تغييرات المؤسسة الدينية تكشف توجهاً جديداً لنظام الأسد

في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني، أصدر بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 28 حول تعديلات في المجلس العلمي الفقهي ونقلاً لبعض صلاحيات المفتي العام للجمهورية إلى المجلس مع تعديل هيكليته. وأتى هذا المرسوم بعد بيان رسمي للمجلس في الحادي عشر من تشرين الثاني رفض فيه تصريحات سابقة للمفتي العام أحمد بدرالدين حسون وتفسيره لآية قرآنية في عزاء المطرب السوري صباح فخري. وهاجم البيان، الذي لم يسمّ الحسون، تفسير القرآن بحسب الأهواء، مشبّهاً هذه الأفعال بما يصدر عن من سماهم "التكفيريّون" من تفسير خاطئ للقرآن الكريم. ولهذا البيان أهمية كبيرة لكونه يحمل للمرة الأولى، نقداً علنياً من المؤسسة الدينية للمفتي العام للجمهورية بالإضافة إلى أن المرسوم الجديد الذي يمهد لواقع جديد يغير دور وهيكلية المؤسسة الدينية في سوريا بشكل جذري.[1]

يُعد منصب المفتي العام للجمهورية أعلى سلطة فقهية دينية في سوريا منذ الاستقلال حتى الآن، وهذا المنصب الذي بقي حكراً على شيوخ الطائفة السنية التي ينتمي لها غالبية الشعب السوري، يتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية منذ إقرار الدستور عام 1973 بعد أن كان اختيار المفتي انتخاباً من قبل مجلس الإفتاء التابع لوزارة الأوقاف. وتاريخياً، شغل منصب المفتي عدة شيوخ من دمشق كان آخرهم الشيخ أحمد كفتارو الذي تم اختياره في منصب المفتي عام 1964 وبقي في منصبه حتى وفاته عام 2002 ليعين بعدها بشار الأسد الشيخ أحمد حسون في منصب المفتي. وينحدر أحمد بدرالدين حسون من عائلة دينية معروفة في مدينة حلب، وشغل منصب مفتي حلب، وكان عضواً في مجلس في الشعب قبل أن تعيينه بمنصب المفتي العام في عام 2004. ولكن هذا التعيين أثار استغراباً وتشكيكاً في أوساط الطبقة الدينية في سوريا حول أهليته لشغل هذا المنصب، فحسون حاصل على الدكتوراة باللغة العربية من جامعة الأزهر وليس بالعلوم الإسلامية أو الفقه، كما أنه لا يتمتع بشعبية عالية حتى في مدينته حلب مقارنة بشيوخ آخرين تخطت شهرتهم سوريا مثل سلفه الشيخ أحمد كفتارو أو سعيد رمضان البوطي وغيرهم. ومع بداية الانتفاضة في سوريا عام 2011، اتخذ الشيخ حسون موقفاً مؤيداً للنظام ومهاجماً للمتظاهرين في الوقت الذي بدأ فيه عدد من علماء الدين بانتقاد النظام علانيةً ومغادرة سوريا مثل الشيخ كريم راجح والشيخ أحمد راتب النابلسي والشيخ سارية الرفاعي. وزادت تصريحات حسون الهجومية وغير المنضبطة من فقدانه للمزيد من شعبيته، مثل رفضه القاطع لأي انتقاد لأفراد الجيش ووصفه للمؤسسة العسكرية أنها معصومة عن الخطأ أو تهديده علانية للدول الغربية بقوله إن هنالك استشهاديين مستعدين لشن هجمات انتحارية داخل الدول في حال شنها حربا على سوريا.[2] وتَوّج حسون تصريحاته مؤخراً بتفسيره الغريب لسورة التين والزيتون على أنها خريطة سوريا وأن جهنم هي مصير من خرج من سوريا. 

مرسوم المجلس العلمي الفقهي وأثره على المؤسسة الدينية
على الرغم من تأسيس المجلس العلمي الفقهي عام 2018، إلا إن المجلس لم يظهر للعلن إلا عند إصدار بيانه الرافض لتصريحات المفتي، كما أن وزارة الأوقاف لم تعلن أسماء الأعضاء أو قرارات المجلس حتى جاء المرسوم 28 الذي وسع صلاحيات وأعضاء المجلس. بحسب المرسوم، فإن المجلس يتألف من 44 عضواً ويرأسه وزير الأوقاف ويضم ثلاثين عالماً يمثلون جميع المذاهب الإسلامية بالإضافة إلى خمس سيّدات من عالمات القرآن الكريم وعدد من الأعضاء يمثلون الأئمة الشباب وكليات الشريعة ومعاوني الوزير والقاضي الشرعي، إضافة إلى ممثلين عن الطوائف المسيحية، ويتم اتخاذ قرارات المجلس بالإجماع أو بالغالبية. كما أن المرسوم الجديد ألغى منصب المفتي العام ومنصب مفتي المحافظات وألحق جميع اختصاصات المفتي المتعلقة بإصدار الفتاوى بالمجلس.[3]

هذا المجلس الذي من المتوقع أن يظهر للعلن بشكل أكبر في المستقبل يمكن اعتباره تتويجاً لتغييرات كبيرة في المنظومة الدينية بشكل عام والسنية في سوريا في السنوات العشر الأخيرة. تاريخياً، اقترنت المشيخة أو القيادة الدينية لطائفة السنية في سوريا، منذ بداية الاحتلال الفرنسي حتى بداية حكم حافظ الأسد، بطبقة من رجال الدين من مدارس فقهية مختلفة يجمعهم بشكل عام الإرث الصوفي للدولة العثمانية. هذه الطبقة من رجال الدين تحالفت مع الطبقة البرجوازية الحضرية في المدن السورية مثل دمشق، حلب، حمص وحماة، نتج عنها سلطة خفية استطاعت الصمود، على الرغم من صعود الأيدولوجيا الحزبية وما تلاها من انقلابات عسكرية. ومع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، استطاع تطويع هذا التحالف للإبقاء على الدعم الشعبي لحكمه من خلال إضعاف وإبعاد رجال الدين أصحاب المواقف والأفكار المعارضة لأيدولوجيا حزب البعث أو معادية للأقليات الدينية مثل محمد سرور زين العابدين ومحمد ناصر الألباني ودعم الشيوخ المهتمين بالتعليم الديني ونشر الأخلاق الدينية بعيداً عن أي أيدولوجيا تعارض السلطة الحاكمة. وبعد احتلال العراق، سمح النظام لشيوخ محسوبين على الدعوة السلفية بالخطابة في سوريا، بل وحتى تجنيد المقاتلين للقتال ضد القوات الأمريكية في العراق. وهذا أدى إلى ظهور تنافس مستمر بين رجال الدين وشيوخ الطرق الصوفية للوصول إلى أكبر عدد من المواطنين الذين يحضرون الخطب الدينية. جاءت بداية الثورة السورية ولم تعد طبقة رجال الدين تدين بالولاء للنظام، حيث بدأ العديد من الشيوخ والعلماء بالابتعاد عن النظام والانضمام إلى صفوف الثورة ومن بعدها فصائل المعارضة المسلحة وحتى تنظيم داعش، بينما ضعف تأثير رجال الدين الذين بقوا مؤيدين للنظام لعدة أسباب منها وفاة بعض رجال الدين ومحدودية شعبية رجال الدين الذين ورثوا قيادة الطرق الدينية التقليدية. هذا الضعف دفع النظام إلى استخدام استراتيجية جديدة للتعامل مع السلطة الدينية في سوريا، حيث أعادت أجهزة الأمن بالتعاون مع وزارة الأوقاف تشكيل طبقة جديدة من رجال الدين مهمتهم حشد الدعم للنظام في حربه ضد المعارضة ودفع البروباغندا الإعلامية حول "المؤامرة ضد سوريا" بحسب تعبير النظام.[4] كما قام النظام بمأسسة الشبكات الدينية مثل استخدامه لجماعة القبيسيات، وهي مبادرة دعوية دينية منتشرة داخل نساء الطبقة الوسطى والغنية في دمشق وريفها، من خلال إعطائهم المزيد من الحرية في العمل الدعوي.[5] كما استعان النظام بالشيوخ في مفاوضات مع فصائل المعارضة المحلية للتوصل إلى اتفاقات تهدئة ومصالحة مثل الشيخ بسام ضفدع في الغوطة الشرقية والمفتي محمد الأفيوني في ريف دمشق. ولذلك، فإن تأسيس هذا المجلس ما هو إلا استمرار في مأسسة السلطة الدينية والدعوية في سوريا وربطها بخطة توحيد العمل الديني لصالح دفع بروباغندا النظام، بالإضافة إلى تخفيف التنافس بين رجال الدين من خلال تمثيل كل جماعة داخل المجلس دون تمييز مع إلغاء مناصب المفتي العام ومفتي المحافظة.

وعلى الصعيد الأخر، فإن آثار تأسيس المجلس وزيادة صلاحياته تتخطى الطائفة السنية لتشمل باقي الطوائف، فالمرسوم يعطي للمرة الأولى تمثيلاً صريحاً للطوائف الإسلامية مثل العلوية والإسماعيلية والشيعية والدرزية داخل مؤسسات الدولة منذ تأسيسها. ولطالما بقيت القيادة الدينية للطوائف الإسلامية، مبهمة وغير معروفة للسوريين من جميع الطوائف حيث لا تعرض وسائل الأعلام الرسمية أو غير الرسمية احتفالات الطوائف الأخرى ويغيب رجال الدين عن شاشات التلفاز. على سبيل المثال، بقيت أسماء رجال الدين من الطائفة العلوية والشيعية غير معروفة لشريحة واسعة من السوريين أو عن ولاء الطائفة الشيعية في سوريا للمرجعية في النجف أو في قُم. والسبب ليس حقداً طائفياً من عامة الشعب لكن بسبب سياسة نظام الأسد بإبقاء الهوية الطائفية في حدودها الدنيا لكن هذه السياسة بدأت بالتغير في الفترة الأخيرة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. إلا أنه مع تعيين رجال دين من الطوائف يبرز أيضاً عدة قضايا مهمة قد تمثل زلزالاً لبنية الطوائف. فقد تشهد هذه الطوائف تنافساً داخلياً بين رجال الدين للوصول إلى المجلس، على سبيل المثال، هنالك شبه انقسام في القيادة الدينية للطائفة الدرزية بين شيخ العقل حكمت الهجري وشيخي مقام عين الزمان يوسف جربوع وحمود الحناوي.[6] كما أن سياسة النظام في التعيينات الإدارية المختلفة قائمة بالدرجة الأولى على الولاء للنظام، وأيضاً على توازنات اجتماعية وطائفية وبالتالي ستؤثر على اختيارات أعضاء المجلس. كما أن التنافس الدائم التاريخي بين الأجهزة الأمنية ولاحقاً زاد عليه التنافس الروسي-الإيراني قد يلعب دوراً حاسماً في إذكاء التنافس حول عضوية المجلس.

كل هذه العوامل تضع قدراً كبيراً من الأهمية للمجلس العلمي الفقهي وأثره على السلطة الدينية في المستقبل. كما تضع أيضاً مزيداً من الأسئلة حول مآلات طبقة رجال الدين السُنة التقليديين ودورهم المستقبلي في الدولة والمجتمع وحول ما إذا سيعطي المجلس دوراً أكبر لرجال الدين من الطوائف الأخرى. لكن بالنظر إلى سياسة النظام الديكتاتورية والقبضة الحديدية حول جميع مفاصل الدولة والمجتمع منذ عام 1970 والتي ازدادت بعد بداية الثورة السورية، لا يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة تخلي نظام الأسد عن مركزيته الشديدة أو توجهاً علمانياً جديداً. بل تكيف النظام مع التحديات التي فرضتها الثورة السورية والتغييرات التي طرأت على طبقة رجال الدين وعلاقتهم بالشعب، وبالتالي محاولة التعاطي مع الأزمة بطريقة مختلفة.


[1] الجزيرة، الرئيس السوري يلغي منصب مفتي الجمهورية، 16 تشرين الثاني 2021

[4] ليلى الرفاعي، المؤسسة الدينية السنّية في دمشق: حين يؤدّي التوحيد إلى التقسيم، مركز مالكوم كير-كارنيغي، 29 حزيران 2020

[5] رفاييل لوفيفير،صعود الأخوات السوريات، مركز كارنيغي، 25 نيسان 2013

[6] مازن عزي، دروز السويداء: جمر الفتنة، الجمهورية، 22 أيلول 2015