرب أهلية جديدة.